إلى الحزب الشيوعي .. باطن الأرض خير من ظاهرها

إلى الحزب الشيوعي .. باطن الأرض خير من ظاهرها ..حكاية “منعوني العساكر” من الوصول بقت غنية قديمة يالسيد الصادق المهدي
سالم أحمد سالم
اعتقال الأستاذ محمد إبراهيم نقد السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني في التاسع من الشهر مارس برهان آخر ينضاف إلى جبل البراهين عن رفض الجماعة الحاكمة لأي أثارة من ديموقراطية، وهو رفض وسائله القمع والقتل والتعذيب والاغتصاب، وأخفها الضرب العنيف والاعتقال. ويبلغ العنف قمته بسبب حالة الهلع الذي يسيطر على الجماعة الحاكمة خلال هذه الفترة التي تشهد فيها المنطقة زلازل جماهيرية تطيح الدكتاتوريات واحدة تلو الأخرى. فالمنطقة كلها في مركز الزلزال ولن ينجو دكتاتور، ولا عاصم اليوم، هرب من هرب وتنحى من تنحى ومنهم من ينتظر .. والحبل على الجرار كما يقول أهل الهلال الخصيب ..

طبعا الشعب السوداني لا يحتاج إلى برهان إضافي حتى يتأكد من فحشاء الجماعة الحاكمة. فالشعب في عين يقين سوء الجماعة الحاكمة بما يناله منها من مسغبة وتعذيب وتشريد واغتصاب وسفك دماء وبطالة. إذن البرهان الأخير، أي اعتقال نقد هو “هدية” اختصت بها الحكومة الحزب الشيوعي دون غيره. ومثلما كتب الأستاذ نقد إلى أحزب تحالف جوبا على كرتونة “حضرنا ولم نجدكم” فقد أخذت الحكومة بدورها كرتونة أخرى وكتبت فيها رسالة واضحة أن الحكومة قررت ومن طرف واحد إنهاء فترة “تعايش” الحزب الشيوعي تحت كنفها. لم ترسل الحكومة للأستاذ نقد مصحفا ومسبحة وأموالا مثلما تفعل عادة عند تنحية أتباعها، بل أرسلت له أجهزة أمنها لاعتقاله كأوضح ما تكون الرسالة. كتبت الحكومة في كرتونتها للأستاذ نقد: قف مكانك وممنوع الوقوف .. هذا حدك .. في إمكانك أن تعيش وتتحرك بحرية تحت أعيننا .. أما مظاهرات سلمية فلا وألف لا.
بدورنا نأخذ كرتونة ثالثة ونكتب عليها للأستاذ نقد: “اعتقالك بطاقة خاصة لك ولحزبك من الحكومة ولا أحسبنك تكون لها من الشاكرين” فقد حددت الحكومة السقف القصير أصلا لحركتكم السياسية. ثم نسجل في ذات الكرتونة سؤالا للأستاذ نقد وأركان حزبه: لماذا إذن قبلتم في الأساس العيشة تحت مظلة الحكومة وأنتم تعلمون سلفا قصر السقف الحكومة وضيقه قبل أن تصطدم به الرؤوس في مشروع التظاهرة الأخير؟

منعوني العساكر ..

وأمسح بكمي على الجزء المتبقي من الكرتونة واكتب للسيد الصادق المهدي: نقد معاهو حق .. حكاية “منعوني العساكر” من الوصول إلى مكان المظاهرة بقت غنية قديمة .. فقد سبق لك أن رددتها بنفس كلماتها ولحنها عندما تغيبت عن مظاهرة أحزاب التحالف أمام البرلمان وتركت الحركة الشعبية وحدها مع انك تسكن على مرمى حجر من مبنى البرلمان برا .. وبالمركب على بعد عشرة مجاديف نهرا. ثم تكررت أغنية “منعوني العساكر” الشهر الماضي عندما كان شباب الحزب ينظرك لقيادتهم للإطاحة بالحكومة حسب قولك لهم! إن الزعيم السياسي الذي يعجز عن الوصول إلى مكان تظاهرة سلمية يعجز بالتأكيد عن حل عقدة واحدة من عقد البلاد. والزعيم السياسي الذي يعجز، بعد أربعين عاما من العمل السياسي، عن اختراق أجهزة الحكومة الدكتاتورية وعقد اجتماعات حزبه داخل أقسام الشرطة ومكاتب الأمن عليه أن يتنحى ويفسح المجال لغيره .. فهلا كف السيد الصادق المهدي على الأقل عن أعذار التلاميذ وقال بالواضح أنا ما جايي .. أنا داكّي المظاهره دي؟

الحرية أم رسن! ..

نعود للأستاذ نقد ونقرأ حضوره كنقلة ذكية في شطرنج أحزاب تحالف جوبا، حيث نجح نقد بتقدير رفيع في تعرية ما تبقى من قيادات أحزاب تحالف جوبا .. كش ملك! والدليل أن تغيب الصادق قد نقل التململ في أوساط شباب حزب الأمة إلى خانة الحركة والمجاهرة وغالبا إلى التمرد. أما السؤال اللغز: لماذا قبل الحزب الشيوعي السوداني المعيشة في كنف الحكومة طيلة السنوات الماضية؟ بديهي أن للحزب الشيوعي أهدافه وتبريراته الواضحة والمستترة، والتي قد يكون من بينها استغلال فترة السماح في تمتين العضوية وحرية الحركة، وربما أيضا إعطاء الحرس القديم في الحزب فسحة من الوقت للتواصل الاجتماعي والتمتع بهامش حرية العيش خارج الزنازين والمعتقلات. لكن أين تقع هذه المعايشة المشروطة من إعراب الدور التقليدي للحزب الشيوعي السوداني في مناهضة الحكومات الدكتاتورية؟ وهل كسب الحزب، أم انه أضاع وقتا ثمينا؟

هذه الأسئلة تقع بين قوسي التعايش والفاعلية. التعايش هو ما نراه، والفاعلية هي دور الحزب الرائد في مقاومة الدكتاتوريات. مهلا! .. لم يفت علينا أن الحزب الشيوعي نفسه كانت له توجهات دكتاتورية سواء من جهة البنية الفكرية القديمة “دكتاتورية الطبقة العاملة” أو كرد فعل على الدكتاتوريات العسكرية والانقلابات البرلمانية التي أطاحت به عدة مرات. لكن العقود الأخيرة كشفت عن تحول في فكر الحزب نفسه واعتقاده بحتمية الديموقراطية برغم التكبيل والانقلابات التي مارستها ضده الأحزاب الطائفة والاسلاموية في الأزمنة المسماة بالديموقراطية. إذن سوف نفترض هنا أن فاعلية الحزب الشيوعي السوداني تكمن أولا وأخيرا في الكفاح من أجل الديمقراطية. فهل كان في قيد الإمكان تحقيق فاعلية تنحو إلى الديموقراطية أثناء العيش في كنف حكم دكتاتوري مبين؟ وهل ما أحرزه الحزب الشيوعي في المسار الديمقراطي كان يستحق تلك الفترة الطويلة من المعايشة؟ أطرح السؤال لأن مثل تلك العيشة تنم عن بعض التماهي “الواقعي” بين حزب يريد مناخا ديموقراطيا وبين حكم دكتاتوري عدو لدود للحرية لا تعجبه حرية الطير في السما ! ..

ومهلا مرة أخرى! إذ لن ننسى أن ظهور الحزب الشيوعي بكوادره للعلن كان جزء من اتفاقية نيفاشا التي انعقدت بين الجماعة الحاكمة وبين الحركة الشعبية، والتي وفرت للحزب الشيوعي والحركة الشعبية وغيرهما مقاعد برلمانية كأول خطوة عملية نحو التحول الديموقراطي. لكن الشهور التي أعقبت اغتيال الدكتور جون قرنق أكدت بوضوح أن الجماعة الحاكمة لن تفي بمثقال خردلة جهة التحول الديموقراطي، حيث أبقت على القوانين المقيدة للحريات كافة وزادتها كيل قافلة من أساليب القمع والتنكيل والاغتصاب. ومع ذلك انتظر الناس الانتخابات عسى أن يحدث الله بعد ذلك أمرا. لكن الجماعة الحاكمة احتكرت لنفسها وبالكامل كل الفترة التي سبقت الانتخابات، ثم جاءت الانتخابات مخجوجة خجا ومزورة على عينك يا تاجر.

فإذا كانت اتفاقات نيفاشا قد بررت المرحلة التي سبقت الانتخابات، فقد كان من المفترض أن يشكل تزوير الانتخابات والقمع والاغتصاب بداية لإسدال الستار على مرحلة العيش في كنف الجماعة الحاكمة. ذلك أن تزوير الانتخابات والقمع الذي تمارسه الجماعة الحاكمة تشكل حزمة أسباب كافية لكي ينتقل الحزب الشيوعي إلى مرحلة مختلفة وأساليب مختلفة من وسائل النضال من أجل الديموقراطية. كل هذه المعطيات في حكم البديهيات التي لا تفوت على فطنة الأستاذ نقد وأركان حزبه من الحرس القديم. فماذا حقق الحزب الشيوعي في هذا الاتجاه منذ الانتخابات إلى اليوم تحت هذا السقف المحدد من الحركة؟ ولماذا إذن بقي الحزب الشيوعي في “الحبس” العلني علما أنه يعلم أن الأفق مسدود تماما أمام أي إمكانية لإقناع الجماعة الحاكمة بتحول ديموقراطي أو قبول بالآخر؟

العودة إلى باطن الأرض ..

الواقع الملموس أن كل النتائج تبرهن أن الحزب الشيوعي السوداني لم يحقق شيئا ملموسا لما كان يصبو إليه من تحول ديموقراطي. وعلى النقيض من ذلك فقد حققت الجماعة الحاكمة جملة من المكاسب أقلها أن إبقاء الأستاذ نقد والحرس القديم من حزبه خارج الزنازين جعل الجماعة الحاكمة تظهر في ملابس الحكومة الديموقراطية. زد على ذلك أن الحكومة تضع الأستاذ نقد وحزبه تحت نوع من الاعتقال .. وإلا فما هو الاعتقال إذا كان الحزب وسكرتيره لا يستطيعون الخروج في تظاهرة سلمية لتأييد قضية خارج الحدود؟ وكيف كانت سوف تواجههم الحكومة إذا تظاهروا من أجل قضية داخلية؟ بالرصاص؟ ..

الأهم من كل ذلك أن الفترة التي قضاها الحزب الشيوعي ينعم ببعض الشمس من قطّارة الحكومة كانت خصما على دور الحزب الرائد في التوعية وإدارة الحركة الجماهيرية. فالحزب الشيوعي السوداني هو الحزب الذي يتقن حرفة تحريك الجماهير، والدليل يأتينا من الحكومة نفسها عندما تهرع مباشرة إلى محاصرة دار الحزب الشيوعي ومصادرة صحيفته واعتقال الناشطين والبحث في بيوت النمل عن شباب الجبهة الديموقراطية بمجرد أن يجتمع عشرة أشخاص في برندة من برندات السوق العربي!

لم يعد من شك أن بقاء الحزب الشيوعي على هذا الحال من الاعتقال لا يعدو كونه انتظار سراب في أفق بعيد. أيها الحزب الشيوعي السوداني اعتقال الأستاذ نقد لابد أن يؤرخ لما بعده، لمرحلة جديدة قديمة، لدور لشباب الحزب لأنهم أقدر على التواصل مع الأجيال الطالعة. فالشباب السوداني كافة الباحث عن حريته وعن حرية الوطن وعن حقوقه يحتاج إلى خبراتكم دون هيمنة أو فرض وصاية عليهم .. وباطن الأرض خير من ظاهرها.

سالم أحمد سالم
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *