قصة قصيرة: انتفاضة دارفور ضد النميري ١٩٨١م رفضًا لتعيينه حاكما لدارفور من خارج الإقليم : بقلم / ابوبكر القاضي :

١- السردية التي سوف اتناولها بالتحليل بهدف ابراز مواطن الجمال في ادب الصنغي في هذا المقال هي من انتاج الاستاذ/ عبد الحسيب الشريف عبدالله ، هي قصة قصيرة كتبها بلغة صنغي (عن طريق تسجيل صوتي) علي الواتساب وتتكون من ثلاث مقاطع علي النحو التالي
( قلتها .. وكبيت عليها موية.. ولبست جزمتي ومشيت) .
الاخ عبد الحسيب وضع لسرديته اعلاه خلفية هامة ومفسرة لها .. هي حكمة الفيلسوف نيتشه التي تقول في خلاصتها : ( منذ القدم والناس لا تعاقب الا من يقول الحقيقة ، اذا أردت البقاء مع الناس شاركها اوهامها ، الحقيقة يقولها من يرقبون في الرحيل.) انتهي كلام نيتشه.
وحكمة نيتشه هذه تفسر الضماير في سردية الاخ عبد الحسيب .. فتصبح (قلتها تعني الحقيقة) .. وكبيت عليها موية تعني (طمبجتها حتي طفح الكيل .. اي لدرجة الطوفان) .. وعبارة (لبست حذائي ومشيت ترمز للرحيل) .
مفردات سردية الاخ عبد الحسيب كلها تحدي .. ومليئة بالثورة والتمرد .. مما يجعل السردية فكرية سياسية.. لها قابلية عالية لصناعة التغيير.

٢- استلهاما لسردية الاخ عبد الحسيب الشريف أعلاه ، كتبت القصة القصيرة أدناه وهي بعنوان: انتفاضة دارفور ضد النميري رفضًا لتعيين حاكم اقليم من خارج دارفور: الأقصوصة هي مجاراة لسردية الأستاذ عبد الحسيب الشريف الواردة بالفقرة (١) أعلاه ، مجاراة ادبية من حيث المضمون نقوم فيها (بإلإضافة/ب التفريغ / وإعادة التركيب) .. وذلك بهدف التعبير عن ذات مضمون سردية الاخ عبد الحسيب الواردة بالفقرة (١) اعلاه دون (مسخها) .. والهدف بالقطع ليس المنافسة الهدامة.. كلا وحاشا .. وإنما بهدف الاعتراف له بالفضل في الهامي لكتابة هذه الأقصوصة فله عظيم امتناني. .. نريد انتاج تراكم ادبي فكري جماعي ينشط العقول .. ويلهم الاخرين، وأمل ان تشتمل الاقصوصة علي معاني إضافية بحيث تقبل بمقاييس النقد الادبي كعمل اقرب الي الابداع .. واولي محاولات الإضافة هي إضافة فقرة رابعة لسردية الاخ عبد الحسيب بلغة صنغي : ( saago nay asay: Ni fella ga ساغو ني اسي : ني فيلًا غا .. نمبا نمبا نمشي / nimbaa nimsi . وتعني بالثقافة العربية.. (ترجمة المعني العام وليس ترجمة حرفية : (فرد عليه الخلاء : سوف تدفع الثمن غاليًا.. سوف تندم).. هذا هو الرد المناسب من السلطان وزبانيته علي عبارات التحدي والتمرد التي اطلقتها سردية عبد الحسيب.ملحوظة: في ثقافة صنغي لدينا اعتقاد بان الخلاء ناصح امين او مكان مناسب لمراجعة الذات.. فنقول للانسان المخطئ بلغة صنغي ما ترجمته : (اذهب الي خلاء احمر وراجع نفسك) .. من هنا استلهمت شخصية ( الخلاء اعلاه) في الفقرة الرابعة التي أضفتها لسردية حسيب . فالي قصتنا القصيرة التي نجاري فيها سردية الاخ عبد الحسيب:
قصة قصيرة: انتفاضة دارفور ضد النميري ١٩٨١ بسبب تعيينه حاكم اقليم غير دارفوري :

طاف الطالب النجيب (الشفيع ) حول سوق الفاشر.. واشتري شنطة حديد متوسطة الحجم ، خضراء اللون ، وذلك إستعدادا للسفر للخرطوم للالتحاق بجامعة الخرطوم بعد ان سمع كل الاهل إسمه بالكامل (الشفيع احمد محمد) من خلال اذاعة هنا امدرمان. كان ذلك في منتصف السبعينيات من القرن العشرين المنصرم.
بعد العشاء الأخير قبيل السفر للخرطوم جلس الشفيع مع الاسرة في شكل سهرة وداع ، فانتهز والده الفرصة لينصح ابنه الشفيع بالتركيز علي دراسته مع الابتعاد عن السياسة ، وكانت حكومة مايو قد فرغت لتوها من إفشال إنقلاب الجبهة الوطنية بقيادة الشهيد محمد نور سعد ، وقامت بدفن الجنود (وغالبيتهم العظمى من دارفور) في مقابر جماعية بدون محاكمات عادلة.. ووصفتهم بانهم مرتزقة ، مع انهم سودانيون جلهم من دارفور ! نصح الوالد ابنه الشفيع من خلال ثقافة دارفور قائلًا: يا ولدي (اهلنا في دارفور يقولون هذا المثل : منو بقول أم السلطان عزبا ؟) .. ( يعني منو بقول كلام يزعل السلطان ؟ منو بقدر بيقول لا للنميري؟ يا ولدي النميري ده انت ما قدره .. النميري ده ضرب الجزيرة ابا وود نوباوي وقتل الإمام الهادي وكمان قتل الشيوعيين واخيرا دفن جيش الجبهة الوطنية في الحزام الاخضر.. الحين يا ولدي تمشي الجامعة تركز بس علي قرايتك عشان تتخرج بسرعة .. نحن محتاجين لك .. انت ولد شاطر الحمد لله.. السياسة والكورة والحاجات الفارغة دي بتاعت الناس الفارغين . في الصباح حمل الشفيع شنطة الحديد وودع اسرته فذكره والده قائلًا.. لا تنس وصيتي .. شوف دراستك بس .. نحن محتاجين لك .
ركب الشفيع البص مع زمالاته البرالمة/ اي الطلاب الجدد في الجامعة ، حتي نيالا ، ومنها بالقطار حتي الخرطوم . . ونزل بداخليات البركس مع طلاب الصف الاول علوم ، وبعد نهاية السنة الاولي تم توزيعه في كلية البطرة وهي الكلية التي تخرج (اطباء الحيونات) .. وفي دارفور الطبيب البيطري مقيًم أكثر من الطبيب البشري.. لان المال (الانعام هي التي تعطي الانسان قيمة) .. والقرآن قدم الجهاد بالمال علي الجهاد بالنفس .
في الجامعة انضم الشفيع للاتجاه الإسلامي.. وعند عودة الشفيع للاجازة لاحظ والده إلتزام ولده الصارم بالصلاة بالمسجد لاسيما صلاة الفجر ،وصيام الايام البيض (الإثنين والخميس) وعلم ان ابنه الشفيع قد إنضم لتنظيم الأخوان المسلمين ولكنه سكت ولم يناقش ابنه . . ربما لان سلوكه الظاهري مطابق للقيم التي يؤمن بها الوالد نفسه.. وقد شجعه على الصمت والتغاضي اجتماع السفينة في بورتسودان بين النميري والصادق المهدي الذي تمخض عنه اتفاق الجبهة الوطنية مع النميري المشهور ب (المصالحة الوطنية) ومشاركة الترابي في سلطة مايو .
طبق نظام مايو الحكم الإقليمي عام ١٩٨١ فعين النميري (الطيب المرضي الذي كان محافظًا لدارفور الكبرى ، ثم حاكمًا مكلفًا ، ثم حاكمًا رسميًا لأقليم دارفور عام ١٩٨١ . استفز هذا التعيين ضمير إنسان دارفور.. وراي فيه اهانة لاهل دارفور ترقي الي القول (ليس فيهم رجل رشيد) . هذه الانتفاضة تنسب للعقل الجمعي لانسان دارفور.. ربما كان الإسلاميون من ابناء دارفور كانوا الأكثر تنظيمًا ، كان د. الشفيع احمد محمد احد قادتها .. ومن اهم قادتها في الفاشر المرحوم التجاني سراج ، وادم جماع آدم ، وفي نيلا كان أبرز قائد هو داود يحي بولاد . (لطفا احيل الى شهادة ادم جماع ادم حاكم كسلا احد قادة الانتفاضة بصحيفة الانتباهة بتاريخ الخامس من أغسطس ٢٠١٧ . فقد تضمنت هذه الشهادة بيانًا تفصيليًا بقادة الانتفاضة في مدن دارفور الكبرى آنذاك) من الإسلاميين وغيرهم من التجار مثلا . شهد الأستاذ آدم جماع بان الطيب المرضي كان من انجح الإداريين الذين مروا على دارفور .. وأن الانتفاضة لم تكن ضده شخصيًا.. وانما كانت ضد مبدأ تعيين حاكم للإقليم من خارج دارفور .. كان انسان دارفور يري ان الحاكم يجب ان يكون من دارفور اسوة بالاقليم الاخري .. بل إنه الإقليم الأولي بحكم نفسه لإنه كان دولة مستقلة لمئات السنين يحكمها سلاطينها .

ادرك النميري (الذي يرفض التحدي) ان هذه الثورة تعبر عن ارادة انسان دارفور بعيدا عن مزاج ساسة أحزاب الخرطوم وأمدرمان.. فتراجع النميري على قاعدة نظام مايو : (الثورة تراجع ولا تتراجع ) .. فقدم الطيب المرضي استقالته وعين النميري الراحل أحمد ابراهيم دريج . الطريف ان الضمير الدارفوري كله (بما فيهم والد دكتور الشفيع ) كان راضيًا عن هذه الانتفاضة التي تحدي فيها إنسان دارفور جبروت النميري وقال (لا للسلطان/النميري في تحدي واضح .. رغم ان اي انسان في دارفور يدرك جيدًا مغزى المثل (منو بقول ام السلطان عزباء ؟).
بعد أكثر من اربعين سنة راي دكتور الشفيع والده المرحوم في رؤية منامية يقول له : (قول لاحفادي (اولادك )نفس النصيحة التي قلتها لك زمان عشية سفرك للجامعة لأول مرة .. كان نسيتها بذكرك : ( منو بقول آم السلطان عزباء ؟!!) .. اي من الذي يقول الحقيقة للسلطان ؟ من الذي يستطيع ان يتحدى السلطان ؟ ) نصيحة والد دكتور الشفيع الاولي والثانية لها سند من الواقع ومن التاريخ ومن الفقه الإسلامي.. فتاريخ دارفور الحديث خلال عشرين سنةً فقط يؤكد ذلك .. لقد رفع الشهيد داود يحي بولاد راية المقاومة المسلحة في وقت مبكر من عمر الإنقاذ فكان مصيره الاستشهاد.. وبعد حوالي عقد واحد من استشهاد بولاد اندلعت الثوره مجددًا في دارفور ضد نظام الإنقاذ عام ٢٠٠٣ وكانت نتيجتها استشهاد حوالي نصف مليون نفس مؤمنة من حملة السلاح علي رأس قائمتهم الشهيد دكتور خليل ابراهيم محمد ، ومن المدنيين رجالًا ونساء وأطفالا في أسوأ إبادة جماعية عرفتها البشرية في القرن الواحد والعشرين!! وقد خلصت مدرسة اهل السنة والجماعة (ومنهم أنصار السنة المحمدية) – بعد ان شاهدوا قتل المعارضين منذ الخلافة الراشدة مرورًا بالعصر الاموي والعباسي ، وخلصوا الي الافتاء بعدم مقاومة سلطان الأمر الواقع مادام لم يمنعنا من الصلاة والصيام.. بحجة ان الفتنة التي تنتج عن مقاتلة السلطان كبيرة وأثارها مدمرة للدولة الاسلامية وبيضة الإسلام.. وشاهدنا ان (قولة الحق) لها ثمن باهظ .. ولا يجرؤ علي الجهر بها الا الأبطال .. والابطال موجودون في كل الازمان والي يوم القيامة.. نعم بطش السلطان مخيف .. حين أعدم نظام الانقاذ ٢٨ ضابطا بدون محاكمات عادلة توقفت الانقلابات العسكرية داخل الجيش (انقلابات الرفاهية) .. ولكن المقاومة في جنوب السودان وجبال النوبة لم تتوقف.. بل امتدت الى اقليم دارفور وانتجت مئات الالاف من المتمردين علي شاكلة د جون غرانق .
حرية التعبير والفكر والضمير وكافة قيم حقوق الانسان المضمنة في الإعلان العالمي لحقوق الانسان والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والمدنية والاجتماعية والسياسية ، هذه الحقوق كلها بكل اسف لا زالت حبرًا علي ورق حتي في امريكا ، فهي حقوق الانسان الابيض .. صحيح ان أوروبا قد قطعت شوطا كبيرا في مجال حرية التعبير ، وصار من حق اي انسان ان يقول لا لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.. وينظم مظاهرة.. وان يرمي البيض الفاسد علي الحكام. ان حكامنا في إفريقيا والعالم العربي ليسوا على استعداد لمنح شعوبهم حتي الحقوق المضمنة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان وهي حقوق غير مكلفة ماليًا ، مثل حرية التعبير والصحافة والنشر .. توطين حقوق الانسان خاصة تلك المضمنة ميثاق حقوق الانسان الافريقي تقتضي ان تكون الشعوب الافريقية حية .. من حسن الطالع ان شعب رواندا الذي شهد الإبادة الجماعية عام ١٩٩٤ قد عبر اليوم وصار يشار اليه بالبنان في مجال التنمية المستدامة وحقوق الانسان.. فما الذي يمنع شعوب الهامش السوداني التي ذاقت الويل من (طائرة الانتينوف ) ان تعبر مثل شعب رواند ؟! توطين حقوق الانسان يقتضي ان تكون هناك شعوب حية مولعة بالحرية والعدالة و علي استعداد دائم لتقول (ام السلطان عزباء) ..وعلى استعداد لتحمل عواقب غضبة السلطان.. فالسلطان المستبد (ثور غير مروض .. ولكنه قابل ) .. نعم قابل ليكون خادمًا للشعب وليس جلادًا فاسدا يسرق حليب الأطفال !
أبوبكر القاضي
ويلز
ديسمبر ٢٠٢٢

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *