صناعة الحلول تحت الضغط : الاتفاق النفطى بين السودانين نموذجا

بقلم : عثمان نواي

رحب المجتمع الدولى بالاتفاق النفطى الذى حدث مؤخرا بين دولتى السودان , وعده المراقبون خرقا فى الوضع المتأزم بين الدولتين , خاصة فى خضم حالة التصعيد السياسى والعسكرى المتوالى بين الدولتين والذى خشى المجتمع الدولى من ان يشعل حربا جديدة فى المنطقة تزيد من ماساة مواطنى السودانين  . وجاء التوقيع على الاتفاق النفطى فى اقل من 72 ساعة من زيارة وزيرة الخارجية الامريكية هيلارى كلينتون لدولة جنوب السودان وعقدها محادثات مع سلفاكير , والاسعار المعلنة والتى قبلت بها وبصورة مفاجئة حكومة السودان , تبدو مريحة نسبيا لدولة الجنوب , ولكنها تمثل تنازلا يربو على 70% من مطلب الخرطوم الاساسى بنقل النفط ب 36 دولار للبرميل , حيث وافق السودان على سعر 9 دولارات فقط لنقل النفط السودانى ومعالجته , وبالتالى فان التنازل الكبير من قبل النظام السودانى عن السعر الذى كان يعد خياليا من معظم الخبراء , يبدو انه تم فى اطار صفقة مهمة للنظام الحاكم فى الخرطوم , وتؤثر على مصالحه اكثر من سعر النفط . وما تردد فى الايام التالية للاتفاق من تهنئة هيلارى كلينتون لسلفاكير بصورة خاصة على الاتفاق ووصف ما فعله ” بانه شجاعة كبيرة فى اتخاذ القرار” , يرتبط بتقارير صحفية تلت تهنئة كلينتون الملغومة , حيث تواترت الانباء عن رسالة اعتذار من سلفا الى اوباما بسبب انكار رئيس دولة الجنوب رعاية بلاده للحركات المسلحة التى تقاتل الخرطوم فى جنوب كردفان ودارفور والنيل الازرق , حيث كان سلفاكير قد انكر مرتين فى مكالمة هاتفية مع اوباما ومرة اخرى فى لقاء مباشر , انكر دعمه للحركات المسلحة الشمالية .

 

وطبيعة الاتفاق السريع والضغوطات الكبيرة على دولة جنوب السودان التى عبر عنها المفاوض عن الجنوب باقان بوضوح , حيث عبر عن اسفه للضغوط الكبيرة والانحياز للخرطوم من قبل الوسطاء فى المفاوضات الاخيرة , ورغم ان الخرطوم تنازلت عن 70% من سعر النقل الذى اقترحته الا ان الاتفاق النفطى يفرض على الجنوب دفع 3 مليار دولار كتعويض لشمال السودان عن خسائر الانفصال وانقطاع عائدات النفط . وهذه المبالغ الكبيرة ستدفع خلال عامين لدفع الاقتصاد السودانى , وربما يكون جزء منها فى شكل اعفاء ديون تقوم به الدول الراعية للاتفاقية , ولكن تعهد دولة الجنوب السودان الذى تبنته الولايات المتحدة هو فى الواقع يشكل اشارة عميقة لمدى عمق ازمة الحلول السياسية السريعة لازمات السودان , والتى تتجاوز كثيرا من الحقائق التاريخية والوقائع على الارض , فعلى الرغم من انفصال الجنوب بالفعل قد اثر على الشمال سلبا الا ان الحرب الاهلية التى دفع ثمنها الجنوبيين لعقود لم يتلقوا اى تعويض عليها بعد , والحقيقة هنا تساؤل اخلاقى حول من الذى يجب حقيقة ان يعوض من ؟  , وهل خسائر الخزينة المالية اهم من ارواح 2 مليون انسان وقتلوا وملايين شردوا , واين ثروات الجنوب التى ظلت تسرب الى الشمال منذ عقود  يحتسب كل ذلك , ام ان تاريخ السودانين اصبح يبدأ عن تاريخ انتاج النفط ؟

 

ومن جانب اخر شديد الاهمية , فان الاتفاق السريع الذى تم مؤخرا على بنود النفط , ربط لدى الطرفين بما سمى باتفاقية امنية تهدىء الوضع الامنى , ومع اعترافات سلفاكير الاخيرة بدعمه للحركات المسلحة فى الشمال , مما يعنى بالمقابل استجابته لوقف هذا الدعم كشرط اساسى لتنازلات الخرطوم , يؤكد على ان الصفقة للخرطوم رابحة تماما , فان الهاجس الامنى والخوف من الحركات المسلحة يثقل خزينة الدولة فى الخرطوم ويفتت مقدراتها العسكرية والامنية المرهقة والمحبطة من خلال حرب يصعب حسمها عسكريا , وبالتالى  فان امل الخرطوم فى اغلاق المنافذ على الحركات المسلحة التى تمثل التهديد الحقيقى المقلق بالنسبة لها يعد انتصارا كبيرا لنظام المؤتمر الوطنى . ومن خلال هذا الانتصار يحافظ النظام على بقاءه لفترة اطول من خلال موارد مالية رغم انها دون طموح واحتياج النظام الا ان الحد من خطر الحركات المسلحة , هو غاية اساسية ومهمة لاستمرار وجود  النظام .

 

ان عمليات التفاوض على اكثر من مسار التى جرت فى اديس ابابا خلال الاسابيع الماضية , شملت ايضا مسارا مهما , وهو جزء من قرار مجلس الامن رقم 2046 والذى اوجب التفاوض بين الخرطوم والحركة الشعبية لتمرير المساعدات الى المحتاجين من ضحايا الحرب فى جبال النوبة والنيل الازرق , وهذا المسار يكتنفه كثير من الضبابية , حيث لا يعترف الطرفين بمناقشة حلول سياسية للوضع فى المنطقتين , وعلى الرغم من مجرد جلوس الحكومة السودانية مع الحركة الشعبية يعد تنازلا لنظام الخرطوم ,  عن تلك الخطب التى كان يرددها البشير حول عدم التفاوض ابدا مع الحركة , ناهيك عى ردود الفعل لعملية التفاوض التى قادها المتطرفين العنصريين , المتشددين الدينيين , وبالتالى فان نظام الخرطوم يفاوض على الوضع الامنى ووقف اطلاق النار كما يطلب ليمرر المساعدات الامر الذى تعتبره الحركة الشعبية –شمال حيلة من حيل النظام لكسب الوقت , ولذلك فان شكوكا منطقية تحدثت عنها كثير من المنظمات الانسانية والحقوقية والناشطين حول عدم جدية الخرطوم فى توصيل المساعدات وفتح المسارات , وتنبؤ بعضهم بان العملية ستكون معقدة لدرجة ستؤثر على كفائتها فى اداء مهمتها حيث ستخضع لرقابة مباشرة ولصيقة من الخرطوم واجهزتها الامنية وبالتالى فان قيودا كثيرة متوقعة ستؤثر فى سرعة وفعالية العملية التى سيشارك فى تنفيذها ثلاثة مؤسسات دولية هى الامم المتحدة والاتحاد الافريقى , والجامعة العربية مما يشكل ايضا تحديا فى التنسيق , وبالتالى فان العملية ككل مهددة بالتحديات المحيطة بها .

 

ان الاتفاق النفطى بين السودانين ومفاوضات دخول المساعدات الانسانية للمنطقتين , تمثل شكلا من اشكال الحلول السودانية للازمات , اى التى تتسم بالعجلة واتفاقيات الللحظة الاخير تحت الضغوط الكبيرة التى كثيرا ما تترك التفاصيل المهمة والجذور الرئيسية للازمات دون  ان يتم النظر فيها او معالجتها  , وبالتالى كثيرا ما تكون تلك الاتفاقات معلقة فى الهواء بلا اساسات قوية  تثبتها على ارض الواقع , وتجعلها هشة وقابلة تماما  للنقض من قبل الاطراف , حالما يخف الضغط والمراقبة الدولية لما يحدث فى السودان , النظام فى الخرطوم ظل يلعب هذه اللعبة كثيرا حيث يوقع الاتفاقات تحت الضغط ويتلاعب بها او ينقضها فى اول فرصة او فى احسن الحالات يعرقل تنفيذها ويصعبه على الطرف الاخر , ودون الوعى اللازم لدى المجتمع  الدولى الذى يضغط على الدولتين للوصول لحلول ويحاول ان  ينهى ازمات السودان , باهمية التعامل مع جذور الازمات التى تتمثل فى مركزية الدولة وانعدام الحرية والديمقراطية اضافة الى ازمة العنصرية المستفحلة فى النظام والمركز السياسى التى تلفظ اطراف السودان الى خارج لعبة المشاركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية , دون الادراك لتلك الازمات وايجاد حلول حقيقية وعميقة ومتانية لها , فان تلك الاتفاقيات تظل دوما مهددة بالانهيار وفى احسن الاحوال لا تشكل سوى حلول جزئية للازمة السودانية المستفحلة .

http://osmannawaypost.net/

https://twitter.com/

[email protected]   

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *