بسم الله الرحمن الرحيم
المليشيات في الأبيّض المغزى والدلالات(2-2)
احمد ادم بخيت
أشرت في المقال السابق أن ثمة إنتهاكات كبيرة أرتكبتها مليشيات الحكومة التي تسميها “قوات الدعم السريع” ونسميها نحن في الثورة قوات الهروب السريع والماركه المسجلة في اروقة السياسة السودانية ودهاليز منظمات حقوق الإنسان وعرف العامة هي (الجنجويد)،حصلت تلك الإنتهاكات في تندلتي و أبوزبد و الأبيّض و عرفها أحمد هارون في خطابه المتلفز والذي إضطر فيه تحت وطأة الضغط الشعبي والإعلامي للإعتذار لأهل الأبيّض عن سلسلة الأحداث التي وصفها ب((المؤلمة والمؤسفة في حق مواطني القرى والمدن))، وقال أنها كانت (صادمة لنا جميعاً). عرف هذه القوات وقال انها (قوات سودانية نظامية تتبع لهيئة العمليات بجهاز الأمن الوطني و المخابرات,جُندت حديثاً لمهام وطنية، و إنها وصلت الولاية في إطار خطة مركزية لإحتواء تهديد كبير للأمن القومي السوداني. شاركت في العمليات، و أبلت بلاءاً حسناً، وقدمت العديد من الشهداء والجرحى) .
الدلاله الواضحة و المباشرة أن المهام الوطنية التي جُنّدت لها هذه القوات، هي ما لحق بالمدنيين من ضرر في كل من تندلتي و أبوزبد و الأبيّض, حيث لقيت هذه الأفعال الشنيعة شيئاً من تسليط الضوء في الإعلام الإلكتروني والخارجي و قليلاً جداً من الإعلام المحلي المغلوب على أمره. إن الذي أغفلته وسائل الإعلام بسبب إنعدام البنيه التحتية للأتصال والتواصل في مناطق جبال النوبة وفي مناطق المسيريه من إنتهاكات في حق المدنيين العزل من قبل هذه القوات يفوق أضعاف أضعاف ما سمع به الناس. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تم حرق قرى كجورية و قلع و تحطيم وابورات المياه وأُغتصبت النساء وحُرقت المزارع وقُتل وجُرح 35 شخصاً معروفين بالإسم و كلهم مدنيين. لم تكتفي هذه القوات بذلك، بل واصلت الحرق و القتل و الإغتصاب في الجبال الغربية و قرى كيقا و كاشا حيث أُغتصبت خمس نساء، و قُتل في نفس القرية خمسة رجال حاولوا حماية النساء من الإغتصاب. نحيّيهم ونترحّم عليهم. هذا بالإضافة لنهب أبقار منطقة الوالي المعروفة برعي الأبقار بكثافة، و كذلك كتله و منادل و شفره و إعتقال ثلاثة أفراد من كارقو لم يعرف أحد أين هم.
لم تكتف هذه القوات بذلك، فدخلت مناطق المسيرية و حاولت تكرار ذات الإنتهاكات في حق المدنيين العزل، مما حدا بأهالي تلك المناطق – ام عدار والخرصانه – بتنظيم أنفسهم و التصدي لهذه القوات بالمتاح من الإمكانيات فكانت حصيلة الإحتكاكات بلغت 9 قتلى من المسيرية و7 قتلى من هذه المليشيات بما فيهم رائد ونقيب أحدهم إبن أخ قائد المليشيا حميدتي صالح دقلو، والآخر سائق عربة حميدتي، و لقنوهم درساً في الأخلاق. ونُحيي هنا أهلنا المسيرية في منطقة خرصانه على هذه البساله و الحمية و نترحم على شهدائهم .
هذا غيض من فيض الممارسات التي تندرج فيما سماه أحمد هارون (القضايا الوطنية) التي من أجلها جندت هذه القوى حديثاً.
و هذه طريقة هي و نهج المؤتمر الوطني في التدليس و تسمية الأشياء بغير أسمائها ..الفجوة الغذائيه، الثوابت الوطنية، الصالح العام…الخ.
كما أشار أحمد هارون أيضاً إلى أن ( هذه القوات وصلت الولاية في إطار خطة مركزية لإحتواء التهديد الكبير للأمن القومي). هذه الجزئية تدلل بشكل قاطع أن كل ويلات الأقاليم والولايات تنبع من المركز، و كل الأزمات مردها الى المركز، و أن الأجهزة الولائيه المنتشرة في ولايات السودان ليست إلا أجهزة شكلية مهمتها الترويج لمايأتيها من المركز. إذ يسمونهم لجان أمن الولايات، برئاسة الوالي في كل ولاية، ورئاسة المعتمد في كل محلية. لذلك هذه المليشيات و إمتداداتها في الولايات، ترتع و تسرح و تمرح بلا وازع و لا رادع، لان قرارها في المركز، و خطتها من المركز، و مكافآتها من المركز، وبالتالي انتهاكاتها مسئولية المركز. و ماعلي الولاة و المعتمدين و لجان أمنهم إلا التسبيح بحمد المركز؛ ضاربين بعرض الحائط مصلحة أهلهم و مواطني هذه الولايات والمحليات، وحقّهم في أن لا تُنتهك كرامتهم، و لا تُغتصب نساؤهم، و لا تُنهب ممتلكاتهم، و لا يُقتل شيبهم وشبابهم … كيف لا و الذي يعينهم و يعفيهم هو المركز، و الذي يُقيّم أداءهم هو المركز. لذلك، يظل خطب ودّه بأي ثمن و إرضاءه بكل حيلة، هي ديدن و مسلك ولاة الولايات و معتمدي المحليات.
هذه علة العلل فيما يسمى زوراً و بهتاناً في السودان “الحكم الإتحادي”. إذ أن المواطن لا إرادة له تعتبر، و لا صوت له يُسمع، و لا رأي له يقال، و لا مشاركة له في الشأن العام. لا شكوى و لا أنين يرفع لمتخذي القرار.
تم تحديد وظيفة هذه المليشيات بأنها (لإحتواء تهديد كبير للأمن القومي). ما هو هذا التهديد الكبير للأمن القومي ؟ إذا كانو يقصدون تحركات قوات الجبهة الثورية، هل بالفعل تم إحتواء هذا التهديد؟ هل هي تهديد للأمن القومي ؟ و ما هو الأمن القومي المفتري عليه؟ و هل الأمن القومي هو أمن النظام؟ المراقب الحصيف يلحظ بوضوح شديد أن كل ذلك لعب على الألفاظ، و تغطية للهدف الجوهري، و هو الحفاظ على الكرسي الذي أصبح بقدرة قادر هو الأمن القومي !!!! لا مليشيات الحكومة، و لا قواتها النظامية، لها القدرة على الحيلولة دون زحف ثوار الجبهة الثورية نحو الهدف الكبير و هو إسقاط النظام. و الدلائل كثيرة و الشواهد أكثر. (ديك النقعة و ديك الخيل).
هل يا ترى تهديد الأمن القومي يتجسّد في ثوار يسعون ببرنامج واضح لإزالة نظام دكتاتوري إستبدادي شمولي، و إستبداله بمناخ ديمقراطي حر، يتيح للشعب التعبير فيه عن آماله و آلامه و تطلعاته، و يختار قياداته التي يريد، و منهجه الذي يرى؟ أم قوات يتمّ إستنفارها بالخداع والحيل، و تدرّب وتغذّى بالشعارات التي تكرس العنصرية و الإقصاء، و يُزجّ بها في مواقع العمليات تحت أثر الإغراء و الوعود، ثم تعود مهزومة هاربة ترفض تسليم سلاحها و آلياتها و مركباتها؟! و الأنكى من ذلك و الأمر ترفض الإنصياع للعرف الإجتماعي والخلق السوداني ألا (بالتحنيس) و الإغراء (التسوي بإبيدك يغلب أجاويدك) أيّ المجموعتين مهدد للأمن القومي؟ أفيدونا يرحمكم الله.
ورد أيضاً في ثنايا خطاب كبيرهم الذي علمهم السحر أحمد هارون، تعريف هذه القوات و تبعيتها فقال إنها: (قوات نظامية تتبع لهيئة العمليات بجهاز الأمن والمخابرات).
هذه تقليعة جديدة. فبعد أن أُستخدمت هذه المليشيات تحت لافتة الشرطة باسم قوات الإحتياطي المركزي (أبوطيرة) وارتكبت إنتهاكاتها الواسعة بهذا الإسم، و قد سمع القاصي و الداني حديث البشير عنهم (أبو طيرة البفكو الحيرة).
و جرت احتجاجات كبيرة من قبل الشرطة كجهة حارسة و منفذة للقانون، فتمّ تحويلهم إلى القوا ت المسلحة تحت واجهة “قوات حرس الحدود” و استمرت ذات السلوكيات،و سُجلت أرقام قياسية من جرائم الحرب و جرائم ضد الإنسانية و إرتكبت الإبادة الجماعية باسم القوات المسلحة. و أيضاً صدع العقلاء في أوساط القوات المسلحة بأرائهم استنكاراً لهذا السلوك.
و الآن جاء دور قوات الأمن، حيث السجل الحافل بارتكاب الإنتهاكات في حق المدنيين العزل، و ستجد هذه المليشيات مرتعاً خصباً في جهاز الأمن واجهتهم الجديدة، و ستموّل مناشطهم و تطلق أيديهم مقابل أنهم سيسهمون في الحفاظ علي الكراسى (الأمن القومي).
الآن أُسدل الستار في الأبيّض علي انتهاكات قوات (الدعم السريع)، و التقط المواطنون أنفاسهم، و بدأ يظهر بعض المستور. إذ تشير الإحصاءات إلى أن اكثر من ألف بلاغ قد تمّ فتحه في مواجهة هؤلاء، تتراوح بين القتل والإهانة؛ و لم تسلم حتى القوات النظامية من الإعتداء .
تمّ تحريك هذه القوات إلي غرب الأبيّض، وتمّ ترحيل معاناة المواطنين من داخل الأبيّض إلي خارجها في كل من أم صميمة، و العيارة، و كذلك الخوي و غبيش بغرب كردفان، حيث قتلت إمرأة و أصيب ثلاثة أخرون إصابات بالغة في حادث دهس لمجموعة من المواطنين بعربة أحد هذه المليشيات, و دُفعت هذه القوات إلى دارفور حيث تمّ وداعها في أم راكوبة في الحدود بين دارفور و كردفان، و اتجهت إلى اللعيت في طريقها إلي نيالا، و كأن دارفور ليس جزءاً السودان. في هذه الأثناء، يصرّح والي جنوب دارفور لإٍذاعة نيالا و يقول: (إن قواتنا قادمة من الأبيّض لتنظيف و تطهير كافة جيوب الحركات بولاية جنوب دارفور)! هذه حملة إنتهاكات جديدة ستجتاح إقليم دارفور.
إذاً الضحية القادمة القديمة هي مواطن دارفور الذى ظل يقاسي و يعاني الأمرين منذ أكثر من عشر سنوات، مُورس و يُمارس في حقه كل صنوف جرائم الحرب، و الجرائم ضد الإنسانية، و الإبادة الجماعية، و مجلس الأمن الموقر يصدر قرارا تلو القرار بحظر إدخال الأسلحة إلي دارفور، و يكوّن لذلك فرق للخبراء والحال هو الحال !! ألم تكن مليشيات النظام قد عادت إلى دارفور بأكثر من ستمائة عربة محمّلة بكافة أنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة؟! أليس في هذا خرق و مخالفة صريحة لقرارات دولية تستوجب المساءلة و التحرك الفوري من قبل مجلس الأمن الدولي لوضع حد للمآسي المستمرة في دارفور على مدار الساعة، ليلا و نهارا. في الوقت الذي يكفي فيه وجود هذه المليشيات لأسبوعين فقط في الأبيّض و محيطها لإثارة الرأي العام بدرجة غير معهودة، ظلت إمتدادات هذه المليشيات في دارفور تقتل و تحرق و تغتصب و تشرد و تنهب المدنيين العزل، و تختطف و تعتقل في المعسكرات والاسواق و الطرق, في مناطق كبكابية، و قريضة، و تلس، و معسكرات روندا، و أرقو في طويلة، و فتابرنو و كساب في كتم. و مدينة كتم التي تخلو – و لمدة عام كامل- من الشرطة والقضاء و أيّ مظهر قانوني. و معسكرات دريج و مكجر، و دليج بوادي صالح، و معسكرات سربا، و منطقة الملم، ومعسكر السلام و منطقة الردوم, ومعسكر كلمة. كل ذلك بإشراف و علم و مساعدة جهاز الأمن بهذه الولايات، و الآن تتم شرعنة كل ذلك بتبعية هذه المليشيات مباشرة لجهاز الأمن.
المغزي الجوهري، و الدرس البليغ المستفاد من أحداث مدينة الأبيّض، هو لفت انتباه أهل السودان جميعا لما جرى و ما زال يجري في دارفور منذ أكثر من عشر سنوات، و كذلك في جبال النوبة و النيل الأزرق؛ حيث كانت الأكثرية الغالبة من أهل السودان يسمعون قصص الانتهاكات هذه و كأنها من بنات خيال الرواة، و أنها تروي من قبيل الكيد السياسي فقط، وساهم اعلام المؤتمر الوطني المضلل في تكريس ذلك .
بعد أن توفرت الدلائل و البينات و القرائن، تبقي هناك رسالة لأهلنا من مثقفي الوسط والشمال النيلي، أن يقبلوا على ملفات هذه الانتهاكات، و هي موثقة بدرجة كبيرة لم تجد حظها من النشر دون؛ و يطّلعوا عليها و يطلعوها لأهلهم، لأن ذلك قطعاً سيساهم في تحديد المسؤولية، و معرفة المجرمين من ابنائهم الذين أفسدوا في الأرض ِأيّما إفساد، حتى لا يؤخذ الابرياء من أهلنا في الوسط و الشمال بجريرة هؤلاء، و سيسهم ذلك أيضاً في تقوية لحمة التماسك القومي والوحدة الوطنية.
الفريق احمد ادم بخيت
امين إقليم دارفور ونائب رئيس حركة العدل والمساواة السودانية