إعتذار: من موقع الراكوبة لأهلنا في الجنوب محاربي كوش الأقوياء

إعتذار
من موقع الراكوبة لأهلنا في الجنوب محاربي كوش الأقوياء

يا إلهنا نحمدك ونجلك ونثني عليك علي نعمائك
علي كوش أرض المحاربين العظماء ومهد الحضارات الانسانية
يا كوش
إنهضي وبثي شعاعك وبريقك
وأضيئني الأفق بنجمتك الهادئة (علم كوش)
من اجل ان يسود ارجاءك السلام والعدالة والحرية
يا ايها المحاربون السود الاقوياء
فلنقف في صمتٍ وخشوعٍ ومهابة
في ذكري ملايين الشهداء
الذين شيدوا بدمائهم مداميك الوطن
قسما سنحمي امتنا
يا جنة عدن
ارض اللبن والعسل
ارض النساء و الرجال الاشداء
احفظينا متحدين في سلام وسكينة
النيل والجبال والوديان
ثروتنا المضمخة بالفرح و الكبرياء
فليحفظ الرب جنوب السودان

لشعبنا و أبناء و بنات جلدنا و توأم روحنا في الجنوب إلي منقو، جون، تابيتا، مجوك، ملواك، رياك، شول، ميري، أبيل، إيذودورو، كرستينا، فارس، ذكريا، جوزيف، تريزا، ماريال، مونا، قابريال، كاربينو، لوكا، مارقريتا، أندريا، وليام، ملاي، و أتيم، و إلي الراحلين سرأناي شاعر الجنوب، و جون قرانق ديمبيور القائد البطل و المناضل السوداني الفذ و رفاقه من المناضلين و الأبطال الذين قدموا أرواحهم فداءا للسودان الجديد و الذين لا زالوا علي قيد الحياة. إليكم علي إمتداد ربوع و غابات الإستوائية و أعالي النيل و بحر الغزال في جوبا، رمبيك، واو، ملكال، بانتيو، مريدي، نمولي، منقلا، لوكا، بارجيل، توريت، أكوبو، كبويتا، الناصر، و غيرها من مدن و قري و ضهاري الجنوب الضاري، و في مدن و أقاليم بلادنا غربا و شرقا و شمالا، و في بلدان الجوار، و في أقاصي المهاجر و المنافي البعيدة. إلي أرض الجنوب المخضرة الوارفة الخصبة المعطرة بطيبكم و طيبتكم و فطرتكم و سجيتكم و طلعتكم البهية و أناشيدكم و مواويلكم العامرة بالمحنة و الإلفة و الصفاء و البراءة و نقاء السريرة و الشوق لبلاد دينقنا الحرة الأبية بأرضها الخصبة و سمائها الصافية و طلعة سحناتها الزاهية المتألقة و لهجاتها و لغاتها و ألسنتها المتعددة المترنمة بفطرتها العفوية بأهازيج و أناشيد الحرية و السلام و القيم النبيلة. إلي جمالكم المتأصل و سحنتكم السمراء التي لا تغفل جمالها العين، و قاماتكم الفارعة المنتصبة، و هاماتكم المرتفعة بالمعزة و النخوة و العزم و الشجاعة و البسالة و الإقدام ،،،
إليكم نحني هاماتنا تقديرا و إجلالا لكم و لعراقة أصلكم النبيل و أصل تاريخنا المشترك الضارب في القدم المتجذر في أعماق أرض بلادنا علي إمتداد حدودها شمالا و جنوبا، شرقا و غربا، المخضبة بدماء أبطالنا و شهدائنا علي إختلاف سحناتهم و ألسنتهم و أعراقهم، الذين سطروا بزكائها و طهرها و نقائها تاريخا ناصعا من المجد و الصمود و الإستبسال. العامرة بحضاراتها العتيقة التي عمرت وادي النيل من شماله إلي جنوبه و من شرقه إلي غربه منذ بواكير الألفية الثالثة قبل ميلاد المسيح عليه السلام، الممتدة في عمقها و عراقتها للعصور الحجرية الغابرة التي سبقت التاريخ و دلت عليها النقوش و الأواني الفخارية و النحاسية، و سجلت الحفريات القديمة و الحديثة (منذ عهد حضارة المجموعة الأولي) لها و لأجدادها القدامي محاربي كوش السود الأقوياء سكان الخرطوم القديمة (بسماتهم الخاصة المتميزة المختلفة عن أي عنصر زنجي يعيش اليوم في بلاد الله الواسعة) أنهم أوائل البشر الذين خطوا بثبات أولي عتبات سلم الحضارة الإنسانية في بلاد السودان من صناعة و صقل و تشكيل و إستعمال الفخار و النحاس، صناعة الخزف من حجر الأمزون، و الإعتماد كغيرهم من أجداد البشر القدماء علي صيد الأسماك و الحيوانات و جمع الثمار من الأشجار و تربية الماشية و بعض أنواع الحيوانات. مرورا بعهود حضارتي المجموعة الثانية و الثالثة و حصون منطقة سمنة المنيعة التي كانت عصية علي فراعنة مصر الوسطي دليلا لقوة و منعة أحفاد محاربي كوش الأقوياء صانعي حضارة مملكة كرمة بفخارها المتين المتألق المعروف بين أوساط النحاتين و علماء الآثار و أهل الصنعة “بخزف كرمة” الشهير دون منازع بأنه أجود أنواع الخزف الذي عرفته شعوب وادي النيل منذ فجر التاريخ. و التي بلغت فيها بلاد السودان أقصي درجات رُقييها و تطورها و إزدهارها بمواردها آنذاك المتنوعة كما سحنات محاربيها و أبطالها و قد إستفادت منها و نهلت من خيراتها عن كامل الرضاء و طيب الخاطر كل الشعوب القريبة و البعيدة و شكلت أساسا للتبادل التجاري مع الدولة المصرية الحديثة، الذهب، خشب الأبنوس، سن الفيل، الصمغ، البخور، ريش النعام، الفهود و جلودها، الزراف، كلاب الصيد، و الماشية، فومها، عدسها، بصلها و توابلها التي فاقت ما أنتجته بلاد السند في زكائها و نكهتها الإفريقية المميزة، و برزت خلالها قيادات كوشية تاريخية من أمثال كشتا أول عظماء ملكوك كوش الذين سجل التاريخ علي إسمهم و أسماء غيرهم من محاربي كوش الزنج الأقوياء أول إستقلال حر و أبي لبلاد السودان من سطوة الفراعنة و إقامة مملكة نبتة أسفل الشلال الرابع. و كذلك إبنه بعانخي (هذا الشبل من ذاك الأسد) الذي نجح في إخضاع الدولة المصرية الحديثة تحت حكمه عام 725 قبل الميلاد تحت دولته الكوشية التي حكمت لأكثر من ثمانين عاما المنطقة الممتدة من البحر المتوسط حتي مشارف الحبشة و أعقبه ، علي نفس الدرب ، بعد رحيله تهراقا أحد أبنائه الأقوياء الذي حكم خلال الفترة (690/ 664 قبل الميلاد).
إلي أن جاء القرن السادس الميلادي و نقلت فيه كوش عاصمتها من نبتة إلي مروي حيث الأهرامات الملوكية، أباداماك، معبد الشمس، أواني الفخار و النحاس و الحديد المصقول و غيره من ضروب الفن و الإبداع و التي كانت تلقب حينها ب (بيرمنجهام إفريقيا القديمة) لما إشتهرت به من أفران صهر الحديد التي دلت عليها في الحفريات القديمة و الحديثة آثار أكوام الحمم التي كانت تخرج عنها. و استمرت عاصمة لكوش لما يزيد عن ثمانية قرون منها خمسة قرون قبل الميلاد و ثلاثة قرون بعده ظلت خلالها كوش منارة للمعرفة و الفكر و الثقافة و الفن و الإبداع و عرفت بأنها أكثر الحضارات التي نشأت في إفريقيا و تميزت بطابعها الإفريقي النابع من غابات و أحراش إفريقيا السوداء و من وديانها و مجاريها و سحرها الخلاب شمالا و جنوبا، شرقا و غربا مستمدة لثقافتها و تراثها من موروث مجموعة قبائل الدينكا، النوير، اللوو أو الجالو التي تضم الشلك، البور، الثور، الجور في السودان و الأشولي و الأنيواك في أوغندا و السودان، اللنجو، الكمام، و الجوبادوولا في أوغندا، الألور في أوغندا و الكنغو. و غيرها من المجموعات القبلية المنتشرة في غرب و شرق و جنوب إفريقيا و أثبتت الأبحاث و الحفريات علاقاتها التاريخية القديمة بالحضارة الكوشية مثل قبائل الماساي في كينيا و الهوسا في غرب إفريقيا و الزولو في جنوب إفريقيا وغيرها من القبائل التي تشبه عاداتها و موروثاتها كثيرا طبائع وعادات القبائل النيلية في السودان، أو قبائل كوش.
و قد كانت كوش في نفس الوقت منفتحة علي كل الثقافات و الحضارات الرومانية و الإغريقية و الهندية و الفرعونية و حضارة جنوب الجزيرة العربية و غيرها من الحضارات بفعل الموقع الطبيعي و الجغرافي و حدودها الخصبة الشاسعة الممتدة المفتوحة من كل صوب علي كل الحضارات بقلبها السليم ناصع البياض و حكمتها و ثراء فكرها و وعيها الفطري العفوي البسيط و رؤيتها المستقبلية الثاقبة و عقلها الراجح المنفتح علي معارف الدنيا و ما فيها. فقد بينت الآثار و النقوش و الحفريات علي مر العهود و الأزمان و دلت أنّ حضارة كوش كانت بمثابة المحتوي الإفريقي العميق للحضارات و الثقافات و الأفكار الإنسانية المحيطة بها. و لعل شاعر الجنوب الراحل بيتر أناي أو (سر أناي) في قصيدته (هذا السودان) قد عبر عن هذا العمق و هذه المقدرة السحرية التي تميزت بها حضارة كوش في إستيعاب و إمتصاص الثقافات و الحضارات الوافدة تأخذ منها ما ينفعها و تضيف إليه من إبداعاتها و لمساتها و ترمي ما دون ذلك في مزابل التاريخ و تمضي للأمام.

هلا تفضَّلتَ بالكفِّ عن مُضايقتِى
حتَّى لا يضطرُّ كِلانا لإثارةِ الأسئلةِ عن أصل الآخرْ
وحتَّى يمكننا العيشُ في سَلامْ
وهلا تفضَّلتَ بمعرفةِ أمر واحدٍ
هو أن السُّودانَ الذي تكابرُ بأنه أمَّة عربيَّة في قلب أفريقيا
ظل دائماً أنا
وحدي أنا
وسُمِّي على إسمي
فالسُّودان يعني أنا
ومع ذلك لم أرغب، يوماً، في تذكيرك بجذورك الثقافيَّة غير السُّودانيَّة
لأنه، ببساطة، ليست ثمَّة أهميَّة لذلك
فما يَهمُّنِي هو أن كلينا بشَرْ
وأن لنا معاً حقَّ العَيْش المتكافئ هُنا
في أرض السُّودِ هذي

هذا العمق الإنساني المتأصل في حضارة كوش، و صراعها و جدلها الطبيعي مع حقائق الكون و إستمرارية لحظة تكوينها و ديمومة تطورها في سعيها و مسيرتها العنيدة المعقدة (التي لم تخلو من صراع ضد قوي الظلام و التخلف بكل مواهبها و ملكاتها علي التلون و التشكل في سعيها المسموم لفرض ثقافة الإستعلاء العرقي و الفكر الظلامي) نحو تشكيل هوية متفردة تستوعب كل تناقضات بسيطة وادي النيل في بوتقة واحدة متنوعة و عالم إنساني جميل لا زلنا نحلم به، جعلها أرضا خصبة لكل بني البشر بحضاراتهم المختلفة المتصارعة، فقاومت ببسالة الدولة الفرعونية في مختلف مراحلها التاريخية و هزمتها و سيطرت عليها لثماني عقود من الزمان كما أسلفنا، كما عاشت بصبر فترة (المجموعة الحضارية) التي لم يكتشف علماء الآثار حتي اليوم أي جنس أو قوم ينتمون له أبطال هذه الحقبة التي إمتد عصرها في بلاد كوش من سقوط مروي في القرن الرابع الميلادي إلي ظهور المسيحية في القرن السادس الميلادي. ثم كانت بعد ذلك أرضا خصبة لنشوء و نمو الثقافة العربية و الإفريقية المسيحية القادمة من إثيوبيا في شرق إفريقيا و العائدة بجذورها للسلالة السليمانية و مملكة سبأ في جنوب الجزيرة العربية عندما سيطر عيزانا ملك مملكة إكسوم المسيحية علي مروي عام 350 بعد الميلاد و ظلت بعدها كوش و لحقب طويلة أرضا سادت فيها الحضارات المسيحية، مملكة النوباطيين في الشمال من الشلال الأول إلي الشلال الثالث و عاصمتها فرس، و مملكة المغرة الممتدة إلي الأبواب في كبوشية جنوب مروي القديمة و عاصمتها دنقلا العجوز، ثم مملكة علوة و عاصمتها سوبا، و إستطاعت أن تعقد أول وحدة طوعية لمملكتي المقرة و نوباطيا في عهد ميركوريس في الفترة ما بين القرن السابع و الثامن الميلادي من أجل مقاومة تجارة الرقيق و غارات العرب من ناحية، وإنهاء الصراع السياسي الديني من ناحية أُخري، مما ساعد علي التطور الإقتصادي و الإجتماعي و الثقافي. و توالت علي أنقاضها الممالك الإسلامية القديمة في بلادنا بعد إتفاقية البقط التي دامت لأكثر من 600 عاما شهدت خلالها بلاد السودان صوراً و نمازجَ رائعة من الإنصهار و التمازج القومي و التعايش السلمي، و لكنها أيضا لم تخلو من صورٍ حالكة السواد. فالتاريخ كما يقول منصور خالد في كتابه “قصة بلدين” (ليس جوهرا صافيا، إذ فيه الزكي الطيب، و فيه الفاسد العطن).
فالتطور الإجتماعي عملية طويلة و معقدة لا تسير في خط مستقيم أو تتم وفقا للرغبات الذاتية. و قد شهدت بلادنا ، و لا تزال ، خلال مسيرتها الشائكة نحو صياغة هويتها و حلمها الكبير بالسلام و العدالة و التقدم محطاتٍ مظلمة تعجز كل معايير الوصف عن التعبير عنها، تجارة الرقيق، الإستعلاء العرقي و الثقافي بصوره المختلفة، التطهير و الإبادة الجماعية.
و العلاقة بين هذه المحطات علاقة جدلية فالحروب الأهلية و التطهير العرقي و جرائم الإبادة الجماعية في الجنوب و الغرب هي نتاج طبيعي للإستعلاء الثقافي و العرقي و لتجارة الرقيق بكل قبحها و بكل ما تحمله من معاني الإستعباد و الإستغلال، و ما أنتجته من نعرات عنصرية تكاد لا تنتهي بل و تتفاقم و تتشعّب، تسري و تنتشر في تراب بلادنا و تعرجاته كالسرطان الخبيث من إقليم إلي إقليم و من منطقة إلي أخري في ظل سيادة الفكر الظلامي المفروض علينا قسرا من قبل حكومة الإنقاذ و دعاة الدولة الدينية و المشروع الحضاري و ها هي تعمل ليلا نهارا علي بذر بذور الفتنة و الفرقة بيننا جميعا أبناء كوش و محاربيها الأقوياء. و تسعي لفرض الهوية العربية الإسلامية علي الثقافات الإفريقية و التي هي الثقافة الأصل التي سبقت الحضارة العربية الإسلامية بحقب و عهود طويلة.
و علي الرغم من أنّ تجارة الرقيق من أفريقيا للشرق الأوسط قد سبقت ظهور الإسلام بعهود قديمة و أنّ تاريخها في السودان يرجع إلي ما قبل تاريخ الممالك القديمة إلا أنها، و للأسف الشديد، بكل قبحها و عدم إنسانيتها إرتبطت بهجرة العرب المسلمين للسودان بهدف نشر الإسلام و البحث عن المال و الرقيق و إكتسبت طابعها القانوني منذ إبرام إتفاقية البقط التي كان أحد أهم بنودها إلتزام ملك المغرة بدفع 360 رأس من الرقيق سنوياً بمعدل رأس يوميا مما دفع بملوك المغرة لممارسة أبشع صور الإسترقاق للكادحين من محاربي كوش السود الأقوياء للوفاء بهذا المطلب و إرسالهم شمالا ليصبحوا عبيدا و حماة لملوك الدولة الإسلامية. و قد عبر عن هذه الأهداف بشكل واضح الشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم في قصيدته (فكر معي ملوال).

العربىُّ حامل السَّوط المُشلِّ للجِّمال
شكَّالُ كلِّ قارح، مُلاعبُ السُّيوفِ والحرابْ
حلَّ على باديةِ السُّودان كالخريفِ بالسُّنَّةِ والكتابْ
يحملُ في رحالِه طموحَه، ولوحَه، وتمرتين في جرابْ
وشجر الأنسابْ
لاقيتَه في تقلي، في الترعةِ الخضراءِ، في كاكا، وتيجان الأقار والعليابْ
ينافسُ الفرنديتْ
يريدُ منك العاجَ والعنسيتْ
والعبيدَ من فرتيتْ
والمرعى، وعسلَ الغابةِ، والخِرْتيتْ
وكلَّ ما يُفرِّحُ السُّوميتَ في خواطِر الجَّلابْ
تصطرعان مثلَ جامُوسَيْن يا ملوالْ
لكنَّ قرنكَ الصَّغيرَ، قرنكَ الطريَّ، قرنكَ الضَّعيف لا يهابْ

هذا الإرتباط التاريخي بين هجرة العرب المسلمين و بين تجارة الرقيق أسهم في تطور هذه التجارة الفاسدة و رواجها خلال الفترات التي شهدت قيام الممالك الإسلامية مرورا بفترة الحكم التركي و المهدية و الفترات التي أعقبتها. و إزداد الأمر تعقيدا مع بروز و تبلور فكرة الدولة الدينية منذ زمن مبكر يعود لأبعد من المهدية. و أنها خلال مسيرتها و تاريخها الطويل المعقد قد بذرت بذور الإستعلاء العرقي لدي الجلابة و القبائل السودانية المستعربة في الشمال في نظرتهم و تعاملهم مع سكان السودان الأصليين من قبائل الجنوب و الغرب و جنوب النيل الأزرق و كل مناطق الهامش علي أساس أنهم مواطنون من الدرجة الثانية. و لا تزال صور الإسترقاق و العبودية ماثلة في الحضر و الريف و لا زالت بعض مفردات حقب العبودية و تجارة الرقيق في السودان شائعة الإستخدام علي نطاق واسع و يتم تداولها بشكل يومي علي الملأ دون حياء بل من قبل أهم رموز السلطة السياسية الحاكمة اليوم في بلادنا. و لا زالت آثارها مترسبة في وجدان أقسام كبيرة من سكان السودان و علي رأسها قبائل الهامش و لا زالت محفورة في ذاكرتهم و ستظل كذلك لأزمان طويلة.
لا تختلف سلطة الإنقاذ اليوم و حلفائها و أتباعها من دعاة الدولة الدينية و المشروع الحضاري عن تجار الرقيق فهم مجرد أحفاد ٍ مطيعين لتجار الرقيق الذين مارسوا أبشع صور جرائم الإستعباد و الإسترقاق و الإستعلاء العرقي. و هي لا تختلف أيضا عن نفس القوي الظلامية و الإقصائية التي نكصت بتعهداتها للجنوبيين عام 1953م و تراجعت عنها بعد وصولها للسلطة، و سعت فيما بعد لتمرير الدستور الإسلامي الذي أعدته و قدمته الجبهة الإسلامية للدستور في 1957م. و كذلك سعت بعد أكتوبر لتمرير الدستور الإسلامي المعد من قبل جبهة الميثاق الإسلامي و الجامعة الإسلامية و شكلت علي خلفيته محكمة الردة للشهيد محمود محمد طه في نوفمبر 1968م، و نصبت كمينا محكما إغتالت فيه الشهيد وليم دينق زعيم حزب سانو و البطل الجنوبي البارز و من كان يرافقه من مناضلين في أحراش الغابات المتاخمة لمدينة رمبيك في مايو 1968م، و أعدمت (تار البلد) الشهيد جوزيف قرنق و رفاقه في يوليو 1971م، و المقدم الكوشي حسن حسين في سبتمبر 1975م و زملائه من الضباط و الجنود، و أعدمت محمد نور سعد و برصاصة طائشة إغتالت الفنان الكوشي المبدع وليم أندريا في يوليو 1976م، و الشهيد طه يوسف عبيد في يناير 1982م، و هي نفس القوي التي إلتفت علي إتفاقية أديس أبابا عام 1972م و فرضت قوانين سبتمبر 1983م البغيضة و أعدمت بموجبها شهيد الفكر محمود محمد طه و جلدت من جلدت و صلبت من صلبت و قطعت من خلاف من قطعت و بترت أيادي من بترت من جماهير شعبنا الكادحين و المستضعفين و جعلت من الدين مطية لإستغلال الناس و الثراء الحرام و مراكمة الثروات الطائلة، فهم في نهاية المطاف لا يختلفون عن الذين دخلوا بيت أبي سفيان في فتح مكة من تجار قريش و نخاسة سوق عكاظ، و من رفعوا فيما بعد المصاحف علي أسنة الرماح و كانوا أبطالا لمذبحة كربلاء، و من ذبحوا الجعد بن درهم أمام الملأ عقب صلاة عيد الأضحي.
و ليس غريبا أن يتفق موقف الإنقاذ اليوم و تتشابه ما تقوم به من جرائم الإستعلاء الثقافي و التطهير العرقي و الإبادة الجماعية و تقسيم البلاد و تشريد السكان الأصليين و ترحيلهم و النكوص عن الإجماع الوطني و مواثيق نيفاشا مع مواقف و جرائم تجار الرقيق و دعاة الدولة الدينية علي مر العهود و الأزمان فهم من نفس الطبقة و العجينة التي ظلت تعيق مسيرة محاربي كوش الأقوياء نحو تشكيل هويتهم الواحدة المتنوعة و بناء وطن الديمقراطية و الحرية و المساواة و التعايش السلمي و حرية المعتقدات و العدالة و سيادة حكم القانون منذ فجر التاريخ. و ستظل هذه القوي الظلامية موجودة ضمن عملية الصراع الإجتماعي المعقد في بلادنا لزمن طويل، و ستظل تلاحقنا و تتآمر علي أحلامنا و تعمل علي تفتيت وحدة بلادنا و لا سبيل لهزيمتها غير التلاحم و النضال المشترك من أجل دولة المواطنة القائمة علي الديمقراطية و التعايش السلمي و إحترام التنوع العرقي و الثقافي و حرية المعتقدات و سيادة حكم القانون و التنمية المتوازنة سواء في الدولة السودانية الواحدة أو في الدولتين الوليدتين في الجنوب و الشمال فهذا هو الضمانة الحقيقية التي سوف توحدنا من جديد و علي أسس جديدة و ما يحدث الآن ليس سوي مجرد إنقطاع تاريخي و لكنه لا يتجزأ أو ينفصم عن مسيرة التطور الطبيعي و الصراع الإجتماعي الذي سيفضي في نهاية المطاف إلي حضارة كوش الجديدة و إلي السودان الجديد طال الزمن أو قصر. و ستظل بلادنا برغم هذا الواقع الكارثي بخير ما دمنا نحن أحفاد محاربي كوش الأقوياء، و الأجيال التي سوف تأتي من بعدنا و من صلبنا، نتنسم هوائها و نستنشق عبيرها و طيبها، و نأكل من عيشها و يامها و بفرتها و خيرها وعسلها و نعيمها، و نشرب من نيلها و نهتف بمجدها و عزها و خلودها، و ما دمنا علي إستعداد كي ندفع حياتنا ثمنا و مهرا من أجل أن يعمها الخير و السلام و لنزرع الطمأنينة أيضا في نفس شاعرنا المناضل محمد طه القدال و كل المبدعين من أبناء شعبنا و نزيل عنهم كل المخاوف ،،،

ما خايف المطر
يتحاشى الضهاري الراجية قولة خيرا
ولا خايف المطر
يمشي على الصحاري تلمو في بشكيرا
ولا خايف العشم
يتناسى العشامى ونيما ياكل نيرا
ولا خايف النفس
تتذكر نفسها وتنسى يوم حِدّيرا
وخوفي على البلد
الطيب جناها وقمنا في خُديرا
شاحدك يا كريم
لا تحصل خراب لا أرجى يوم ودّيرا

و برغم أننا جميعا قد شربنا من نفس كأس القهر و الظلم و التخلف و المآلات الكارثية للأنظمة الديكتاتورية و دعاة الدولة الدينية و الدستور الإسلامي، و لا زلنا نشرب منها في ظل سلطة الإنقاذ التي تمثل أبشع صور الدولة الدينية، إلا أننا نقر و نعترف بأن النصيب الأكبر من الألم و المعاناة قد تحملتموه أنتم أبطال كوش الأقوياء ، فمنكم من تم بيعه بثمن بخس في سوق النخاسة و قطعت ظهورهم بسياط من أذناب البقر، و منكم من سلخت فروة رأسه علي مجاهل أشجار غابات الإستوائية و بحر الغزال و أعالي النيل أو من تناثرت أطرافه و أحشائه و تبعثرت بفعل الرصاص أو القنابل، و منكم من رأي بأم عينه كيف أن بيته و مسقط رأسه و قريته و قد إحترقت بكاملها و عن بكرة أبيها بشيوخها و نسائها و حرائرها و شبابها و أطفالها، أو من رأي جوف أمه يمزق بدم بارد و علي إستهزاء تارة بالرصاص و تارة بالسونكي و هي حبلي و تترك جثتها و أحشائها طعاما للحيوانات المفترسة و الكلاب الضالة، و آخرين قد مضت بهم الحروب الأهلية و شردتهم و ظلت ترمي بهم علي مدار أكثر من نصف قرن من الزمان بعيدا عن حضن أرضهم الخصبة بشمسها الدافئة في بيوت الصفيح و الكرتون و الجدران الآيلة للسقوط و في أحزمة الفقر و الجدب المنصوبة علي هامش الهامش و فضلات المترفين من دعاة الفتنة و التطرف و الإستعلاء في مدن الشمال و الغرب و الشرق، و منكم من عصفت به الحروب الأهلية في أحراش إفريقيا و في بلدان الجوار أو في المنافي البعيدة. و منكم من دفع بحياته ثمناً من أجل حلمنا جميعا من الأبطال و المناضلين الذين خرجوا من تلك الأحراش و أحزمة الفقر و من رحم كل تلك المعاناة في المؤآمرات و المكائد التي حيكت لهم و الكمائن التي نصبت لهم و في التصفيات الجسدية و المشانق و الإعدامات و الإغتيالات السياسية.
نحن في موقع الراكوبة نشهد و نقر بأن جميع صور هذه الجرائم البشعة قد أرتكبت في حقكم و أنها وصمة عار في جبين كل مواطن صالح و سوداني أصيل شرب من مياه النيل الخالد و يجري فيه دم محاربي كوش الأقوياء. و في جبين تاريخنا و حاضرنا و مستقبلنا. و نعلن إدانتنا لها و ندعو كل الشرفاء في بلادنا لإدانتها بشكل جماعي و الإعتذار لكل قبائل السودان و كل جماهير المهمشين من شعبنا التي أكتوت بنيرانها و عانت منها لقرون طويلة و تعويضهم عن كافة الأضرار المادية و المعنوية التي تكبدوها تعويضا يرضيهم و يعيد لهم كرامتهم و عزتهم. و كذلك إدانة كل الأنظمة الحاكمة المتعاقبة التي لم تسعَ لمعالجتها بل سعت بنفسها لتكريسها و مفاقمتها إذ لم تتفق علي دستور دائم و نظام ديمقراطي يحقق العدالة و التنمية المتوازنة و يساوي بين الناس علي أساس المواطنة و يضمن لهم حرية المعتقدات و التعبير و سيادة حكم القانون و يفتح المجال لكل الثقافات السودانية للإنطلاق و التعبير عن نفسها. و في تقديرنا هذا هو الطريق السليم لتجاوز المرارات و ضمان عدم تكرارها في المستقبل. و قد كنا في موقع الراكوبة منذ النشأة و حتي الآن نحرص علي نشر المقالات و المواد السياسية و الفكرية و الأدبية و الفنية التي تصب في صالح وحدة شعبنا و تضامنه و تدافع عن المهمشين و الكادحين من جماهيره الباسلة و قد كنا دائما نرفض نشر كل المقالات الإنفصالية و الإقصائية التي كانت ترد لنا من كل بقاع السودان من الشمال و الجنوب و الشرق و الغرب و الوسط و من السودانيين في المهاجر و المنافي القريبة و البعيدة. و سنحترم خياراتكم و ندافع عنها و نحن علي إستعداد دائماً و مجدداً كي ندفع بحياتنا ثمناً لتطرحوا أرأئكم و تمارسوا حقكم الأصيل في تقرير مصيركم بأنفسكم، و ها نحن بإسم الراكوبة ،،،نقول لكم بعض كلمات توفيق زياد شاعر المقاومة الفلسطينية ،،،

أناديكم
أشدُّ علي أياديكم ،،،
أبوسُ الأرضَ تحت نعالكم
و أقولَ :أفديكم
و أهديكم ضيا عيني
و دفءَ القلبِ أعطيكم
فمأساتي التي أحيا
نصيبي من مآسيكم
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *