محمد المكي ابراهيم شاعر اكتوبر الرقيق الثائر
في ليلة الثلاثين من مايو وانا احرك مؤشر التلفزيون عثرت في قناة النيل الازرق السودانية الفضائية علي مقابلة يجريها مقدم البرامج القدير سعد الدين حسن مع الشاعر الكبير الرائع محمد المكي ابراهيم قيثارة النشيد الاخضر لثورة اكتوبر , وغمرتني اشواق من الفرحة الطاغية التي اشعلت في النفس نار الحماس التي تأججت في تلك الايام الاكتوبرية الخالدة والتي كادت ان تهيل عليها الرماد ايدي البغي والرجعية , ولكن هيهات فالمشاعر والرغائب والاماني قد تركن وتهدأ ولكنها لا تخبو ولا تموت , فالنار تظل مشتعلة ابداً تحت الرماد ! وغطتني الوان من السعادة وانا استمع الي الشاعر وأولها هي رؤية هذا الرجل للمرة الاولي , وثانيها حديثه العفوي المخلص الصادق المرتب دون تقعر او تصنع او رياء , والي ذلك او فوق ذلك أوبة هذه العقول النيرة والنفوس الامينة الي موطنها الذي ابتعدت عنه اعتسافاً وظلماً , والذي اصبح لا مكان فيه للحر وللفكر الحر والسبيل المستقيم , فمن لم تحجزه سجون ومعتقلات البغاة عاش خارجها في سجن كبير يكتنفه العوز والسقم والاضطهاد وملاحقة جلاوزة الامن , وتسلط الجهلاء والعاطلين عن الموهبة وانصاف وارباع القادرين , ان كانت لديهم قدرة , علي مقدرات ومصائر البلد والناس !
سعدت أيما سعادة وانا استمع بكل حواسي الي الشاعر في شعره وفي بسطه لأحلامه ورؤاه لسودان المستقبل , وكيف كنا وكيف اصبحنا , ومما ذكره انه كان طفلا أيام الاستعمار ولكن كان هناك تعليم جيد وصحة جيدة وامن مستتب وعدالة راسخة ومعيشة راضية . ما قاله الشاعر كله حق وصدق , فأنا كنت شاباً يافعاً في حقبة المستعمر وكنت من قادة الطلبة ونلت نصيبي من الفصل من الدراسة مع الزملاء اعضاء اتحادات الطلبة في الثانويات وكلية غردون او المدارس العليا (جامعة الخرطوم لاحقا) , وكان الطلاب في الثانويات في السودان وهي حينذاك ثانويات وادي سيدنا وحنتوب الحكوميتين والاهلية والاحفاد الاهليتين وفي المدارس العليا كانوا وكنا مع عمال السودان الممثل في اتحادهم العظيم طليعة او حراب الكفاح الموجهة لصدور المستعمر بالمظاهرات التي سيرناها والاضرابات التي نفذناها وباشعال الوعي وسط جماهير شعبنا التي لم تنحني قط للبطش ولا استنامت للذل والطغيان , وكنا علي قلب رجل واحد , وتوارت القبلية والعشائرية ولم نستمع بمن يقول او ينادي بقبلية او عصبية , فكلنا سودانيون فحسب , وهدفنا واضح وجلي ومحدد وهو الخلاص من الاستعمار وتكييف اقدارنا بأيدينا , وحقق الشعب الاستقلال , وكانت لدينا آمالاً عراض في ان يتحقق لشعبنا الرخاء والعزة والاثر الحميد بين الامم.
وكرت السنون , وحكمنا بنو وطننا , ولكن صدق فينا المثل (في كل عام ترزلون) , وياللحسرة والاسف صرنا نتحسر علي ايام المستعمر وما كان فيها من نظام وادارة رشيدة يضرب بها المثل , وامن وعدل وسلام , وتعليم ممتاز وخدمات صحية متميزة , فأصبحنا في احتراب واختلاف , ودمار وخراب , وهلاك للأنفس , وتبديد للأموال , واجترحوا جرائماً يندي لها جبين الفضيلة خجلاً , كالتعذيب والاغتصاب , وحرق القري , واخراج الناس من اراضيهم وديارهم .
وأما عن الشعر , فقد حلّقت نسوره بعيداً في فضاءات الدنيا الرحيبة خارج وطننا , وخلا الجو لبغاث الطير من المتشاعرين والادعياء فصدمت اسماعنا اغان مثل (جلابية بيضا ومكوية) و(راجل المرة حلو حلا) , وامثال هذا الهذر والسخف وسقط الكلام . كما اقفر السودان من ابنائه المجيدين في كل مجال بعد ان هاجروا بما فضل من كرامتهم وعافيتهم .
كنت في مؤتمر للموجهين في مدينة أبها الجميلة في السعودية وبها كلية تربية راقية ووجدت هناك صديقي القديم مصطفي صالح عبد المجيد والذي كان رئيساً لقسم اللغة الانجليزية ببخت الرضا ووجدته يشغل نفس المنصب بكلية تربية أبها , فدعاني للعشاء بمنزله ووجدت مدعوين معي ثلاثة دكاترة سودانيين كانوا يعملون بكلية التربية بجامعة الخرطوم , وبالرغم مني ابديت دهشتي وقلت لصديقي مصطفي لقد كاد ان يفرغ السودان من الكفاءات , واجابني بأن لا أعجب لأن نجوم السودان اضحوا كلهم في الخارج !
في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين الماضي وكانت الحركة الوطنية في أوج تأججها كان هناك رجل يدعي العم أزرق قد كوّن حزباً ينادي بأن يبقي الانجليز يحكمون السودان لمدة عشرين عاماً علي الاقل , وتشاء الصدفة أن التقي به في طرّاحة (تاكسي) في ايام حكم نميري , وكعادة السودانيين – في الماضي علي الاقل – يتجاذبون اطراف الحديث خلال الرحلة ,ومما قاله العم أزرق (يا أولادي انحنا زمان قلنا الانجليز ما يطلعوا ولسه بدري علينا , أها .. شوفوا جنس الخمج النحنا فوقو ده) , وهذ يذكرني بقول رجل آخر وهو الاستاذ عبد الرحمن حمزة حسين وكان من قادة الاتحاديين وقادة الحركة الوطنية , ولكنه آثر بعد الاستقلال ان يرجع الي مهنته الاصلية وهي التدريس . لقد قال الاستاذ عبد الرحمن (جربنا حكم الجنرالات وما نفع (ناس عبود) , وجربنا حكم الرواد وما نفع (ناس نميري وابو القاسم والباقين) حقو بعد ده نديها للكشافة) .. فما بالكم بما يحدث الآن في هذا العهد الانقاذي !؟
عزيزي الشاعر الثائر محمد المكي , لقد مر علينا حين من الدهر في حكم البغاة والطغاة حرمونا فيه حتي من الاستماع الي اناشيد ثورة اكتوبر في الاذاعة والتلفزيون دعك عن الاحتفال بذكراها , بل بلغ بهم الحال من الخوف والرعب ان يتحسبوا لها بأعتقال كل الوطنيين مسبقاً !
ان حكم الظلم والفساد والاستبداد الي زوال لا محالة وسيرجع اكتوبر أخضراً يانعاً .
حياك الله ومتعك بالصحة والعافية وأدامك صزتاً للمهمشين والمحزونين والمظلومين .
هلال زاهر الساداتي
[email protected]