قراءة سياسية في قرار تحرير سعر صرف الجنيه السوداني
د. أحمد حموده حامد
مقدمة:
جاءت الأخبار تحمل قرار البنك المركزي في السودان العودة الي سياسة الحافز لاستقطاب تحويلات السودانيين في المهاجر الذين يقدر تعدداهم بأكثر من ثمانية ملايين نسمة وتقدر تحويلاتهم بنحو اربعة مليارات دولار في السنة. قرار البنك المركزي في حقيقته هو تحرير لسعر صرف الجنيه السوداني أعلن عنه لاحقاً وزير المالية في مؤتمر خجول عقد منتصف الليل. نتائج هذا القرار ستكون كارثية على عامة الشعب السوداني الذي سوف يجد ان غلاء الاسعار وتردي الخدمات بل انعدامها احيانا كالمواصلات مثلا والغاز والدواء وكل ما يتعلق بحياة الناس قد تضاعفت سوءاً عدة أضعاف عما كانت عليه في السنوات الماضية. الشعب السوداني موعود بمعاناة رهيبة في سبل عيشه لا قبل له بها، معاناة هي للموت قاب قوسين أو أدنى .
ظلت مشكلة الاقتصاد السوداني تسوء عاماً بعد عام رغم عشرات
المؤتمرات التي عقدت لإيجاد الحلول الناجعة لها كان آخرها توصيات اللجنة الاقتصادية في الحوار المزعوم حوت أكثر من 600 توصية قدمها الاقتصاديون للحكومة وما بخلوا، تعطي موجهات محددة لإصلاح الاقتصاد وتحسين حال معاش الناس، إلا ان ناتج كل تلك الجهود كان صفرا كبيراً.
اين تكمن المشكلة اذن؟ في الاقتصاد ام في السياسة؟
أشرنا في مقالات سابقة ان المشكلة ليست اقتصادية بل سياسية في المقام الاول والاخير. فمن الناحية الاقتصادية البحتة من منظور الموارد الطبيعية والبشرية والامكانات المتاحة من موارد فالسودان حباه الله سبحانه وتعالى بكل المقومات والامكانات الهائلة التي تمكنه من ان يصير أحد اغنى دول العالم واحد أكثر الشعوب رخاءً. هذا الكلام جاء من لدن المنظمات الدولية ومنظمات الامم المتحدة. منظمة الزراعة والغذاء العالمية الفاو تدرج السودان أحد ثلاث دول (مع استراليا وكندا) يعول عليهم لإطعام سكان الكرة الأرضية (World Granaries) . فمن حيث الامكانات الطبيعية وتباين توزيع الحزامات المناخية، السودان لا يقل ثراءً عن الولايات المتحدة الامريكية أقوى وأغنى دولة في العالم. إحدى الأهداف الخفية لسياسة الولايات المتحدة في السودان هي ان تدخل السودان في دوامة من المشاكل الداخلية لاستنزافه حتى لا ينهض لاستغلال موارده الهائلة خاصة في الزراعة والغذاء. فاذا ما قدِّر للسودان ان يتمكن من استغلال موارده فستفقد الولايات المتحدة ليس فقط هيمنتها على سوق الغذاء في الشرق الأوسط (يقدر بنحو بضع تريليونات من الدولارات)، بل الأهم من ذلك بكثير هو فقدان نفوذها السياسي المتأتي من استخدامها لكرت الغذاء للضغط السياسي وتعزيز سياستها الخارجية وتمرير استراتيجيتها واجندتها في المنطقة .
من المؤسف بل المخزي حقا ان بلداً بكل هذا الثراء الرباني الذي يستوجب الشكر الكثير باستغلال هذه النعم وتوجيهها في خدمة العباد وتحسين حال معاشهم حتى ينصرفوا الى عبادة خالقهم، هذه العبادة التي هي السبب الأول في خلقهم كما جاء في محكم التنزيل “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ” صدق الله العظيم . إلا أن حكومة الخرطوم تعمل عكس التوجيه الرباني وتبدد النعم الموجبة للشكر في سفك دماء المسلمين وتيتيم الأطفال، وترميل النساء، وتجويع الناس، وافقارهم، في أشنع صور الكفر بالنعمة. المشكلة اذن ليست في الموارد الاقتصادية، بل في الحكم والحاكم.
الاقتصاديون وتوصياتهم واصطدامهم بصخرة الحكم:
قدّم الاقتصاديون حوالي مئات توصية للحكومة والحاكم لتحسين الاقتصاد، لكن لم تجد كل تلك التوصيات الا التجاهل والاهمال وغياهب ادراج دواوين الحكومة. تجدر الاشارة هنا إلى ان الاخوان المسلمين حين سطوا على الحكم غيلة، لم تكن مسألة حياة الناس ومعاشهم من ضمن أهدافهم أصلاً كما اعترفوا بذلك صراحة. بل الهدف اقامة “المشروع الحضاري” حتى ولو استدعى ذلك التضحية بثلثي الشعب السوداني، كما صرحوا بذلك أيضاً. قام المشروع الحضاري على ركيزتين: داخلية باستباحة السودان أرضاً وشعباً، فقُـوِّضت مؤسسات الدولة المدنية التي كانت قائمة، واستعيض عنها بسياسة التمكين، ووئِد القضاء المستقل وأُهدرت الحقوق وشوِّه التعليم وضاعت الصحة، ونفضت الحكومة يدها من كل الخدمات التي هي من أوجب واجبات الدولة للمواطن. ووجّهت موارد الدولة المستباحة لصالح “المشروع الحضاري” في الداخل بإسكات كل من يقف في وجه المشروع بقوة السلاح، ودعم الجماعات المتطرفة في خارج الحدود. وهنا تأتي الركيزة الثانية للمشروع الحضاري: تصدير المشروع الى خارج الحدود خاصة دول الجوار واوروبا وامريكا، فذهبت عائدات البترول كما ذهبت عائدات الذهب وتحويلات المغتربين وعوائد الصادر وعوائد الضرائب والجمارك والجبايات، كلها ذهبت لدعم جماعات المشروع الحضاري في الداخل وفي شتى بقاع العالم ما كان نتيجته ان شعرت كثير من الدول بخطر تمدد التطرف في حدودها ما حدا بالولايات المتحدة ادراج اسم السودان ضمن الدول الراعية للإرهاب منذ عام 1997 وحتى يومنا هذا.
وفي غمرة الايدولوجيا المتطرفة وسكرة السلطان هتفت جموعهم بهتافات حمقى من شاكلة ان “امريكا وروسيا قد دنا عذابها” فاستعدت معظم دول العالم المتقدم والمسيطر على السياسة الدولية . ثم هيّجت الشباب وأدلجتهم وغسلت ادمغتهم بمثل هذه الافكار العدوانية وخلقت منهم مليشيات غاية في الغلو والتطرف والتعطش للقتال وسفك الدماء (من امثلة المدعو حامد على حامد) النظامي الذي أزهق روح الشهيدة عوضية عجبنا لها الرحمة. ثم أوت الخوارج من الساحل الافريقي، وخلقت منهم مليشيات روعت أهل دارفور حفظة القرآن، ولما صرخ كل العالم مندداً بالفظائع في دار فور، لجأت الحكومة الى خدعة ماكرة بأن منحت هذه المليشيات صفة القوات النظامية وألحقتها مباشرة برئاسة الجمهورية بدلاً من حلها واتقاء شرورها.
حكومة الخرطوم والولايات المتحدة وتجديد العقوبات سنويا:
حين تدرج الولايات المتحدة السودان ضمن الدول الراعية للإرهاب، تدرك امريكا كل تلك الحقائق جيداً، ولربما كانت تقف خلسة من وراء تأزيم الاوضاع في السودان للأسباب التي ذكرت آنفا. الولايات المتحدة لا تريد لمشاكل السودان ان تتحلحل، بل هي سياسة استنزاف طويلة الأجل ينفذها نيابة عنهم مهاويس الخرطوم بوعي أو دون وعي منهم. وقد وجدت الولايات المتحدة ضالتها حين وفّرت لها حكومة الخرطوم الذرائع اللازمة لتوسيع دائرة العقوبات لتشمل تجريم التعامل البنكي مع الخرطوم على كافة الدول التي ترتبط بمصالح وعلاقات تجارية مع الولايات المتحدة. ولأن الاقتصاد الامريكي هو أكبر اقتصاد في العالم، لا تجد دولة الا وتخشى الكرباج الأمريكي، فأوقفت معظم الدول تعاملاتها مع الخرطوم، ما نتج عنه عزلة اقتصادية شبه كاملة للاقتصاد السوداني من التعاملات العالمية.
ورغم سعي حكومة الخرطوم الحثيث لاسترضاء الولايات المتحدة لرفع العقوبات بشتى الطرق من بينها التخلي عن الجنوب، وإظهار الاستعداد لتطبيع العلاقات بين الخرطوم مع إسرائيل، الا ان كل ذلك لا ينفع . أوامر الولايات المتحدة واضحة إذا أرادت الخرطوم أن تسير في الطريق الصحيح، فعليها نبذ العنف، وايقاف الحروب، ووقف دعم الإرهاب، واقامة نظام حكم يستند على الشرعية والشفافية، وحكم المؤسسات المدنية. باختصار الولايات المتحدة تريد من النظام في الخرطوم ان يقوم بتفكيك مؤسساته والتخلي عن ايديولوجيته التي تعتبرها الولايات المتحدة “ارهابية” تهدد مصالحها.
واقع الأمر ان ايديولوجية التطرف في فكر الاخوان الإسلاموي التي تنتهجها حكومة الخرطوم ادخلت البلاد في حرب غير معلنة مع المجتمع الدولي واعضائه الفاعلين كالولايات المتحدة . وفي هذه الحرب غير المتكافئة، سخرت حكومة الخرطوم أرض السودان وشعبه وامكاناته وموارده كوقود لهذه الحرب، فضاعت ثروات البلاد الهائلة هباء منثورا لأجل مشروع وهمي يعشعش في مخيلة المهووسين . وضاق بالناس الحال واستفحل الغلاء وانهارت قيمة الجنيه ولم يعد الناس يستطيعون الوفاء بأبسط مقومات الحياة لأسرهم، فهجر أكثر من ثلث السودانيين بلادهم هربا من الواقع المُذري.
ومن بقي في البلد يعانون معاناة رهيبة، يسعى كل من وجد حيلة للهرب إلى الخارج بمعدلات مخيفة، كما تشير إحصاءات ديوان المغتربين. لكن الحكومة في الخرطوم لا يهمها كل ذلك، بل ماضية في التحدي حتى النهاية تناطح صخر المجتمع الدولي وطواحين هواء الولايات المتحدة، كل ذلك على حساب المواطن الغلبان الفقير الجائع والمقهور. فالحكومة – كما صرح قادتها – يمكن ان تضحي بثلثي الشعب السوداني في سبيل المشروع الحضاري. الآن الحكومة تفي بوعدها، فقد أجبرت أكثر من ثلث السودانيين على الهرب خارج البلاد، والآن تضحي بما تبقى من السودانيين في الداخل بتحرير سعر صرف الجنيه السوداني، الذي سوف يعني للأسر السودانية ان يعيشوا (عيشة أخير منها الموت) كما نقول بالدارج السوداني.
نصيحة للاقتصاديين وللحكومة في الخرطوم:
لا شك ان الاقتصاديين السودانيين لم يبخلوا بالنصح، يقف شاهداً على ذلك عشرات المؤتمرات وبضع مئات من التوصيات التي لم ولن تجد اذناً صاغية. لكن السؤال الذي يجب على الاقتصاديين ان يسألوه أنفسهم: كيف لسياسات واطروحات اقتصادية ان تجد طريقها للتنفيذ في ظل حكم غير طبيعي وغير شرعي وحقوق المواطنين ومعاشهم ليست من أهدافه أصلا؟
السياسات الاقتصادية لكي تنجح تتطلب بادئ ذي بدء وبداهة ان يكون نظام الحكم نظاماً طبيعياً شرعياً يمثل الشعب يرتضونه خادماً لهم ساهرا على راحتهم وتحقيق تطلعاتهم في العيش الكريم، تقوم بذلك مؤسسات مدنية محايدة تقدم الخدمات بالتساوي لجميع الناس، وقضاء مستقل يحفظ الحقوق ويرد المظالم، وغيرها من المسؤوليات الواجبة على الحاكم . حينئذ فقط يمكن الحديث عن سياسات اقتصادية تصمم وتوجه للتطوير والبناء حسب أولويات محسوبة، ولخدمات المواطنين في الصحة والتعليم والمسكن والمأكل. كيف لسياسات اقتصادية ان تقوم تحت نظام حكم:
• فاقد الشرعية.
• معاش الناس ليس من أهدافه أصلاً.
• تقويض تام ومتعمد للمؤسسات المدنية والخدمية والرقابية لتمرير سياسات التمكين.
• تدجين القضاء لخدمة النظام ومحسوبية واهدار حقوق الناس (فقه التحلل مثالاً).
• صرف اكثر من 80% من الميزانية على الأمن والدفاع (اقتصاد حرب).
• توجيه كافة امكانات الدولة للخراب والدمار والحروب بدل البناء والنماء.
• معزول عزلة تامة عن عجلة الاقتصاد العالمي.
• في حرب مستمرة لثلاث عقود مع شعبه ومع المجتمع الدولي.
تحت نظام حكم كهذا، سوف لن ينجح أدم سميث – لو بُعث حياً – في تقديم وصفة اقتصادية تسعف الاقتصاد السوداني المتهالك . النصيحة للاقتصاديين ان ينصحوا الحكومة ان المشكلة ليست اقتصادية بل سياسية اولا واخيراً، وان امامها خياران لا ثالث لهما:
اما ان تقبل بتفكيك مؤسساتها ونهجها وايديولوجيتها وتعيد الحكم الى اصحابه الحقيقيين أهل المصلحة الشعب السوداني للبدء في ترميم ما خربوه على مدى سنوات حكمهم العجاف وترميم العلاقات الاقتصادية والانسانية مع المجتمع الدولي لتحقيق المصالح المشتركة وللشعب السوداني , واما ان تستمر في المكابرة والغي والضلال ومناطحة الصخر وتحميل الشعب السوداني كل الويلات المترتبة على مثل هذا السلوك اللا إنساني واللا وطني .
قرار تحرير سعر صرف الجنيه السوداني لعله نذير ينبئ ان الحكومة حزمت أمرها على ان تضحي ببقية الشعب السوداني وتحمله تكلفة فشلها في سبيل ان تظل هي ممسكة بالحكم، بدلا ان تتخلى هي عنه فداء للوطن.
فقد جاء في الخطاب السري المسرب للرئيس البشير أمام مجلس شورى حزبه في 22 أكتوبر ما يلي :
“نحن ما ح نستوعب لا عسكري ولا ضابط في الجيش السوداني ولا في المخابرات ولا في الأمن من القوات الموجودة في جنوب كردفان والنيل الازرق حتى لو نحارب تاني مية سنة… هتافات الله أكبر… عشان الناس تكون عارفة يا جماعة نحن محتاجين لمواقف محتاجين لناس بقيفوا معانا فيها، لأنها هي ما مواقف ساهلة ونحن ما بنصارع في قوى ساهلة نحن بنصارع في القوى الحاكمة الآن. القوى الدمرت العراق رغم قوته واللي دمرت سوريا رغم قوتها واللي دمرت اليمن وايران”.
الرئيس البشير وأركان حكمه عاقدون العزم على “مصارعة” القوى العظمى بقيادة الولايات المتحدة حتى ولو استغرقت هذه الحرب مائة سنة كما جاء على لسانه. لكن هذه الحرب المدفوعة بالهوس والصلف والغرور تأذى منها الشعب السوداني أيما أذى، ولم يفوِّض الجماعة لإعلان الحرب على العالم نيابة عنه، فدفع السودانيون ثمن هذه الحرب اللعينة فقراً وجوعاً ومرضاً وجهلاً وشظف عيش، ثم وقهراً، وجوراً، وظلماَ من الحاكم وبطانته.
هل سيتحمل الشعب السوداني مزيدا من المعاناة، أم سينضم للثورة التي يقود طلائعها الأطباء الأبطال النجباء؟
واذا ثار السودانيون انتصاراً لحقوقهم المهدرة، هل ستبطش بهم الحكومة وميلشياتها؟ أم سترفع يدها عن الجماهير الثائرة وتترك الثورة تمضي الى نهاياتها في اشارة هي أقرب الى حفظ ماه الوجه بتسليم الحكم لأصحابه الحقيقيين الشعب السوداني بعد أن يئست الحكومة من الانتصار والاصلاح في الداخل ومنيت بهزيمة منكرة متمثلة في العزلة التامة من المجتمع الدولي والحصار المستحكم من الولايات المتحدة وحلفائها؟
د. أحمد حموده حامد
[email protected]