بادرت المحكمة الجنائية بالاتصال بشخصي في أعقاب صدور كتابي الأخير والموسوم بـ (بيت العنكبوت/ أسرار الجهاز السرِّي للحركة الإسلاموية في السودان) وذلك بغرض التحقق عن ما ورد فيه من جرائم لتضمينها وثائق المحكمة. يومذاك لم أتردد لحظةً في الاستجابة لطلبهم، بل قلت لهم صراحةً إن لم تبادروا لفعلت. ذلك من منطلق إيماني بضرورة أن يلقى المُجرم العقاب الذي يستحقه جزاءً وفاقاً لما ارتكبت يداه، سيِّما، تلك المتعلقة بإزهاق أرواح البشر المُحرَّمة في كل الأديان والأعراف. علاوة على أن مفهوم السيادة الوطنية لم يعد ذاك المتسربل بالمعاني الكلاسيكية، فقد تجاوزته العدالة بعد أن اتخذت منحىً كونياً عابراً للقارات، وتهدف بذلك لتوفير حياة آمنة للإنسان بغض النظر عن جنسه أو عرقه أو لونه أو دينه.
إذ لا يستقيم عقلاً أن يعيش الجلاد حراً طليقاً، في الوقت الذي تفتت فيه أكباد أهل السودان بصفة عامة، وذوي الضحايا بصفة خاصة!
(2)
لقد كانت رحلة تأليف الكتاب قاسية بالنسبة لي وأنا أوثق لجرائم يقشعر لها البدن، إذ كنت أحياناً أشعر برائحة الدماء تنبعث من بين ثنايا السطور، تلك الدماء التي لم تترك بقعة من بقاع السودان إلا ووضعت بصماتها المؤلمة عليها، بل خُيَّل لي من كثرة نزيفها أنها لو كانت ماءً لغطت أرض السودان زرعاً وخضرة. من أجل ذلك استطيع أن أوكد إحساسي المضاعف بالحزن والألم، وأنا أرى المجرمين يتجشأون جرمهم ويقهقون عارهم ويرقصون طرباً كلما ضربت لهم الدفوف. وعلى الرغم من أن مثل هذا السلوك هو من سمات الديكتاتوريين أينما وجدوا في الكرة الأرضية، إلا أنه كان أقسى وأشد وطئاً على السودان وأهله. ولا يخالجني أدنى شك في أنه لو كانت الشعوب تُجزى بقدر تضحياتها لنالوا الفردوس جزاءً!
(3)
كانت تلك فرصة عظيمة لمعرفة الجهد الذي تقوم به المحكمة الجنائية عن كثب، وذلك بالاستماع لخبراء تحسبهم من شدة تمرسهم أنهم القادرون على متابعة دبيب النمل. ولأن طول الجُرح يغري بالتناسي وكنتيجة لتطاول أمد المحنة، فأنا مثلكم – يا أعزائي القراء – كانت تغشاني أحياناً هواجس الوسواس الخناس وتذر في سمعي عدم جدوى عمل المحكمة. وهو الإحساس الذي تغير تماماً بعد ذاك اللقاء الذي وقفت فيه على تفاصيل كنت أجهلها، ومن خلالها أدركت أيضاً معنى الرعب والخوف والهلع الذي يسيطر على (أسد البرامكة) كلما جاءت سيرة المحكمة الجنائية. ولهذا فإن أكثر ما يستفز المرء ويدعو للغضب هو انجرار البعض وراء ترهات المجرمين، وهم يرومون هروباً من مصيرهم. يقولون على سبيل المثال لا ينبغي للمحكمة إقحام نفسها في شئوننا الداخلية، لكأنما الحكمة تنثال من أفواه الجاثمين على صدورنا أو أن العدالة منقوشة على جباههم!
(4)
ثمة بعض ممن يروجون لمفاهيم لا وجود لها على أرض واقع داسته سنابك خيول المغول، خذ مثلاً ما سُمي (التسامح السياسي السوداني) والحقيقة فقد قلنا مراراً وتكراراً إنها صك من اختراع حواة السياسة السودانية، الذين يريدون التحايل على ممارسات تستوجب المحاسبة. وجميعنا يعلم أن الشعوب التي رزئت بديكتاتوريات تخلصت من أثقالها بالتسامح الاجتماعي وكذا الديني، ولم تدْعِ فرية أسمها التسامح السياسي. ذلك لأن السياسة ممارسات وفق منهج معين يخضع لمعايير المحاسبة في إطار دولة القانون. وعليه فإن ما تروج له العصبة وتبعها الغاوون، فهو محض هروب من تلك المحاسبة، الأمر الذي يجد أحياناً روافع من اللاهثين خلف السلطة وصولجانها، لكي يعيدوا إنتاج الأزمة وتدور البلاد في رحاها، كما تدور الثيران حول الساقية!
(5)
داهمتني كل هذه التداعيات أثناء متابعتي المؤتمر الصحافي لوزير خارجية روسيا سيرجي لافروف ووزير خارجية أمريكا ريكس تيلرسون يوم الأربعاء 12/4/2017 في العاصمة الروسية موسكو. فقد أفصح الأول عن حديث تنوء بحمله الآذان، حري بنا أن نطلق عليه (أم الفضائح) أي الفضيحة التي ستعتلي ظهور فضائحهم الكثيرة التي اقترفوها في حق الوطن ومواطنيه، ويقيني أنه حديث سيكون وقعه مفجعاً على كل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولا يجرمنك شنآن بعضهم ممن غط في نوم عميق، فكلنا يعلم أن العُصبة مثل الطاعون الذي حلَّ بأرض وقضى فيها على الأخضر واليابس. فهم لم يتركوا بشراً إلا وأصابوه بوابل من شرورهم، بدءً بالتعذيب، مروراً بالقتل وانتهاءً بالسحل. ثم شملت شرورهم الأرض فانفصل ثلث الوطن بلا سميع أو مجيب!
(6)
فلنتأمل ما جاء بالنص في حديث وزير الخارجية الروسي لافروف: (فيما يتعلق بالأمثلة القريبة إلينا، السودان مثلاً فالرئيس السوداني البشير أُعُلن أنه مُطلوب من جانب المحكمة الجنائية الدولية. وبعد عدة سنوات قررت إدارة أوباما أنه لكي تتم معالجة مشكلة السودان، لابد من تقسيم السودان إلى جزأين. تبعاً لذلك أنشئ جنوب السودان، بل وطالبونا – أي الأمريكان – بشكل مُلح الحصول على موافقة الرئيس البشير على هذه العملية، ذلك على الرغم من أنهم كانوا يرغبون في رؤيته مُحاكماً أمام المحكمة الجنائية الدولية. بل طلبوا منا أن ندفع الرئيس البشير للموافقة على عملية التقسيم، وألا يعيق هذه العملية. وبالفعل وافق الرئيس البشير على هذه العملية، وفقاً للمشروع الأمريكي من قبل إدارة أوباما) انتهى الحديث الكارثة!
(7)
دعك من القائل، أي وزير خارجية روسيا التي دنا عذابها بالأمس وفقاً لأهازيج العصبة، وأصبح العذاب فيما بعد برداً وسلاماً. بل لعل أكثر ما ساءني وقد يسوء غيري، هو أن الرئيس المذكور الذي افتضح أمره، ظل يتنبر بالموروثات السودانية، فيدعي الشجاعة ويخرج في الملأ ليقول بأوداج منتفخة (المحكمة الجنائية تحت جزمتي) ثم يرفع عقيرته ويضيف بذات اللغة البائسة دولاً أخرى، في حين كان يبحث في الغرف المغلقة عن خلاصه الشخصي، حتى لو كان ثمنه انفصال الوطن. ولعل الأنكىء وأمر يوم أن يذكر السابقون للاحقين، كيف أن المذكور هُرِّب من الأبواب الخلفية عندما أوصدت أمامه الطرق في جنوب أفريقيا، ليصل الخرطوم ويواصل رقصه دون حياء أو خجل!
(8)
بحسب علمنا فإن موضوع المحكمة الجنائية هو الأكثر وجعاً للمشير وصحبه الأشرار، ولن يستطيعوا منه فكاكاً إلى أن تأخذ العدالة مجراها ومرساها، حتى يكونوا عبرة لمن اعتبر، فثمة ضحايا ظلت أرواحهم تهفو للعدالة المفقودة ولم يفقدوا الأمل رغم تقادم السنين. ولكن لعل ما يُثقل ميزان حسنات هذا الشعب الصابر، هو أنه لم يحتكم لقانون حمورابي، ويقتلع العين بالعين والسن بالسن. بل لعل ما يثقل حسناته أكثر، هو أنه لم يجنح لقانون الغاب حيث البقاء للأقوى، وعوضاً عن هذا وذاك فقد تدثر بالصبر وتزمل بالأمل، في انتظار أن تأخذ العدالة مجراها حذوك النفس بالنفس. ولهذا ظلت عيون المكلومين تحدق في الأفق، يتحرون القصاص كما يتحرى الصائم رؤية الهلال!
ويلي عليك وويلي منك يا عمر!!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!
[email protected]