السودان بين مطرقة المؤتمر الوطني وسندان الأمة والاتحادي ؟!
بقلم/ شريف ذهب
إلي الجمهرة الغالبة من أبناء هذا الشعب الأبي من الفقراء والمعوزين والعمال البسطاء الذين لم تترك لهم ظروف شغف العيش سانحة من وقتهم الغالي كي يتوقفوا هنيئة للاطلاع على ما تنشرها وتبثها وسائط الإعلام المحلية والعالمية المقروءة والمسموعة والمرئية والتي تتصدرها صوراً لأشلاء من رصفائهم الثائرين على الضيم في كل مكان .
وأنّى لهم ذلك وقد حفيت أقدامهم ركضاً خلف لقمة العيش الكريم لأبنائهم بمقدار ما يُسد رمقهم حتى صبيحة اليوم التالي وهم يصارعون صنوف الرياح العاتية بأجسام نحيلة كسعف النخيل لكنها تحمل في دواخلها قلوب كبيرة ملأى بالإيمان ، ونفوس عالية تأبى الضيم والخنوع والانكسار .
إلى جموع الساسة الذين استمرءوا هذا المشهد الأليم أو استغفلوه أو أسقطوه أرضاً تحت أقدامهم وجعلوا منه ملعباً للصراع حول الكرسي اللعين .
إليكم جميعاً نقول بعباراتٍ تحمل حرارة الطقس الذي أعقب ربيعاً في محيطنا الإقليمي لم تبلغ نسماته فضاء بلادنا ، علها كانت ستكون برداً وسلاماً وأخف وطأةً من صيفٍ حارٍ نترقبه وقد بدأت تحمرّ لها بعض الوجوه منذ الآن .
إن المنعطف التاريخي الحرج الذي تمر به بلادنا اليوم بعد نيفٍ وعشرين عاماً من حكم رجال الإنقاذ الذين انتهوا بها نحو التقسيم وادخلوها في عدة أزمات متتالية باتت تنذر ليس بتلاشي النظام الحاكم فحسب كما هو مطلب جماهير الشعب السوداني ، وإنما قد تمتد آثارها لتنتهي بتلاشي البلاد بأكملها ، فنبحث عنها فلا نجدها بين الدول ، أو في حدودها الدنيا تكون وضعية الصومال الحالية أفضل منها .
تلك الأزمات التي تتمثل في عدة نقاط نجمل منها التالية :
1/ التدهور الاقتصادي المريع الناجم عن فقدان عائدات نفط الجنوب وشح موارد البلاد عن التعويض وانعكاس ذلك على الوضع المعيشي للمواطنين فضلاً عن واجبات الدولة الأخرى .
2/ التأزم الحالي في مناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق و دارفور .
3/ التوتر الحاد بين الشمال والجنوب الناجم عن عدم الوفاء بحل القضايا العالقة نتاج اتفاقية نيفاشا وتوابعها وعلى رأسها قضية أبيي وبقية القضايا ذات الصلة .
4/ المخاطر المحدقة بالسلم الاجتماعي في البلاد المتوقع حدوثها جراء شح الأمطار في بعض أجزاء كردفان ودارفور والشرق بجانب بعض دول الجوار الإقليمي والمتمثلة في العوامل التالية :
1/ احتمال حدوث نزوح داخلي إلى المدن الرئيسية في الأقاليم والعاصمة القومية من بعض أجزاء البلاد التي تعد مستقرة لحدٍ ما حتى الآن مثل شمال كردفان وشرق البلاد بما ينذر بتكرار تجربة الأعوام 85 /86 من القرن الماضي .
2/ احتمال حدوث نزوح خارجي من مواطني بعض دول الجوار الإقليمي كتشاد وإفريقيا الوسطى إلي داخل دارفور وبخاصة من الرعاع طلباً للماء والكلأ مما قد يحدث مزيداً من الاحتكاك في دارفور .
3/ زيادة الضغط على معسكرات النازحين في دارفور، وعلى معسكرات لاجئي دارفور في دولة تشاد المجاورة مع احتمال وفود أعداد كبيرة من مواطني دولة تشاد إليها وما يمكن أن ينجم جراء ذلك من احتكاك بينهم يهدد سلامتهم .
4/ احتمال حدوث نزوح مماثل إلى مناطق شرق السودان بذات الآثار في دارفور .
هذا الوضع الخطير يستدعي بالجميع مراجعة النفس والوقوف عند المسببات الحقيقية التي أوصلت البلاد عند هذه المحطة ، وتحديد هوية الجهات التي أسهمت فيها وتحميلها المسئولية التاريخية عنها والمحاسبة في الوقت المناسب مع بحث المخارج المناسبة قبل فوات الأوان .
ولإتمام ذلك فلابد من عمل فرز سياسي شامل لعناصر اللعبة السياسية المؤثرة حالياً في مسيرة البلاد وتحديد أدوارها ، والتي نرى أنها تتمثل بشكل أساسي في الكيانات التالية :
1/ حزب المؤتمر الوطني الحاكم
2/ الأحزاب التقليدية ( الأمة والاتحادي )
3/ تحالف الجبهة الثورية السودانية
4/ قوى اليسار والقوى الشعبية + حزب المؤتمر الشعبي .
أولاً / حزب المؤتمر الوطني :
إن حزب المؤتمر الوطني الذي يتمثل في الرئيس البشير باعتباره الآمر والناهي الأول والأخير في هذا الحزب ، يتحمل المسؤولية التاريخية عماّ حلّ بالبلاد خلال فترة حكمه الممتدة لأكثر من عشرين عاماً ، من حروب مدمرة في كافة أصقاعه وجره نحو التقسيم والتسبب في تردي معيشي غير مسبوق .
ولعلّ الشعور بعقدة الذنب جراء تلك المسئولية وانسداد الآفاق أمام أوضاع أفضل قد تمحو أو تخفف عن وطأة ذلك ، هو ما حمل البشير لمحاولة التخلص من هذا العبء بالحديث المتكرر عن رغبته في عدم الاستمرار في مهامه الحزبية ورئاسة الدولة ، رغم أنه ما يلبث أن يتراجع عن ذلك .
ولعل مرد هذا التراجع يعود لأحد أمرين : فأما أن يكون البشير لا يملك قراره داخل حزبه للتخلي عن مهامه متى شاء لكونه رهينة بيد بعض النافذين من أقطاب حزبه الذين يرون في محاولة تخليه عن السلطة هروباً في اللحظات الأخيرة وتركهم يغرقون لوحدهم ، وهو ربان سفينتهم الذي قاد بهم لهذه المهالك وبالتالي إذا كان ثمة مِنِ ضحية يفتدى به فيجب أن يكون هو نفسه وليس سواه .
أو الاحتمال الثاني وهو: أن يكون حديث البشير ناجم عن نفاق سياسي يطلقه كبالون اختبار كلما دخل حزبه في أزمة خانقة ثم يتراجع عنه حينما تنفرج تلك الأزمة ! وهذا الاحتمال هو الأكثر ترجيحاً لدى الكثيرين لأسباب عدة منها أن هذه ليست المرة الأولى التي يقطع فيها البشير بعدم الترشح لرئاسة الحزب والدولة ثم ينكص ، فقد أعلن عن ذلك للمرة الأولى أثناء احتدام الخلاف بينه والدكتور الترابي ثم ما لبث أن تراجع عقب المفاصلة الشهيرة حينما راجت الكفة لصالحه ، وكرر ذلك في أوج الأزمة حول الجنوب قبيل الانتخابات الأخيرة ثم رأيناه يعود ليتبوأ قيادة حزبه ويتخلى عن اللقب العسكري في الجيش ليترشح لرئاسة الجمهورية كما فعل !، وتأتي تصريحاته الأخيرة للصحافة القطرية في أوج الأزمة مع دولة الجنوب والضائقة المعيشية الطاحنة في الداخل والضغوط العسكرية من تحالف الجبهة الثورية . والأيام بيننا لاختبار مصداقيته هذه المرة لا سيما عقب ما بدت أنها خطوة نحو الانفراج مع الجنوب .
ويبقى التذكير بأنّ السانحة لا تزال أمامه حيال مبادرة الاستضافة التي قدمها له خادم الحرمين الشريفين ، وأمامه أن يختار وسائل السفر المناسبة لإيصاله بأمان إلي هناك ، ومنها المصرية والليبية واليمنية ولعل أفضلها التونسية !!.
ثانياً / حزبي الأمة والاتحادي الأصل :
برغم تقديرنا لتاريخ هذين الحزبين الكبيرين وجهودهما في استقلال البلاد وهما بلا شك ظلا يشكلان بوتقة انصهار لجل أبناء الشعب السوداني على امتداد التاريخ السياسي الحديث للبلاد ، إلا انه من المؤسف أن يقول المرء أن عطاءهما عقب الاستقلال لم يكن بالمستوى الذي يلبي رغبات هذا الكم الجماهيري من عضويتها ولا سيما في مناطق الهامش بشكل مجمل .
فكما المؤتمر الوطني ، فإن للنهج السياسي لقادة هذين الحزبين الكبيرين نصيباً وافراً كذلك في تأزيم قضايا البلاد عبر مختلف الحقب ، فأهم نقاط الأزمة لدى هذين الحزبين تكمن في عدم شيوع الديمقراطية داخلهما وتمركز اتخاذ القرار فيهما بشكل أساسي بيد قادتها أو لنقل سادتها مما أدى بشكل مضطرد إلي تباطؤ اتخاذ القرارات الحاسمة في اللحظات المصيرية للبلاد بفعل التردد فيقود هذا التردد إلي الانقسامات الداخلية فالضعف فسقوط البلاد في أيدي النظم الدكتاتورية ووأد الديمقراطية التي دوماً ما تأتي بكد وعرق الجماهير السودانية ، وهذا الضعف والتردد والتذبذب في المواقف يعد من أهم العوامل التي منحت المؤتمر الوطني فرصة للاستفراد بحكم البلاد والتحكم في مصيرها والمضي بها نحو التقسيم بكل سهولة ويسر .
والسلبية الثانية لدى قيادة هذين الحزبين برغم احترامنا لهما تتمثل في ميلهما في كثير من الأحايين نحو تغليب المصالح الذاتية عن مصالح جماهير أحزابهم العريضة فضلاً عن الوطن ، ودون سرد المواقف التاريخية فخير شاهد أمامنا موقفهما الراهن من حكومة المؤتمر الوطني ، ووضعهما مستقبل أبناءهما فوق المصلحة العليا للبلاد ومستقبل حزبيهما .
وإن كان الحال لدى السيد الميرغني أكثر وضوحاً كون المشاركة كانت علنية من الحزب بغض النظر عن رأي جماهيره في تلك المشاركة ، بخلاف السيد الصادق الذي انتهج ( التقية ) بحيث صار كمن أركب أبناءه في القطار ليسيروا مع المسافرين و تخلّف بجسده مع المتخلفين المضربين عن الركوب فيما كل عواطفه مع القطار الطار الذي فيه أبناءه ، ومهما حاول الإنكار فإن الحقيقة التي لا لبس فيها أنه شريك أصيل في هذه الحكومة تحت بنود ربما تكون بعضها سرية ، وأي حديث بخلاف ذلك لا يعدو أن يكون ذراً للرماد في عيون الشعب السوداني وجماهير حزبه بغرض التعمية والتضليل لا غير، وكل تصريحاته عن بقية أقطاب المعارضة عقب مشاركة ابنه في السلطة تشي بذلك .
لذلك فلم أتفاجأ البتة بتبرؤ قادة هذين الحزبين من الاتفاق الذي ابرمه بعض أركان حزبيهما بالخارج مع قيادات الجبهة الثورية قبل أن يجف مداد ذلك الاتفاق ، وهذا يؤكد ما قلناه عن حالة التذبذب لدى هذه القيادات حيث يميلون مع اتجاه هبوب الرياح ، فان تأرجحت الكفة نحو المقاومة مالوا معها والعكس صحيح مع السلطة .
ويبقي الأمر بشأن كشف حقائق الاتفاق الذي تم توقيعه مع الجبهة الثورية رهن برأي القيادات التي مهرت ذلك التوقيع بخط يدها وهي بالطبع ليست من الشخصيات المغمورة وإنما من القيادة الرفيعة في حزبيهما وليس من المعقول أن يقدما على مثل هذه الخطوة الكبيرة دون تكليف من الحزب .
وختام حديثنا عن هذين الحزبين أنه مما يؤسف له جداً أن ينتهي الأمر بالزعامات التاريخية لهذين الحزبين الكبيرين بختام مسيرة نضالهما الطويل بهذه النهاية المأساوية لحزبيهما والتي أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها تذهب في اتجاه تأكيد مقولة الدكتور نافع حول مستقبل هذه الأحزاب بأنها رهن برحيل قادتها ( بعد عمر مديد بعون الله ) .
وإن كانت تبريرات بعض المتعاطفين حيال تلك الخطوة بإشراك الأبناء في السلطة تقول أنها بدافع تقديمهم للرأي العام المحلي، أو صقل التجربة السياسية عبر الاحتكاك المباشر بمواقع الدولة العليا وخلافها ، فيبقى أن نقول بأنه في مثل هذه الظروف التاريخية التي تمر بها البلاد يكون وجودهما على رأس المعارضة أفضل وأضمن لمستقبلهما السياسي من أشراكهما في حكومة مع نظام قمعي لا يختلف ( دُبُره عن قُبُله ) ” بمعنى الماضي والمستقبل “، وهي تعد جناية كبيرة بحق هؤلاء الأبناء ومستقبل هذه الأحزاب في المنظور القريب .
ثالثًًا/ الجبهة الثورية السودانية :
أما الرفاق في تحالف الجبهة الثورية فلدينا الكثير لنقوله لهم في المواعين الداخلية التي نأمل أن تتسع بشكل أفضل مما عليها الآن ، ولكن الأهم في هذه المرحلة هو حسم أمر تحديد خيارات التعامل مع النظام ،هل بالضغط العسكري بغرض إجباره على التفاوض ، أم الاقتلاع عبر الخيار العسكري ؟.
فإن كان الخيار الثاني فعليهم البدء الآن ، والآن فقط دون تردد ، وأمامهم تجربة الضرغام المغدور به الشهيد الدكتور خليل إبراهيم ، ومن قبل تجربة قوات المقاومة التشادية بقيادة الرئيس الحالي أديس ديبي حينما كانت مستقرة داخل أراضي دارفور وطلبت منها حكومة الإنقاذ الحالية المغادرة من البلاد ومنحتهم مدة شهر للخروج من السودان فحزموا أمرهم نحو أنجمينا بكل عزيمة وتم لهم النصر المؤزر .
أما سياسة الكر والفر هذه فلا تسقط النظام بل تمنحه الفرصة لتجميع قواه وحبك المزيد من المؤامرات للقضاء على المقاومة ، مع الوضع في الحسبان كافة احتمالات تغيير المواقف في العلاقات البينية بين الدول ، ودونكم التجربة الحالية للنظام مع دولة تشاد المجاورة الحليف السابق للمقاومة الدارفورية ؟!.
فبرغم خصوصية العلاقة مع دولة الجنوب والتي نقدر للقيادة فيها تعاطفهم مع المقاومة بحكم العلاقة التاريخية والعضوية ، حيث كانوا جزءاً من الدولة السودانية وعلى رأس المقاومة فيها حتى تمكنوا بصمودهم من نيل حقوقهم كاملة غير منقوصة ، فإن ظرفهم الحالي يتطلب عدم تحميلهم أكثر مما يطيقون نظراً لظروف دولتهم الوليدة التي تتطلب الاستقرار وحسن الجوار مع دولة السودان الشمالي بفعل تداخل المصالح ، لا سيما إذا أخذنا في الحسبان تلكؤ المجتمع الدولي في الوفاء بكل ما يلتزم به . هذه من ناحية ، ومن ناحية أخرى فيجب الأخذ في الحسبان بأن النظام في الخرطوم مستعد لتقديم كل شيء في سبيل إصلاح العلاقة مع الجنوب ومن غير المستبعد أن يسعى لتكرار تجربة الاتفاقات الأمنية مع دولة تشاد المجاورة .
رابعاً/ قوى اليسار السوداني والمؤتمر الشعبي :
بالنسبة لقوى اليسار السوداني بمختلف تياراتها فلا يختلف اثان حول أنها القوى السياسية الحقيقية في الداخل التي تنافح عن الديمقراطية بجانب حزب المؤتمر الشعبي وبالتالي فالموضع الطبيعي لهذه الكيانات هو أن تسعى لتكوين حلف عريض مع تحالف قوى المقاومة المسلحة ( الجبهة الثورية ) والجبهة الوطنية العريضة بالخارج بقيادة المناضل علي محمود حسنين .
وفي ظل المواقف السلبية لقيادات الحزبين الكبيرين بالداخل ( الاتحادي والأمة ) فيقع على عاتق الجبهة العريضة أن تسعى قصارى جهدها لاستقطاب القيادات الحائرة في هذين الحزبين ، تجاوباً مع رغبات الجماهير العريضة لهذين الكيانين الذين حتماً لم يرتضوا مسلك السيدين في التحالف مع نظام المؤتمر الوطني الغاشم في الخرطوم ،على أن تلي هذه الخطوة تفعيل التحالف مع الجبهة الثورية السودانية وفق برنامج مشترك واضح المعالم لإسقاط النظام في الخرطوم وإحلال نظام ديمقراطي بديل ينقذ البلاد ويلبي رغبات الشعب .
[email protected]