استهداف مواقف حيدر ابراهيم أم مركزه؟

صلاح شعيب
[email protected]
 
ترى ما الذي حوج الحكومة إلى تعطيل نشاط مركز الدراسات السودانية اثني عشر شهرا حسوما؟. أهو ثمة خوف من مستحقات الاستنارة، أم أن المسألة لتتجاوز كل التخمينات لتبدو تهديدا مبطنا لكل المنظمات المماثلة، والتي أتى بها إلى الداخل مناخ ما سمي بالتحول الديموقراطي بعد توقيع نيفاشا؟ أم أن الأمر هو أصلاً محاكمة رديئة بلا استئناف للدور الوطني الذي ما فتئ الدكتور حيدر إبراهيم علي يقوم به عبر مركزه الذي أصدر مئات الكتب، وعقد السمنارات المعنية بضروب الحياة السودانية، وعبر مقالته التنويرية، وأوراق العمل المهمومة بمناقشة المعضلات الأساسية التي تواجه أمة بلاده المكلومة في كل أوجه الحياة؟
أيا يكن السبب فإن مراكز الدراسات، عموما، لا تشكل تهديدا للأمن القومي. إنها، بالعكس، غير فائدتها العلمية الملموسة على المستوى الإستراتيجي من خلال أفكار المختصين الثقاة، فإنها تمنح، أيضا، أجهزة الاستخبارات العلم بشأن الآخر، مجانا وليس خصما من ميزانية الأمن التي تقضم نسبة ثمانين من المئة من الوارد إلى وزارة المالية!
وبالنسبة للتشريعيين والتنفيذيين فإن هذه المراكز تحيطهم برؤى تحديثية لحملة الدكتوراة والماجستير المعارضين ولعل رهطا منهم أهل يسار واستقلال. إنها إذن مراكز إشعاع تنور الحكوميين كذلك بوسائط الندوات، وحلقات الدرس، والكتيبات، والمجلة الفصلية، وورش العمل. بل ويجد فيها كل أبن آدم ضالته من التعميق المعرفي الذي تحتضنه الدراسات الفكرية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، وهكذا دواليك.
الحري بتذكير الحكوميين هو أن مراكز الدراسات هي ما يعتمد عليها شخوص الأمن القومي ووزارتي الخارجية والداخلية، وغيرهم من المخططين الإستراتيجيين للاستهداء ببحوثها التي تسهل عليهم، ولا تعسر، مباصرة سياستهم الإنمائية للسواد الأعظم.
فالحكومات في (دول الكفر) مثلا تمنح هذه المراكز ميزانيات تفوق الملايين، كما أن دافعي الضرائب من أصحاب الشركات الكبيرة يقتطعون نسبة من أرباحهم لتذهب للدراسات المحكمة التي توظف في التخطيط لصالح تنمية الوعي في البلاد. أما في بلاد المسلمين فهذه المراكز تقدم للحاكم ما يريد سماعه، وإلا يسهل قفلها بالضبة والمفتاح وبالتالي يجد وزراء الإعلام التخريج المناسب الذي يبررون به بيانات تعطيل النشاط. وبسبب خلو ديارنا من الوعي بقيم المراكز الفكرية والثقافية تجد المسلمين في انحطاط فكري، وعلمي، وثقافي، ومن هنا فنحن لسنا بدعا في إتباع مراكزنا الحضارية التي لا تقيم وزنا للبحث، والترجمة، والتبادل الثقافي.
الإخوة الإسلاميون يدركون أهمية هذا النمط من عمل مراكز الدراسات، من ناحية. ولا أخال أنه يغيب عن الدكتور أحمد بلال هذا الإدراك، من الناحية الأخرى. وإذا غاب، وهو في سكرة السلطة، فلعل خلفيته كمعارض سابق للإنقاذ تجعله يتذكر قيمة البحوث العلمية التي تقدم من خلال هذه المراكز قبل أن يأتي مع وفد المقدمة بهدف “التوالي” مع الحكومة.
ولكن لأن الموضوع سياسي بحت ولا علاقة له بتأثير مركز الدراسات السودانية السلبي على أمننا القومي أو الثقافي فضل الوزير أن “يشيل وش القباحة” نيابة عن ملاك جنازة البحر. وللأسف، تحدث هذه اللزاجة الوزارية برغم أن الوزير القيادي ينتمي إلى حزب الأزهري الذي قال بأن “الحرية نار ونور ومن أراد نورها فليصطل بنارها”.
ثم أين هو الأمن القومي الذي يتمشدق به السيد الوزير وظهر بلادنا مشكوف للمجتمع الدولي حيث يقدل في رمالها وطينها ثلاثة وأربعين ألف شخص يمثلون ست وأربعين دولة. ومن بين هؤلاء الأشخاص من هم أخطر على الإنقاذ من الدكتور حيدر إبراهيم ولكن لا “فلاحة” للحكومة إلا فلاحة جز رؤوس الوطنين الذين يقولون لا لـ”الودار”.
لقد تشرفت يوما بالتعاون مع مركز الدراسات السودانية في القاهرة من خلال ورقة قدمتها في فاعلية الاحتفاء بسبعينية الراحل الطيب صالح. وتلك الفاعلية التي أقامها المركز بحضوره جمعت المئات من الباحثين الذين جاؤوا من شتى أنحاء العالم للاحتفال بالروائي الكبير تقديرا لإسهامه في حقل الثقافة السودانية والعالمية. ثم أدرت وحررت عددا من الندوات وشاركت بالنشر في مجلة كتابات السودانية. ومن هناك عرفت الدكتور حيدر إبراهيم كواحد من أميز المثقفين الذين أنجبتهم بلادنا وأكثرهم إسهاما في النشر الثقافي.
ولكونه كثيرا ما يتضايق من الشفاهة السودانية، والتي جاءت خصما على التدوين، فقد آل على نفسه أن يحمل هم التوثيق والتدوين معا إلى أن تمكن من إصدار مئات الكتب لمؤلفين سودانيين وغير سودانيين.
إن ما قدمه مركز الدراسات السودانية لم تقدمه حكومة الإنقاذ طوال مكوثها في السلطة في مجال التنوير الفكري.  ولعل هذا هو السبب الذي جعل السلطات تقدم غير مكرهة على إغلاق المركز لمدة عام.
والحقيقة أن أهل الإسلام السياسي ليس لديهم ما يقدمونه في مجال الأفكار التي تعالج قضايا المجتمع أو الإنسانية بخلاف الاصطدام مع المختلف السياسي والثقافي وعده حاجزا يحول دون تنفيذ برامجهم. ومن أين يستمد الإسلاموي الوعي بالآخر والاعتراف به ما دام أن الفكرة الإسلاموية خالية من إمكانية التثاقف مع الإبداع الفكري، أو الثقافي، أو الفني، أو النقدي، ذلك الذي يغاير نظرتها.
والدليل على ذلك هو عجز الإسلاميين إلى الآن عن البناء فوق المعطيات الثقافية السودانية، أو تجديد الفكر الديني، أو خدمة العرب في قضاياهم المحورية التي تبدأ من مشاكلهم الإقليمية، أو الخارجية. وللأسف أن الإسلاميين ما يزالون يؤمنون بسياسة حشد الناس كقطيع دون القناعة بأن هذا العصر مختلف. إذ إن السياسة فيه تعني التوافق مع الرأي العام على الحدود المتوسطة من البرنامج السياسي القائم على  التنازلات وليس الفرض القسري لبرنامج إقصائي.
إن قضايا الفكر والثقافة أدعى إلى الحل بالحوار والنقاش وليس بحسم السلطان، والجبروت، و”النبوت”. وإغلاق مركز الدراسات السودانية ليس هو الحل في وقت تخشى حكومتنا السنية سِناناً تقف وراء المد الشيعي الذي لديه مراكز وأنشطة في قلب الخرطوم. ثم لماذا الخوف من الفكر الشيعي أصلا، كما صرح الوزير السمؤال، وما الشئ القيمي الثمين الذي امتلكه هؤلاء الشريحة من السنيين حتى يخافهم بعض المذهبية الشيعية؟. وبالأحرى ماذا قدم فكر هذا النفر من السنيين والشيعة في المجتمعات التي تقنع به سواء في إيران أو السودان. أوليس الاستبداد هو عنوان كل المساهمات التي قدمها البلدان ليرى العالم نوعا من الإسلام، ذلك الذي جفف البلاد من ملايين العقول المبدعة، وصدر للعام جملة من الأزمات والكوارث الإنسانية؟
ومع كل هذه العقبات، فإن استنارة حيدر إبراهيم التي بذل حياته لتأسيسها صعبة التحقق إجمالا في ظروف الجهل الثقافي وليس من الغريب أن تواجه بهذا العسف، كما ووجه كثيرون من زملائه وقبله. ولكن تيار الزمن دائما ما يدفع هذه الاستنارة إلى بؤر العقل المعتمة، لا بسبب العقل السلفي فحسب وإنما أيضا بسبب تلك السنان المشرعة فوق رؤوس المفكرين، والأكاديميين، والحداثيين، وإصلاحيي الدين، وكل دافعي ضرائب وعشور التنوير.
والتحية للدكتور حيدر إبراهيم علي وهو يقدم نموذجا نادرا للمثقف الرسالي والقومي في وقت صمت فيه الكثيرون من المثقفين وفضلوا أن يكونوا من جمهور المشاهدين للمأساة دون أن ينبسوا ببنت شفة. والتحية له أيضا وهو يحارب الشفاهة ويتيح المجال للكتاب والمبدعين لطرح إنتاجهم الذي ضاقت به المواعين الإعلامية. والسؤال هو أين تضامن المئات من الكتاب الذين نشر لهم مدير مركز الدراسات السودانية وقدمهم للناس؟ ولماذا هذا الصمت الصفوي، أين بيانات الأحزاب المنددة بخطوة الأمن، بل أين غاص الضمير بينما منظمات المجتمع المدني الأخرى تحاصر وتغلق وتعرقل نشاطاتها؟ والسؤال الكبير أين بيان إتحاد الكتاب السودانيين؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *