مصير المالكي والعبرة لبقية الزعماء

د. عبدالوهاب الأفندي
(1) هناك ما يكفي من العبر والعظات لمن شاء أن يتعظ من الحكام من مصائر طغاة سابقين، من فرعون إلى هتلر ومن لحق بهما من فراعنة صغار وكبار. ولكن لسبب ما لا يتعظ هؤلاء حتى يلقوا المصير المناسب. وقد كان لرئيس الوزراء العراقي المقال نوري المالكي ما يكفي من عظة من سلفه صدام الذي أشرف شخصياً على شنقه، وكذلك في جاره بشار الأسد الذي دمر بلاده بأكثر مما فعلت إسرائيل بغزة. ولكن المالكي ومن مالأه لا يتعظون، كما لم يتعظ شاوشيسكو ولا ميلوسوفيتش أوبشار، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
(2)
كان بإمكان المالكي، الذي حكم لثماني سنوات أحد أغنى البلدان العربية بالموارد والخبرات، أن يكون رئيساً لكل العراقيين، يجيش طاقاتهم للبناء والتعمير، ويشيع بينهم روح التعاون والمحبة، ويجعل العراق بلد قيادة وريادة في المنطقة، بدلاً من أن يكون ولاية إيرانية أو محمية كردية. ولكنه اختار بدلاً من ذلك أن يفرق بين العراقيين، وأن يبعثر مواردهم في القتل والتدمير. وقد تضاءل العراق في عهده مساحة ومكانة وسكاناً وموارد حتى كاد يتلاشى. ولو بقي لفترة أخرى لكان العراق اختفى، وهو معه.
(3)
ولكن الحكماء من أهل العراق وأصحاب النفوذ فيه توصلوا –بعد لأي- إلى أن اختفاء المالكي من المشهد السياسي مبكراً أفضل من انتظار اختفاء العراق معه. وقد أظهر هذا القرار السهولة التي يمكن بها إصلاح أمور البلاد بمجرد اتخاذ القرارات الصائبة والمواقف السليمة. فقد التف غالبية العراقيين حول قرار تنحية المالكي واختيار خلف له أبدى استعداده للاستماع إلى شركاء الوطن، كما جاء التأييد للعراق الجديد من الجيران والأباعد معاً، فخف الجميع لمساعدته في الدفاع عن نفسه وإنقاذ وحدته وأمنه.
(4)
ولكن المالكي ما يزال يتصرف بعقلية الدكتاتور الذي يقول علي وعلى أعدائي، ولا يهمه تدمير العراق من أجل التمسك بسلطة لا معنى لها في بلد يتمزق، كما فعل أسلافه موبوتو وسياد بري ومنغستو وميلوسوفيتش، ويفعل آخرون اليوم يصرون على أن يحلوا قومهم وأنظمتهم دار البوار.
(5)
المعادلة اللازمة لحكم أي بلد هي في غاية البساطة، ولا تحتاج إلى عباقرة لفهمها. فأي نظام حكم صالح يسعى بالضرورة إلى توحيد طوائف الشعب حول القيم والأهداف النبيلة والمصالح المشتركة، وأن يكون في حالة استماع دائم لصوت الشعب عامة وأصوات المظلومين والمتألمين خاصة. وبالعكس فإن نظام الحكم الفاسد والفاشل يتبع السنة الفرعونية في جعل أهل البلاد شيعاً يستضعف طائفة أو طوائف منهم، ويضرب بعض الشعب ببعض، ويشيع الخوف بدل الأمن، والشقاق بدل الوفاق. والحاكم المجرم يستخدم موارد البلاد لمنفعته وأوليائه الشخصية، ولإغراء الفاسدين المفسدين لمشايعته، وللوقيعة بين الناس. وبدلاً من البناء والتعمير، ينصرف إلى القتل والتنكيل بالناس. وعموماً يحول البلاد إلى جحيم للغالبية، مقابل الحاكم الصالح الذي يسعى في أن ينعم الغالبية بالراحة والأمن والرفاه.
(6)
لا يعدم حكام السوء وبطانتهم المبررات لسيئ أفعالهم، حيث يتهمون دعاة الإصلاح بأنهم يقوضون الاستقرار ويريدون «أن يذهبوا بطريقتكم المثلى». وهم يخوفون العامة من الآخر الطائفي، أو النقيض «الإسلامي»، وغير ذلك ممن مسميات الزور والبهتان. ولكن على طريقة الطفل الذي أكثر من التحذير من الذئب، فإن مثل هؤلاء المدلسين يختلقون الذئاب غير الموجودة، فتخرج لهم ذئاب من حيث لا يحتسبون، تلتهمهم وتلقف ما يأفكون.
(7)
العبرة من مصير المالكي ومن سبقه –وكثيرين ممن سيلحقون به بلا ريب- هي أن طريق الحكم الصالح هو الأقصر للسلامة والاستقرار. وهو طريق يقوم على تحري المصلحة العامة لا الخاصة، والتوحيد بدل التفريق، والاستماع إلى الغير بدل الصمم ومقولة «ما أريكم إلى ما أرى».
(8)
يمكن لحكام مصر (التي صادفت بالأمس ذكرى أسوأ مجزرة في تاريخها) وبقية بلدان المنطقة اختصار الطريق وتجنب مصير السلف غير الصالح باتباع هذه الصيغة البسيطة الموفرة للوقت والموارد، وقبل ذلك كله، للارواح. ولكن ليس هناك بلد أحوج إلى الاستفادة من عبرة الحالة العراقية من السودان الذي يشبه العراق كثيراً، خاصة لجهة غناه بالموارد وتراثه الحضاري العريق، إضافة إلى معاناة مماثلة ومبكرة من الاحتراب العرقي والشطط الأيديولوجي.
(9)
هناك ما يثبت ذلك في تاريخ السودان القريب. فعندما توافق السودانيون على نبذ الحرب في نيفاشا في مطلع عام 2005، ساد الوفاق والتعاون، والتف العالم كله حول السودان، وشهدت البلاد ازدهاراً غير مسبوق. ولكن جائحة دارفور والعجز عن معالجتها كدرت هذا التصافي، ومالبث نكوص أهل الحكم عما ألزموا به أنفسهم، وما ارتكبوه من تجاوزات في انتخابات 2010 (وقبلها وبعدها) أن أعاد الأوضاع إلى ما هو أسوأ.
(10)
مرة أخرى حانت فرصة عندما أعلن الرئيس السوداني في مطلع هذا العام دعوة إلى الحوار سارع الخصوم قبل الأنصار إلى تلقفها وهرعوا إلى مائدة الحوار. ولكن عندما بدأ التراجع والنكوص، وظهر أن المائدة التي دعي الناس إليها خاوية من أن أي ضيافة، عادت الاوضاع إلى التردي. وهذا يطرح واحدا من اهم الأسئلة في واقعنا القائم: لماذا يفضل البعض لعنات الناس (والملائكة) على محبتهم ومودتهم، والدماء والأشلاء على البناء والإصلاح، والفقر والبؤس على الخير والرفاه؟ سؤال نوجهه لهم عسى أن ننتفع بعلمهم بعد أن لم نستفد منهم أي شيء آخر.
د. عبدالوهاب الأفندي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *