وزير العدل ووهم حصانة رئيس الجمهورية

وزير العدل ووهم حصانة رئيس الجمهورية
المحامي/ حسن بشارة إبراهيم
اختتم يوم الثلاثاء 15 مايو، في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا ، اجتماع وزراء العدل والمدعين العامين الأفارقة بمشاركة وزراء العدل والنواب العامين والمدعين العامين أو ممثلين مكلفين من الدول الأعضاء بالاتحاد الإفريقي .
وقد بحث في هذا الاجتماع الذي استمر ليومين مشروع البروتوكول المنشئ للمحكمة الإفريقية للعدل وحقوق الإنسان والتي تمثل دمجاً بين المحكمتين الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب والمحكمة الإفريقية للعدل في إطار محكمة واحدة بولاية قضائية أوسع لتشمل صلاحياتها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الاعتداء بالإضافة إلى الإرهاب والفساد .
كما تطرق الوزراء إلى البروتوكول المعدل لبروتوكول الجماعة الإفريقية المنشأ للبرلمان الإفريقي ليضطلع بصلاحيات تشريعية أوسع بدل الدور الاستشاري الذي كان يلعبه منذ تاريخ إنشائه .

في هذا الاجتماع قال وزير العدل مولانا محمد بشارة دوسه إن الرئيس عمر البشير يتمتع بحصانة كاملة استناداً على مبدأ السيادة وله الحق بزيارة أي دولة ، وعلى الدولة استقباله دون الخضوع لإملاءات سياسية ، وطالب وزراء العدل والنواب العامين للاتحاد الأفريقي ، بتبني رؤية موحدة من المحكمة الجنائية الدولية تراعي مصلحة القارة الأفريقية، ورؤساء الدول الإفريقية الذين أصبحوا مستهدفين من الولايات المتحدة و الدول الأوربية .
من خلال  هذا الحديث لوزير العدل أود أن أوضح نقطتين ،  النقطة الأولى: أن كلام  الوزير يعتبر مناقضاً تماماً  لكل قواعد القانون الدولي الجنائي و لأنظمة المحاكم الجنائية الدولية ، فعلى الرغم من الحصانة الدبلوماسية التي يتمتع بها رئيس الدولة ( بموجب اتفاقية فيينا الدولية ) و ما منحته التشريعات الوطنية لرؤساء الدول بعض الحصانات ، إلا إنها لا تقف عائق من المسائلة  فيما يتعلق بارتكاب الجرائم الدولية ، فقد انتهى عهد تقديس الحكام ووضعهم فوق القانون ، فالكل الآن أصبح يخضع للقانون والمسائلة القانونية ، وقد اتفق الفقه الدولي والقضاء الدولي على ذلك ، وأكدت على ذلك العديد من الاتفاقيات الدولية ، وقد اتفقوا على أنه لا يتمتع رئيس الدولة ، وإن كان يمارس مهامه الرئاسية  وقت حصول المحاكمة أو عند صدور الحكم الجنائي بحقه  بأي حصانة جنائية في وجه المحاكم الجنائية الدولية .
لقد نصت معاهدة فرساي الموقعة في العام 1919م على أن حصانة رؤساء الدول ليست حصانة مطلقة ، و هي تسقط إذا ما وجهت إلى الرئيس القائم بوظائفه تهماً بارتكاب جرائم دولية .
وأيضاً نصت المادة (7) من النظام الأساسي لمحكمة نورمبرغ  على «أن المنصب الرسمي للمدعى عليهم  سواء بوضع رؤساء دول أو بصفة موظفين رسميين في إدارات الحكومة لن يعفيهم من المسؤولية أو يخفف عنهم العقوبة .
كذلك نصت على ذلك المحاكم الجنائية الدولية الخاصة في كل من يوغسلافيا و رواندا على تقرير هذا المبدأ في النظام  الأساسي لكل منه ، فمرتكب الجريمة الدولية يجب أن يعاقب مهما كانت صفته سواء كان ممن يتمتعون بحصانة بموجب قواعد دولية أو داخلية ، حتى لا يكون هناك تهرب من المساءلة عن هذه الانتهاكات تحت ستار الحصانة .
هنالك تطور في القانون الدولي عن مسؤولية الرؤساء الجنائية عن الجرائم الدولية ، لاسيما بعد إقرار معاهدة لندن سنة 1945م و ميثاق المحكمة الدولية في نورمبرج ، إلا أن قمة تطور القانون الدولي الجنائي هو أنشاء تلك القواعد التي تتضمن مساءلة الفرد جنائياً ، حيث تم تأسيس المحكمة الدولية الجنائية وتبني النظام الأساسي للمحكمة في 17/7/1998 ومنحها الاختصاص في محاكمة مرتكبي الجرائم الخطيرة التي تهم المجتمع الدولي و إنهاء ظاهرة الإفلات من العقاب لأن الجريمة الدولية تتميز بخطورتها وبشاعتها واتساع أثارها وإنها تهدد المجتمع الدولي بأسره لذا فإن سلب مرتكبيها من حصاناتهم التي منحت لهم حسب القانون والتي تحول دون تقديمهم للمسالة الجنائية ، مهما بلغت المناصب التي يعتلونها وحتى لو كان مرتكبها يجلس على أعلى قمة للهرم الوظيفي للدولة ، لان الجريمة الدولية لا تقف عند حدود الدولة التي شرعت فيها القوانين التي منحت مرتكبها الحصانة والصفة الرسمية بل هي جريمة ترتكب ضد الإنسانية جمعاء ويمتد أثرها ليشمل جميع البشرية وفي كل بقاع العالم و لذلك لا يمكن الاستناد إلى مبدأ الحصانة للتنصل من المسؤولية الجنائية و الإفلات من العقاب ، لأن مثل هذا الإجرام الدولي أضحت تهدد بفناء البشرية.
بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية استقر في القانون الدولي الجنائي مبدأ عدم الاعتداد بالحصانة في الجرائم الدولية , فقد نصت المادة (27) من نظامها الأساسي على انه :-
1 ـ  ( يطبق هذا النظام الأساسي على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون إي تمييز بسبب الصفة الرسمية، وبوجه خاص فإن الصفة الرسمية للشخص ، سواء كان رئيساً لدولة أم حكومة أم عضواً في حكومة أو  برلمان أو ممثلاً منتخباً أو موظفاً حكومياً ، لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسؤولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي , كما أنها لا تشكل في حد ذاتها سبباً لتخفيف العقوبة .
2  ـ لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص ، سواء كانت في إطار القوانين الوطنية أم الدولية دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص ) .
يؤكد هذا النص مبدأين مهمين ، المبدأ الأول هو مساواة الأشخاص أمام هذه المحكمة بصرف النظر عن الصفة التي يتمتع بها أي منهم ، حتى ولو كانت هذه الصفة رسمية ، بمعنى أن الصفة الرسمية ليست سبباً لتمييز من يتمتع بها عن الآخر الذي لا يحمل هذه الصفة، أما المبدأ الثاني فيخلص إلى عدم الأخذ بالحصانات أو القواعد الإجرائية سواء نص عليها في القوانين الجنائية الوطنية أو الدولية .  ويبدو أن المشرع الدولي حاول جاهداً في نص المادة (27) من نظام المحكمة إلى تلافي الدفع بعدم مسؤولية القادة أو الرؤساء أمام القضاء الدولي بعد أن أصبحت عائقاً في المحاكمة أمام القضاء الوطني ومن شأنه إفلات المسئولين من العقاب .
لذلك فإن الاتفاقيات التي تنص على حصانة رئيس الدولة تعتبر باطلة بطلاناً مطلقاً ولا يجوز الأخذ بها ؛ لأنها تخالف قاعدة من قواعد القانون الدولي ، ولذلك فهي في حكم القانون الدولي منعدمة ؛ أي لا يترتب عليها القانون الدولي أي آثار قانونية ولا حجة لها أمام القضاء الدولي والقضاء الوطني   النقطة الثانية : أن محكمة الجنايات الدولية لا تستهدف القادة الأفارقة وحدهم ، فقد تم إنشاء محكمة جنائية دولية خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة ، بموجب القرار 808 الصادر عن مجلس الأمن بتاريخ 22/2/1993. وقد تضمن نظام المحكمة قواعد مباشرة لمساءلة الأفراد مرتكبي الجرائم الدولية وقد مارست هذه المحكمة مهمتها في محاكمة القادة من المتهمين بارتكاب جرائم في يوغسلافيا السابقة عن مخالفتهم لقواعد القانون الدولي الإنساني كالقتل الجماعي والطرد والاغتصاب والاحتجاز والاعتداء والتطهير العرقي.
فقد ورد في المادة (28) من النظام الأساسي لمحكمة يوغسلافيا عام 1993 على انه « لا يعفي المنصب الرسمي للمتهم سواء أكان رئيس دولة آو حكومة أو مسئولاً حكومياً ، هذا الشخص من المسؤولية الجنائية أو يخفف من العقوبة ». وبالفعل تمت مساءلة الرئيس اليوغسلافي السابق، سلوبودان ميلو سوفيتش والذي توفى لاحقاً في السجن، أمام هذه المحكمة ، وقد ضربت محكمة يوغسلافيا الأمثلة للقضاء الوطني في كيفية التعامل مع المتهمين بارتكاب جرائم القتل الجماعي والتطهير العرقي، وعدم تركهم يظهرون بمظهر الأبطال القوميين. حتى بدأت المحاكم الصربية والكرواتية اعتباراً من عام 2005 بمحاكمة مواطنيها الضالعين في جرائم حرب ، و يذكر بعد الحرب العالمية الثانية تم إنشاء محكمة عسكرية دولية لمحاكمة كبار مجرمي الحرب في بلاد المحور و قد أنشأت المحكمة الدولية في نورمبرج و أيضاً محكمة طوكيو .
يا سعادة وزير العدل فإن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ليس المقصود منه استهداف الأفارقة فحسب فهذا مفهوم قاصر و خاطئ ، إنما المستهدفين هم مرتكبي جرائم الحرب و الإبادة الجماعية و الجرائم ضد الإنسانية على امتداد العالم أمثال الرئيس عمر البشير و غيرهم دون تمييز ، و ذلك لتحقيق العدالة المنشودة ووضع الحد لفلسفة الإفلات من العقاب ، و مسألة القبض على عمر البشير و تسليمه لمحكمة الجنايات الدولية في لاهاي لتتم محاكمته عن الجرائم التي ارتكبها في دارفور هي مسألة وقت و لكن حتماً في النهاية سوف يتم ملاحقته و يقدم للمحاكمة عن جرائمه البشعة التي اقترفها ، و يوماً بعد يوم  يتم التضييق عليه و محاصرته و كل ذلك من أجل تحقيق العدالة و معاقبة القتلة .
سعادة الوزير ما قولته حول حصانة الرئيس عبارة عن وهم و خيال و أنت رجل القانون و سيد العارفين ، بعد صدور نظام روما الأساسي بشأن المحكمة الجنائية الدولية فلم يعد يعتد الدفع بالحصانة كسبب للإفلات من الجزاء ، فالمادة 27 جاءت واضحة كوضوح الشمس في كبد السماء لا تحتاج إلى فلسفة أو تفسير آخر سوى تنفيذ قرار المحكمة بالقبض عليه و تقديمه
للعدالة الدولية ، كذلك لا يعتد بالدفع بأن السودان ليس طرفاً في النظام الأساسي للمحكمة الدولية و لم يوقع على نظام روما .
المحامي / حسن بشارة إبراهيم
ليــــبــــيا
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *