تجويد الإرتباك

                                    تجويد الإرتباك
تبدو معالجة الحكومة للهجوم الجوى على العربة فى بورتسودان معالجة مربكة ومرتبكة . فالوقائع التى أذاعتها الحكومة، لو تم تجريدها من التحليلات والإتهامات، تقول أنه فى مساء الخامس من أبريل دخلت طائرة أجنبية المجال الجوى السوداني، وأطلقت صاروخاً أصاب عربة سوناتا كانت تسير فى الطريق الذى يربط مطار بورتسودان بالمدينة فدمرها، وقتل سائقها وراكب آخر كان بالسيارة. وقد أذاع ذلك الخبر فى اليوم التالى لوقوعه وزير الخارجية، وتصدى لشرحه للفضائيات السيد / ربيع عبد العاطي . إتهم وزير الخارجية إسرائيل بالمسئولية عن الحادث وأمضى ربيع عبد العاطى وقتا عصيبا فى محاولة إثبات ذلك للفضائيات . ما ذكره السيد وزير الخارجية يحمل إشكالاً فى ثناياه، فليس هنالك ما يدعو دولة ما لضرب عربة تحمل إثنين من المدنيين ما لم يكن هنالك شيئاً أو شخصاً فى العربة يحمل تدميره أهمية إستراتيجية لتلك الدولة . خاصة إذا كان الأمر يشوبه تلك الصعوبات اللوجستية المترتبة على بعد المسافات، وعدم وجود قاعدة قريبة لإنطلاق الطائرة و عودتها . الوزير لم يكن يتحدث عن تدمير موقع عسكرى أو إقتصادي يبرر هجوماً من دولة معادية، بل عن مجرد عربة سوناتا تعج طرق السودان بأمثالها!! . فمن الواضح أنه رغم العداء بين السودان واسرائيل إلا أن الموقع الجغرافي للسودان يجعله فى هامش دائرة الإهتمام الإسرائيلي المشغولة أكثر بالدول المحيطة. ورغم أن إسرائيل قد وجهت من قبل ضربات لأهداف فى دول خارج الدائرة المحيطة بها مباشرةً، إلا أن تلك الأهداف واضحة الأهمية الإستراتيجية، مثل الهجوم على المفاعل النووي العراقي عام 81، والهجوم على عنتيبى عام ،1976 لتحرير الرهائن الإسرائليين الذين كانو محتجزين هناك آنذاك . الهجوم على عربة ملاكي صغيرة فى بلد خارج الدول المحيطة بإسرائيل لا يشكل هدفاً للعمليات العسكرية الإسرائلية البعيدة المدى ما لم يثبت أن هنالك شيئا أو شخصا فى العربة يهم إسرائيل التخلص منه وهذا بالقطع سيفتح صندوق بندورا .
 لم ير الوزير ما يدعوه لتبرير ذلك، ولم يجد عبدالعاطى ما يساعده على ذلك. من المسائل التى تميز الأنظمة السلطوية، هى التصريحات الملقاة على عواهنها، حيث يؤدى إنعدام المحاسبة إلى أنظمة تفتقد الذاكرة، ينتهى فيها التاريخ بإنتهاء اليوم الذى صدر فيه التصريح، لذلك فإن بلاغة التصريح بغض النظر عن معقولية محتواه تصبح هدفاً فى حد ذاتها. وهكذا تصاعد الهجوم فى الأيام التالية على إسرائيل، وتمت مناقشة المسألة بشكل تراجيكوميدى فى المجلس الوطني، الذى إستدعى وزير الدفاع، وفى مهرجان من التصريحات النارية إنتهى بأن منح المجلس الوطني الوزير إذناً برد الصاع صاعين، وهو يعلم ويعلمون أنه أمر لاقبل له به . بدون الغوص فى التفاصيل فإن تدمير العربة قد يكون جزء من حرب مخابراتية تشمل عدداً من الدول، ظهرت على السطح بعض مظاهره: فى ضرب القافلة فى الطريق الساحلي فى شرق السودان فى عام 2009، وإغتيال المبحوح فى دبي فى العام الماضى، وهى مسائل عادة يكف المسئولون الحكوميون للاعبين الرئيسيين فيها عن الإدلاء بتصريحات حولها .
لتبرير أهمية ما فى العربة لإسرائيل، ذكر السيد وزير الخارجية أن الغرض هو تشويه سمعة السودان وإلصاق تهمة الإرهاب به، وهو تبرير يصلح لتبرير الهجوم الإسرائيلي اكثر من إدانته، على الصعيد الدولى، فهو إقرار بوجود نشاط إرهابي مستخدمة فيه العربة موضوع الهجوم، أو ضالع فيه ركابها. المسألة هى أن للدولة السودانية مصالح حيوية متعارضة مع مصالح الدولة الإسرائلية وأن لكل من الدولتين أصدقاء وأعداء، وهذا هو مجال للحرب المخابراتية، وأهم سلاح فى تلك الحرب هو السرية، والتى تقتضى عدم تدخل السياسيين فيها، بل تترك تماما للجهات الفنية التابعة لأجهزة الدولة، من مخابرات أمنية وقوات مسلحة، وكلما قلت التصريحات حولها كان الأمر أجدى، لذلك فإنه حتى هذه اللحظة لم يصدر أى تصريح عن الحكومة الإسرائلية عن هذه العملية فى حين صدرت عدد من التصريحات عن المسئولين السياسيين السودانيين يصعب إحصاؤها، وقد كانت تلك التصريحات مما يصلح لأن يدرس فى المعاهد كمثال لإرتباك أهل النظم السلطوية حين يحتاجون لمخاطبة العالم الخارجي .
إختلاط أجهزة الدولة بأجهزة الحكومة، يؤدى إلى الإقلال من فاعلية كليهما، وقد قلنا ذلك حين حاولت الحكومة الزج  بجهاز الأمن والمخابرات فى نزاعها السياسي مع معارضيها، وذكرنا أن هذا الزج من شأنه ليس فقط الإخلال بالحقوق الدستورية للمواطنين، بل أيضا الإقلال من فاعلية جهاز الأمن، وقدرته على التصدى لمهامه الأساسية . إن الوظيفة الأساسية لجهاز الأمن والمخابرات، هو إدارة مشاريع الدولة لإضعاف القوى الخارجية المعادية، وإفشال مشاريع تلك القوى، وإن ذلك لا يتم فقط بعلم حكومة اليوم، بل أيضا بعلم المعارضة، التى قد تصبح حكومة الغد، لأن هذه الحرب مع القوى الخارجية تنطوى على خطط ومشاريع لا تنتهي بإنتهاء ولاية حكومة اليوم . ترك إدارة ذلك الصراع لأجهزة الدولة شرط أساسى لإنجاحه .
نبيل أديب عبدالله
المحامى
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *