الأزمة الاقتصادية السودانية.. فليُسعِد النطق

و الساعة لا تأتي إلا بغتة

الأزمة الاقتصادية السودانية.. فليُسعِد النطق

عبد الله علي إبراهيم

يقول السودانيون “الملوية ما بتحل رقبتها”. ويعنون أنه إذا ما التف الحبل الذي يربط البهيمة إلى وتد وطوقها من كل جانب، وصارت وكأنها في مصيدة منه، احتاجت لمن يحلها لأنها لن تقوى على ذلك لوحدها.

وبدا لي أن دولة الإنقاذ بقيادة البشير في السودان صارت في عداد “الملوي” الذي لا فكاك له بنفسه من حرجه. ولو كان الإنقاذ نظاماً التوى على نفسه لهان الأمر، ولكنه نظام لا يرغب أن يرى الأنشوطة التي تكاد تطبق عليه فحسب، بل ولا الفرص التي توافرت له لفكفكة حبالها عنه. فقد سنحت له خلال الثلاثة شهور الأخيرة فرصتان كان بوسعه استثمارهما لينحل من عقده. ولم يهتبلهما لأنه، في مجاز سوداني ريفي آخر، “مقتولة لا تسمع الصائحة”.

كانت الفرصة الأولى هي تحرير هجليج من قبضة دولة جنوب السودان في أبريل/نيسان الماضي. فقد تداعى سودانيون كثيرون لدعم القوات المسلحة لاستعادة البلدة بوطنية خالصة لا تنسحب بالضرورة على دولة الرئيس البشير، ولكنهم أملوا أن تفتح الإنقاذ صفحة جديدة بمبادرة لصلح وطني يحفظ بيضة الوطن. ولكنهم رجعوا خائبين لما اتضح أن “الملوية” في حالها.

فغطى صراع المنافع في وزارة الاتصالات وشركاتها الخفية على توقع الناس أن تخرج الإنقاذ من مصيدة الحبال. وصب الرئيس البشير الماء البارد على حماسة الناس لصلح وطني حقيقي بتدخله الشخصي في نزاع بتلك الوزارة انتصر فيه لصالح مدير وكالة السودان للأنباء وفصل الوزير الاتحادي ووزيرة الدولة معاً. وعرف الناس أسبقيات الرئيس وتركوه قائماً.

أما الفرصة الثانية فهي إعلان الحكومة رسمياً إفلاسها في يونيو/حزيران الماضي بعد انهيار ميزانية 2012 التي بُنيت على توقع مورد أنابيب البترول من نفط جنوب السودان. ولم يجف ذلك المورد فحسب بل وقعت الحرب بين الدولتين فأتلفت حقولاً نفطية للسودان وبددت موارد شحيحة للطرفين.

واضطرت الحكومة لتعديل الميزانية لتستوعب هذه النازلات المالية. فرفع التعديل الدعم عن المحروقات من بنزين وجازولين. ثم أردفت ذلك أخيراً برفع الدعم عن الإمداد بالكهرباء مقدار 170% حتى تداركت الدولة الأمر أخيراً واستردت الدعم إلى حين دراسة الأمر من جوانبه كله. والعجلة في فرض تلك الزيادة المتوحشة ما يزال سراً في بئر.

أثار رفع دعم المحروقات مسألة من سيتحمل وزر إفلاس الدولة. ولم يكن الشعب بالطبع يتصور ألا يرشح شيء من ذلك الإفلاس على أوضاعه المالية المؤسفة أصلاً. ولكنه توقع أن تشف الحكومة فتظهر ندامة على بؤس عياستها للمال العام وتقتصد في الانفاق الحكومي. وسنحت بذلك لدولة الإنقاذ الفرصة، على كآبتها وشؤمها، لتردم الهوة بينها وبين الشعب وتفكك نفسها من الحبل الذي تطوى حولها. فكان بوسعها المبادرة بفتح حوار وطني حول الأزمة تأخر طويلاً ولم ييأس أولو العزم منه .

وكانت ستجد، متى فعلت ذلك، أن المخارج من الأزمة في السياسة لا في الاقتصاد. فعائدها من وقف الحرب التي تدور في “الجنوب الجديد وولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان (25 مليون دولاراً يومياً)، ودافور كفيل بوقف نزيف موارد الدولة بأعجل ما تيسر، في عبارة مشهورة للسيد الصادق المهدي.

كان من رأي الناس أن حل الأزمة مالياً (وبمعزل عن المخرج السياسي الذي ألمحنا له) يكمن في أن تقتصد الدولة في الانفاق الحكومي من أربعة وجوه كدرت عليهم دائماً وبدت لهم كسفه غير مغتفر في سياسة المال العام. وهذه الوجوه هي:

أولاً: تضخم أعداد الدستوريين وإسرافهم في التمتع بالمخصصات. فقد صار التوزير وظيفة من وظائف تحالفات الحكومة المختلفة وخادماً لها حتى فاضت الوزارة وأربت. فبعد الانتخابات في 2 أبريل/نيسان 2010 تكون مجلس الوزراء من 31 وزيراً و42 وزير دولة.

وبرغم نذر الأزمة المالية اللائحة بعد انفصال الجنوب الوشيك احتفظت الوزارة في يوليو/تموز 2010 بنفس تكوينها تقريباً: 31 وزيراً و53 وزير دولة. وطلباً للتقشف في يوليو/تموز المنصرم صار الوزراء 26 وزيراً و11 وزير دولة. وليس العدد هو وحده ما أزعج الناس في الوزارة بل فيض الامتيازات الموقوفة لها. وبلغ من رتوع الدستوريين في السيارات مثلاً (سيارة للوزير وأخرى للزوجة وثالثة وربما رابعة لترحيل الأطفال والخدمة) أن هددهم وزير المالية مرة بـ”سيارة واحدة” لو عجبكم. ناهيك عن العطلات مدفوعة القيمة في الخارج والداخل وبدل الضيافة وبدل السكن وبدل اللبس ومخصص الأعياد والعلاج بالداخل والخارج.

ثانياً: وقف “تجنيب” المال العام. والمفهوم حادث في ولاية المال العام. ويعني أن تستأثر وزارات السطوة مثل الدفاع والأمن والداخلية بأموال معلومة مثل موارد الشركات الكثيرة الغامضة التي تعمل في نطاقها، و”تجنبها”، أي تضعها في حسابات خاصة بها في البنوك تصرف منها غير مأذونة من وزارة المالية.

ومن أوضح الأمثلة على ذلك مال مخالفات المرور التي تُجبى بغير أورنيك 15 المالي الذي هو وسيط كمال داخل على الدولة. فالتجنيب، في قول اقتصادي، حل لوزارة المالية وتفريق لشغلها على عدد آخر من الوزارات. وتغض وزارة المالية الطرف السياسي عن هذه الممارسة لعجزها عن توفير ما ترغب تلك الوزارات السلطانية في الصرف منه على نفسها في الميزانية السنوية.

وأكبر منصرف لمال التجنيب هو دعم دخول القوى النظامية بستة أضعاف في أدنى مستوياتها. وبلغ من إسراف الدولة في التجنيب أن قال الأستاذ عبد الرحيم حمدي، وزير مالية سابق في دولة الإنقاذ، إنه لو كفت الدولة عن تجنيب المال العام لما احتاجت لرفع الدعم عن المحروقات. فالدولة تجنب 5.7 مليارات جنيه بينما ستجني 1.3 مليار جنيه من رفع الدعم عن المحروقات.

ثالثاً: “تخسيس” أو تقليص هيكل الدولة. فلم يعد ذلك الهيكل يتشكل ليخدم الوظائف المعروفة ويحسنها بل لترضية حلفاء اليوم خصماء الأمس. فمنذ قريب جرى تقسيم إقليم دارفور إلى أربع ولايات بدلاً عن ثلاث لكسب سياسي ما. وقاد هذا التقسيم إلى خرق للديمقراطية. فقد وجد والي جنوب دارفور المنتخب نفسه “منقولاً” إلى ولاية شرق دارفور الجديدة، وكان أشرف له الاستقالة ففعل.

رابعاً: وقف تعيين الكادر الوطني بالتعاقد الخاص الذي يكاد يتمنى فيها “الخبير الوطني”، كما يسمونه، ما يكون عليه مرتبه وامتيازاته. وهذه الممارسة “انقلاب” على نظم الخدمة المدنية لأهل الحظوة. وهي عقود مضرب مثل في سفه المال. ولا حاجة لها.

فوزارة المالية مثلاً تتعاقد مع بعض هؤلاء الخبراء بينما تحيل إلى المعاش طاقماً خدم فيها بكفاءة وبشروط عادية. وفحص المراجع العام بعض العقود فرأى عجباً. فالحكومة متعاقدة مع مدير لشركة نكرة منذ 1999 براتب شهري قدره 32 ألف جنيه وهو أكثر بكثير من راتب رئيس الجمهورية ونائبه ومساعده، ويُمنح تذاكر سفر له ولأسرته اشترط أن تكون للندن بالذات، وله بدل إجازة ماهية (مرتب) شهرين، ويُمنح بدل سكنه 1500 جنيه شهرياً وله عربة وسائق وصيانة سيارة ووقود، وعلاجه وأسرته على الدولة بالداخل أو الخارج، وتتحمل المؤسسة ضرائب المرتب والبدل والحافز وأي مخصصات أخرى، ولا يدفع سوى الزكاة للدولة، ومتى استعفى كان له مرتب ثلاثة شهور عن كل سنة خدمة. ولما رأى المدير عظم المال الذي سيكسبه متى أنهى عقده بعد عشر سنوات خدمة فعل واستلم حقوقه. ثم جدد العقد وواصل العمل منعماً.

لم تمتثل الحكومة لهذه النداءات التي اقترحت أن تتحمل الحكومة وزر الإفلاس، ولاقت مطالب خفض الإنفاق الحكومي بطريقين هما الامتعاض ثم الالتفاف حولها. فمن جهة الامتعاض بخست الحكومة فكرة تلافي الأزمة بخفض الإنفاق. فقال السيد أمين حسن عمر، مستشار بالقصر الجمهوري، إن حديث التقشف حديث مزايدات لا قيمة له. فتقليص 30 وزيراً مثلاً لن يؤثر في الإنفاق لتواضع مرتباتهم ومخصصاتهم. وزاد بأن فكرة تقليص هيكل الدولة لتوفير موارد لمواجهة الأزمة لا طائل منها. وقال بجفاء شديد إن رفع الدعم عن المحروقات بالعلن أو السر هو الحل.

وهذه صراحة الإنقاذ. فقد كان بوسعها أن تخادع وتقول إن كل شيء على ما يرام ثم تأمر بنك السودان بطبع النقود ثم تقع الكارثة. وزاد: هل هذا الخداع صعب علينا؟ وأضاف أن على الشعب أن يقبل أو يرفض فتوفر له الحكومة انتخابات يأتي بمن يرتضيه. كما قلل الأستاذ علي عثمان، نائب رئيس الجمهورية، من أي خفض يأتي من تقليل عدد الدستوريين (527 في الجملة). وقال إن للمعارضين أرقاماً غير واقعية حول منصرفات الدستوريين، وكذلك يبالغون في مال التجنيب. ويرأس علي عثمان لجنة لدراسة التجنيب، ووعد أمام البرلمان ببيان دقيق بمرتبات الدستوريين ومخصصاتهم من أعلى رئيس الجمهورية إلى أدناهم ليرى الناس فساد بدائل المعارضة.

هذا من جهة إسعاد النطق. أما من جهة تغيير الحال فالمؤسف أن الناس فهمت أن الحكومة الممتعضة لن تؤتمن حتى على القدر الذي تواضعت على قبوله لخفض الإنفاق الحكومي. وآيس الناس أن رئيس الجهورية عين مستشاراً له لمجمع الفقه الإسلامي وحبر قراراته عن التخفيض لم يجف. ولم يكن بحاجة لتعيينه بينما في القصر مستشار للتأصيل من علماء الدين. كما لم تلتزم ولاية الخرطوم بالتخفيض فزادت وزيراً وعينت معتمداً برئاسة الولاية بغير حاجة بوجود نائب الوالي ومدير تنفيذي للولاية بها.

أما القول الفصل في التفاف الحكومة حول خفض الإنفاق الحكومي فهو ما جاء في بيان أخير للحزب الشيوعي. وبدا لي منه أن الحكومة تحسبت لسوء سمعة التجنيب فقررت أن تعوض وزارات السطوة عنه مباشرة في ميزانية 2012 المعدلة التي قصدت استدراك نسختها الأولى المنهارة لنفس العام. فزاد الإنفاق في قطاع الدفاع والأمن والشرطة من 7.5 مليارات جنيه إلى 8 مليارات. وزاد الإنفاق على القطاع السيادي من 1.15 مليار إلى 1.36 مليار جنيه. كما زاد بند شراء السلع والخدمات بنسبة 12% في قطاع الدفاع والأمن والشرطة 5.6 في القطاع السيادي.

أما ما قلصته الحكومة حقاً فهو منصرف التعليم والصحة والتنمية بنسبة 51%. بل لجأت الحكومة أخيراً إلى تجنيب مخصصات وهمية لا حاجة للحكومة لها أصلاً. مثلاً: خصصت الميزانية المنهارة لعام 2012 مبلغ 100 مليون جنيه للانتخابات والعام ليس عام انتخابات، وبدلاً عن إلغاء هذا البند الطائش في الميزانية المعدلة زادته ليصبح 353 مليون جنيه. وستجنب وزارات السطوة هذا المال ويظهر كأنه صرف لغرضه الأصلي الوهمي.

لم تعد حاجة الإنقاذ لمخلص لها من اكتناف الحبال تحتاج لغير النظر المجرد، فقد صدع بالفكرة أخيراً الأستاذ علي عبد الرحيم علي، من الإسلاميين، في مقال حسن العبارة والحيثيات، فاقترح أن تنسحب الإنقاذ من الحكومة خلال فترة انتقالية تقوم عليها القوات المسلحة بالنظر إلى هشاشة أمن السودان. وستعود الإنقاذ في صورة حزبها المؤتمر الوطني لتنافس غيرها في انتخابات حرة. هذا.. أو تأتيهم الساعة بغتة.

http://www.aljazeera.net/pointofview/pages/3ce4c374-8c39-4a53-a557-dc7a20d0aab4?GoogleStatID=1

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *