سيكون اللقاء المرتقب بين الرئيس ترامب ورئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون تاريخيًا بغض النظر عن النتيجة التي سيكون لها تداعيات كبيرة للسنوات القادمة. فالصراع حول ترسانة كوريا الشمالية النووية والصواريخ الباليستية معقّد. إنه مدفوع بعقلية تغمرها الشكوك المتبادلة والريبة العميقة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية التي تعود إلى سبعة عقود تقريبا ً وألحقت أضرارا ً جسيمة بنوايا الطرفين النهائية. لقد انتهكت كوريا الشمالية العديد من الإتفاقيات مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة لإنهاء برنامجها النووي، هذا في حين حافظت الولايات المتحدة على عدائها المفتوح ولم تخفِ رغبتها في إحداث تغيير للنظام. والأمر الذي غيّر من ديناميكية الصراع بشكل ٍ جذريّ على أية حال هو إلتقاء أربعة تطورات رئيسية سمحت لرئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون بدعوة الرئيس الأمريكي رونالد ترامب للتفاوض وإنهاء الصراع.
أولاً ، نجحت كوريا الشمالية في أن تصبح قوة نووية مع وجود مخزون من تلك الأسلحة يكفي لردع أي عدو ، بما في ذلك الولايات المتحدة، من إستعمال القوة للإطاحة بسلالة كوريا الشمالية الحاكمة مع الإفلات من العقاب. لقد أتقنت تكنولوجيا الصواريخ العابرة للقارات التي توفر لها نظام تحميل للرؤوس النووية ، وخلصت إلى أنه لم يعد بوسعها تحسين موقفها من خلال إطالة أمد الصراع. وبعد أن وصلت كوريا الشمالية إلى هذا الإنجاز ، غيرت ديناميكية الصراع ، مما مكّن كيم من التفاوض من موقع قوة.
ثانياً ، على الرغم من أن العقوبات والعزلة الدولية لعبت دوراً بالتأكيد ، إلا أنها لم تكن حاسمة كما حاولت إدارة ترامب أن تعرضها. وبالفعل ، فقد عانت كوريا الشمالية من العقوبات لسنوات عديدة ، لكنها أتت إلى طاولة المفاوضات في الماضي لأسباب تكتيكية ،ساعية للحصول على راحة مؤقتة من العقوبات فقط لاستئناف تطوير تكنولوجيتها النووية والصاروخيّة. والآن وبعد أن أصبح قوة نوويّة معترف بها، يبحث كيم عن تغيير إستراتيجي يرفع العقوبات بشكل ٍ دائم وذلك لتخفيف المحنة الإقتصادية عن شعبه وتزويدهم باحتياجاتهم الأساسية والملحة ، في حين يظهر أن النظام يفي بوعوده.
ثالثًا ، من خلال لقاء الرئيس ترامب لإجراء محادثات مباشرة سيُمنح كيم الشرعية التي كان يتوق إليها في الوقت الذي يضمن فيه معاملة كوريا الشمالية كدولة مستقلة بين دول المجتمع الأممي. فمشاركة كوريا الشمالية في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية أذابت الثلج بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية وأتاحت الفرصة لرئيس كوريا الجنوبية مون جاي-إن (الذي ستتأثر بلاده بالدرجة الأولى بظروف الحرب أو السلم) للتوسط في لقاء ٍ وجها ً لوجه بين ترامب وكيم الذي قبل هذا اللقاء.وعلى الرغم من أن وفد كوريا الشمالية (بقيادة كيم نفسه وهذا أمر غير مألوف) سافر إلى الصين لمواكبة التطورات المستجدة فيما يتعلق بالقمة المعلقة وضمان دعمها ، غير أن هذا يدلّ أيضا ً على جدية كيم في التوصل إلى اتفاق مع إدارة ترامب.
وأخيراً ، ومهما بدا ذلك غريبا ً، فقد نقل ترامب وكيم مبارتهما اللفظية ضدّ بعضهما البعض من خلال الإهانات والتصريحات اللاذعة والتهديدات والتهديدات المضادة مقترنة بجرأة ٍ غير مهذبة وتبجّح لا مثيل له من رؤساء دول. لقد أراد الإثنان بتحدّ ٍ وجرأة وغرور “منتفخ” مقترنة بامتعاض المجتمع الدولي أن يبرهنا للعالم أن بإمكانهما السير ضدّ التيار السياسي والروابط الدبلوماسية الطيبة لتحقيق ما عجز أسلافهما عن تحقيقه.
بيونغ يانغ تريد على أية حال أن تأتي إلى طاولة المفاوضات بمجموعة من المطالب ، بما في ذلك: التأكيد على أن الولايات المتحدة تريد الإعتراف بالنظام الكوري الشمالي كحكومة شرعية وليس السعي لتغيير النظام. رفع جميع العقوبات دون ربطها بحقوق الإنسان ؛ إنهاء التدريبات العسكرية مع كوريا الجنوبية ؛ والحد بشكل كبير من قواتها العسكرية في كوريا الجنوبية وتوقيع معاهدة سلام بعد التوصّل إلى إتفاقية شاملة.
والمطالب الرئيسية للولايات المتحدة هي نزع السلاح النووي لشبه الجزيرة الكورية الذي تعتبره إدارة ترامب قضية أساسية لأي اتفاق، وأن تجمّد كوريا الشمالية المزيد من اختبارات الصواريخ الباليستية وتنهي على الفور تطوير الرؤوس الحربية النووية المصغرة التي يمكن تركيبها على الصواريخ العابرة للقارات. وأخيرًا ، الإنضمام إلى معاهدة منع إنتشار الأسلحة النووية (NPT) وقبول نظام المراقبة الأكثر تقييدًا من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA).
وبغض النظر عن مدى حسن نية الزعيمين في إنهاء الصراع، فإن القمة المرتقبة – نظراً لضيق الوقت وعدم قدرة أي من الزعيمين على التعامل مع التعقيدات التكنولوجية المقترنة ببيئة تفتقر تماماً إلى الثقة – لن تتمكن من حل هذه القضايا المعقدة ولن تحلها. وبالتالي ، ينبغي ألا يكون لدى أي من الطرفين توقعات عالية للتوصل إلى اتفاق في وقت قصير. بالنسبة لكوريا الشمالية والولايات المتحدة المخاطر كبيرة ، وقد يؤدي انهيار المفاوضات قبل الأوان إلى تفاقم الأمور ، وهو ما يجب على الجانبين تجنبه. يمكنهما في أحسن الأحوال أن يمهدا الطريق لمفاوضات جوهرية لاحقة.
.وزير الخارجية المعين والمدير السابق لوكالة المخابرات المركزية مايك بومبيو على دراية بكل تأكيد بموقف كيم وطبيعة العلاقات التي يريدها مع كوريا الجنوبية ودول أخرى في المنطقة. وعلى الرغم من أن بومبيو متشدد ومتشكك للغاية من الزعيم الكوري الشمالي ، فإنه يجب عليه اغتنام هذه الفرصة التاريخية للتوصل إلى اتفاق دائم.
أما البطاقة المجهولة هنا فهي تعيين جون بولتون مستشارًا للأمن القومي وهذا معروف بآرائه المتطرفة. لقد دعا إلى إلغاء الإتفاقية الإيرانية وقصف كوريا الشمالية لتدمير ترساناتها النووية ، الأمر الذي قد يعجل بحرب مروعة تسبب موت مئات الآلاف من الكوريين الشماليين والجنوبيين واليابانيين والأمريكيين ، وربما تؤدي إلى حرب إقليمية أوسع بكثير.
وبومبيو ، بدعم من وزير الدفاع ماتيس الذي يؤمن بشدة بالحل الدبلوماسي ويتمتع بثقة ترامب ، يجب أن يحرر بولتون ويقنع ترامب بأن القوة ضد كوريا الشمالية ستؤدي إلى كارثة. لكن على بومبيو أن يكون واقعيّا ً على أية حال حول ما يمكن تحقيقه في البداية والبناء عليه للتوصل إلى اتفاق دائم. ولهذا السبب ، يجب عليه أن يأتي إلى طاولة المفاوضات على أساس أن فترة انتقالية تتراوح بين خمس وسبع سنوات ستكون ضرورية حيث يقوم الجانبان خلالها باتخاذ تدابير لبناء الثقة من أجل تعزيز الثقة والوصول إلى إتفاقيات مرحلية مؤقتة تتناول مختلف جوانب الصراع الذي سيؤدي في النهاية إلى نزع السلاح النووي.
يجب على أي اتفاق مبدئي أن يفي بالمطالب الأولية للجانبين: بالنسبة لكوريا الشمالية رفع العقوبات، ولو بشكل تدريجي ، هو قضية مركزية ، وبدون ذلك لن يكون هناك سببا ً لدخول أي مفاوضات. وبالنسبة للولايات المتحدة ، فإن الوقف الفوري لأي تجربة نووية وتجميد تطوير صواريخ كوريا الشمالية العابرة للقارات هو شرط أساسي لاستمرار عملية التفاوض.
يجب إزالة الحديث عن الحرب ضد كوريا الشمالية ، كما كان يدعو بولتون ، من المعجم لأنه يتجاوز الجنون. الحل يكمن في الدبلوماسية، والدبلوماسية فقط التي يجب متابعتها الآن، خصوصا ً وأن ظروف التوصل إلى اتفاق هي أكثر ملاءمة من أي وقت مضى.
إن الديناميكية المتغيرة للصراع لصالح كيم وتطلع ترامب للتوصل إلى اتفاق فشل سلفه في تحقيقه توفر فرصة تاريخية لإنهاء صراع عمره 70 عامًا، وهي فرصة لا يستطيع أي من الزعيمين أن يفوتها.