لا يزال الامريكون والعالم يتذكرون المقولة المشهورة للرئيس الامريكي السابق جورج بوش عام 2002م، والتي وضع فيه ايران والعراق وكوريا الشمالية في خندق اول الأعداء عندما أطلق عليها تسمية “محور الشر”.
ويوم أمس الأول جدد خلفه باراك اوباما العقوبات على السودان بل ذهب الى ابعد من ذلك وقال عبارة فضفاضة تحمل في جوفها الكثير مفادها تحركات النظام السوداني وسياسته معادية لمصالح الولايات وتشكل تهديدا غير دائم وغير مألوف واستثنائيا على الأمن القومي والسياسة الأمريكية الخارجية. بيد ان الحكومة السودانية من جهتها اعتبرت ان خطوة تجديد العقوبات شيئاً روتينا باعتبار ان العقوبات تجدد سنويا قبل الثالث من نوفمبر من كل عام، مشيرة إلى أن خطوة التجديد روتينية أي أنها إذا لم تمدد تصبح ملغية كما قللت من الخطوة التى دفعت بها ادارة الرئيس بارك اوباما.
البعض اصبح يشبه العلاقات السودانية الامريكية بـ” لعبة البوكر” وهي من اشهر لعبات الورق –الكوتشينة- واكثرها شعبية فى الولايات المتحدة، والتى تتطلب قدرا عاليا من التركيز والتفكير السريع والتى تلعب في الكازينوهات والنوادي المتخصصة او على الانترنت، واستناداً لشعبيتها فإنه يتم في كل عام تنظيم مسابقة عالمية لها في لاس فيجاس وينال الفائز فيها اسورة ومكافأة مالية. ولذلك اذا كنت تملك اية خطط للمشاركة فى تلك المسابقات العالمية وتريد ربح كمية ضخمة من الاموال، فعليك وضع استراتيجية مخططة تخطيط عاليا. ليس فقط مجرد المعرفة العالية باللعبة، ولكن بتخطيط ناجح سوف يساعدك على ربح لعبة البوكر وكسب مخصص المراهنة، مما يتطلب وضع خطط تكتيكة وقدرا عاليا من الخديعة، ولعل منهج البوكر بات هو السائد في العلاقات بين واشنطون والخرطوم.
قرار متوقع
وقرر الرئيس الأمريكى باراك أوباما في ساعة متأخرة من ليلة امس الاول تجديد العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان سنة إضافية، بعد أسبوع من الكشف عن سياسة ضغوط جديدة وحوافز حيال الحكومة السودانية غير ان الامر في حد ذاته لم يكن مفاجئاً فالجميع يعي ان امريكا بعثت بمهددات قبيل اسبوع كانت قد تمحورت في اصول سياسة العصاء والجذرة التي هي اساس مصالحها الخارجية.
وقال أوباما، فى خطاب ألقاه فى الكونجرس، إن تحركات النظام السودانى وسياسته “معادية لمصالح الولايات المتحدة وتشكل تهديدا دائما وغير مألوف واستثنائيا للأمن القومى والسياسة الخارجية للولايات المتحدة”، موضحا أن العقوبات التى تحد من التجارة والاستثمارات الأمريكية بالسودان ترمى إلى منع تحول هذا البلد إلى “ملجأ آمن للإرهابيين”، وإلى التطبيق التام لاتفاق السلام الثانى الموقع من أجل إنهاء 22 عاما من الحرب الأهلية فى الجنوب.
وتفيد متابعات (السوداني) ان خطوات تمديد العقوبات تأتي عبر خطاب من الرئيس الامريكي الى مكتب مراقبة الاصول الاجنبية الامريكي لتجديد او اصدار العقوبات على الدولة المعنية.
خطوة روتينية
لكن الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية المستشار معاوية عثمان خالد قلل من تمديد العقوبات وقال انها اصبحت سمة متكررة وقال لـ(السوداني): “في اعتقادي ان القرار لم يكن مفاجئا بالنسبة لنا، مشيرا الى انه لم يحمل أي جديد بداخله” لكنه ابدى اسفه لصدور القرار وليس من شأنه دعم عملية السلام في السودان. واعتبر أن تمديد العقوبات لن يؤثر على الزيارة المرتقبة التي سيقوم بها المبعوث الامريكي الخاص الى السودان سكوت غرايشن الى السودان مطلع الاسبوع المقبل.
حقيبة غريشون
ومن المتوقع أن يطرح غريشون خلال زيارته القادمة للسودان العديد من الأفكار لتجاوز الخلافات المتصاعدة والمتزايدة بين شريكي اتفاق السلام الشامل المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، سيما العلاقات التي وصلا فيها لطريق مسدود وعلى رأسها (نتائج التعداد السكاني – قانون الاستفتاء وقانون جهاز الامن والمخابرات) والقضيتاتن الاخريتان ادخلتا الشريكين في حرب كلامية مستعرة كان ميدانها الرئيسي قبة البرلمان بانسحاب نواب الحركة من جلسات البرلمان وإشتراطهم وضع جدول زمني لمعالجة قضية تعديل القوانين والموافقة على تعيينات الحركة الشعبية البرلمانية والتي تشمل تعيين ممثليها في اللجان وفصل عدد من الاعضاء واستبدالهم بأعضاء جدد، ورغم انعقاد اجتماع بين الكتل البرلمانية امس وتشكيل لجنة رباعية لمناقشة هذه الخلافات لكن لا توجد تطورات للامام ملموسة حتى الآن، ولعل هذه القضية ومعالجتها ستحظى باهتمام غريشون خلال جولته القادمة.
سياسة جديدة
وكان أوباما قد أعلن في 19 أكتوبر الماضي عن سياسة تتسم بمزيد من الحزم حيال السودان، فشدد على العقوبات، وخصوصا إذا ما استمرت ما زعم انها ابادة جماعية في اقليم دارفور.
وقال مستشار رئيس الجمهورية د. مصطفى عثمان إسماعيل بعدها إن السودان “يرفض كليا الاستراتيجية الأمريكية بشكلها الحالى”، معترفا بأهمية علاقاته مع الولايات المتحدة، أما مستشار رئيس الجمهورية ومسؤول ملف الحوار مع الولايات المتحدة د.غازي صلاح الدين فقد أعلن فى مطلع الأسبوع الماضي أن السياسة الأمريكية الجديدة تتضمن “نقاطا إيجابية”، معتبرا فى الوقت نفسه أن استخدام تعبير “إبادة” غير مناسب.
وجاء تجديد العقوبات بعد أكثر من أسبوع من كشف البيت الأبيض عن سياسة جديدة في التعامل مع الحكومة السودانية، والتي ارتكزت على زيادة العمل المشترك مع السودان والتقليل من العزلة المفروضة على الخرطوم.
ويخضع السودان لعقوبات أمريكية جرى توسيعها على مراحل منذ نوفمبر عام 1997، وتضع واشنطن السودان في قائمة الدول الراعية للارهاب كما استهدفت عدداً من المسئولين السودانيين في تجميد للاصول وحظر للسفر.
وحذر اوباما في بيان مكتوب عقب إعلان تلك الإستراتيجية بقوله:”إن إدراكنا واهتمامنا بتحقيق السلم والأمن في المنطقة يجعلنا ندعو المجتمع الدولي للتعامل مع الموضوع بحس وبمسؤولية وبشكل سريع”، واضاف: “السودان سيقع في مزيد من الفوضى ان لم يكن هناك تحرك سريع” مضيفا أنه “سيجدد العقوبات على السودان هذا الأسبوع، وإذا تحركت حكومة السودان من أجل تحسين الوضع على الارض والعمل من أجل السلام ستكون هناك حوافز وان لم يحدث ذلك فسيكون هناك ضغط متزايد من جانب الولايات المتحدة والمجتمع الدولي”.
علاقات بالضغوط
واغلقت الولايات المتحدة الأمريكية سفارتها في الخرطوم في السادس من فبراير 1996م ونقلت العاملين بها إلي نيروبي بعد اتهام وسط تزايد المخاوف الأمنية. في أواخر يناير اتهمت الأمم المتحدة السودان بدعم الإرهاب وطالبت الخرطوم بتسليم المشتبه في قيامهم بمحاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995م، وفرضت واشنطون في نوفمبر 1997م عقوبات اقتصادية على السودان بزعم وجود صلات لها بالإرهاب.
وفي اغسطس 1998م قصفت الصواريخ الأمريكية مصنع الشفاء بالخرطوم بحرى على خلفية اتهام السودان بالتورط في هجوم على سفارتي الولايات المتحدة الامريكية بدار السلام ونيروبي، وقصف المصنع بسبب اتهامه بانتاج اسلحة كيميائية لها صلات بزعيم تنظيم القاعدة اسامة بن لادن.
وفي منتصف اغسطس 2000م اعلن السودان وجود محققين من مكتب التحقيقات الفيدرالي والاستخبارات الأمريكية بالبلاد منذ شهرين للتحقيق في الاتهامات الموجهة للحكومة السودانية بدعم الإرهاب، ولكن في اكتوبر من نفس العام عرقلت الولايات المتحدة ترشيح السودان لعضوية مجلس الأمن الدولي، وبعدها بشهرين قامت الحكومة السودانية بطرد القائم بالأعمال السياسية في السفارة الأمريكية بالخرطوم، جلن وارن، بعد لقائه بأعضاء سكرتارية التجمع المعارض بالداخل.
وبعد وصول الرئيس السابق جورج بوش والجمهوريين للبيت الأبيض ونسبة لتركيز الجمهوريين على ملفات اكثر تعقيدا وعلى رأسها ملف الحرب على الإرهاب، ونحوِ الإدارة الأمريكية لسياسة جديدة عقب ورشة العمل التي اقامها مركز الدراسات الإستراتيجية بواشنطون والذي اشار لأهمية لعب واشنطون دورا اكبر في تحقيق السلام بالسودان حيث تم تعيين القس جون دانفورث كمبعوث للرئيس الأمريكي بالسودان والذي مهد الطريق امام توقيع اتفاق السلام الشامل من خلال الاتفاق التجريبي بجبال النوبة الذي وقع في سويسرا اوائل عام 2002م.
واعادت الحكومة السودانية فتح سفارتها في واشنطون في ابريل 2001م وفي يوليو من نفس العام رفعت حظرها المفروض منذ عام 1998م لمنع زيارة المسئولين الأمريكيين بخلاف الدبلوماسيين. وفي سبتمبر اعلن الرئيس السابق جورج دبليو بوش عن مبادرة كبرى لانهاء الحرب الأهلية بالجنوب، ثم سارع السودان بإدانة احداث الحادى عشر من سبتمبر واعلن تأييده للحرب على الإرهاب.
ولكن في سبتمبر من ذات العام امتنعت واشنطون عن التصويت في قرار رفع العقوبات التي فرضتها الامم المتحدة على السودان منذ عام 1996م، وشهد فبراير من العام التالي أول زيارة لوزير الخارجية السوداني لواشنطون منذ تسعينيات القرن الماضي، لكن التقرير السنوي الذي تصدره وزارة الخارجية الأمريكية بشأن الإرهاب في اكتوبر يوجه صفعة عنيفة للسودان وإن أشاد بالتقدم الذي حققته.
ومع اقتراب شبح الحرب الامريكية ضد العراق في خلال الفترة من يناير- مارس 2003م بدأت الاجواء تتلبد بين البلدين، وفي مايو من ذات العام ادرجت الولايات المتحدة السودان ضمن قائمة الدول التي لا تتعاون بشكل كاف في الحرب على الإرهاب، وبعدها بأربع اشهر في سبتمبر جدد السودان مطالبته للحصول على تعويضات جراء القصف الأمريكي لمصنع الشفاء.
ونجد أن الدبلوماسية الامريكية لعبت دوراً محورياً في مباحثات السلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية حتي تم توقيع الاتفاق بشكله النهائي في يناير 2005م، إلا أن اشتعال الصراع في دارفور وتصاعده بطريقة غير متوقعة دفع العلاقات للتدهور مرة اخرى حينما ربطت واشنطون أي تطبيع لعلاقاتها مع الخرطوم بتحسن الاوضاع على الأرض في دارفور وتحقيق السلام بالاضافة لتنفيذ اتفاق السلام الشامل بكل تفاصيله.
… ألم نقل مسبقاً بأن منهج البوكر بات هو السائد في العلاقات بين واشنطون والخرطوم وتحتاج لوضع خطط تكتيكة وقدر عال من الخديعة!!!.
تقرير: بهاء الدين عيسي
[email protected]
السوداني