ليت السيسي سلم البشير للجنائية بدل سحب رمزية «سيادة» شعب

محجوب حسين

ساد اهتمام سوداني منقطع النظير بزيارة الدولة التي سجلها المشـــير الســوداني لجمهـــورية مصـــر العربـــية مؤخرا، والتقى خلالها نظــــيره المشير المصري، هذا الاهتمام الاستثنائي بالطبع لم تغب عنه الملفـــات العالقة بين الخرطوم والقاهرة، وهي ملفات في مجملها ليست سهلة، بل هي معقدة وان امتدادتها واسعة شملت دول الاقليم الثلاث، مصر وليبيا والسودان، جاءت هذه الاختلالات على اثر التحولات الكبرى التي عرفتها هذه الدول.

هذه التحولات كانت وما زالت انعكاساتها المباشرة على طبيعة استقرار كل واحدة منها، دولا او انظمة، وهي ناجمة في الاصل عن مقاربات امنية مختلفة ومتباينة بين الخرطوم والقاهرة، خصوصا بعدما انهيار مؤسسة الدولة في ليبيا، وباتت مجالا للصراع الاقليمي والدولي من ناحية، ومن ناحية اخرى عملية القطع التاريخية التي تعرض لها مشروع التمكين الاسلاموي قبل ان يتمدد في الجزء الشمالي من وادي النيل بفعل تيار السيسيين المصريين الجديد، وكتلة التنوير والحداثة التاريخيتين في مصر، كل ذلك جعل المشيرين في الخرطوم والقاهرة المختلفين ايديولوجيا يعملان وفق اجندات متعارضة وخاصة لا تقبل بأقل من ان يقطع الواحد رقبة الاخر وفي هدوء تام. المشير السيسي مهدد عمليا من طرف قوى الاسلام السياسي في السودان المتحالف مع المصري، اراد ذلك او لم يرد، كما ان المشير السوداني، وفي ظل العزلة الداخلية وضعفه مع حالة الانسداد التي يعيشها نظامه، لا يخفي تخوفه من قاهرة «السيسي» التي يٌصنف فيها حكم الخرطوم ضمن تحالف خليجي/مصري/ ووطني ديمقراطي سوداني معارض بانه نظام حكم «شاذ» وخطر على الامن الاقليمي وبالضرورة العمل على استئصاله، وهو موقف ربما يجد سندا شعبيا سودانيا الى حد بعيد. يقع هذا في ظل مفارقة سياسية مهمة وهي ان القاهرة اول من وفرت غطاء الاعتراف الاقليمي العربي لنظام الاسلام السياسي لحكم السودان في نهاية ثمانينات القرن الماضي، وكانت مصر اولى ضحاياه بعد الشعب السوداني، فقد سجلت اول عملية اغتيال سياسي لرئيس مصري من طرف الارهاب الاسلاموي السوداني برعاية طه ونافع والبشير في اديس ابابا، لولا فشل العملية نتيجة الدور الكبير الذي قام به انذاك وفي اللحظات الاخيرة، مسؤول المخابرات المصرية عمر سليمان، كما وردت في رواياته.

هذه الملفات العالقة وحساباتها الدقيقة كانت وراء الاستقبال البروتوكولي السيادي الذي اتبعته مصرعند استقبال الرئيس السوداني، وبرز هذا بشكل جلي في جلسة الدولة بين الرئيسين، اذ لم يظهر العلم السوداني بجوار الرئيس السوداني كشأن العلم المصري الذي جلس بجواره الرئيس المصري، كما وضعت خريطة مصر «الجديدة» خلفية للقاء السيادة بين الدولتين، هذه الخريطة محل اختلاف سوداني/مصري لانها تضمنت مدنا سودانية هي «حلايب» و»شلاتين» كجزء من الجغرافيا المصرية، وبالتالي واقعة تحت السيادة الوطنية المصرية، ويجري هذا وفق خطة مصرية بعد الانتهاء من مشروع توسيع قناة السويس بتحويل مدينة «حلايب» الى ميناء بري ومنطقة تجارة حرة بين مصر والسعودية، لخدمة برامج طموحة تتعلق بتنمية الريف النوبي الجنوبي المصري وبتمويل سعودي مباشر، وتلك هي المفاجأة، كما اشار الى ذلك الناطق الرسمي لحملة السيسي الانتخابية لاحدى القنوات الفضائية العربية في وقت سابق.

جدير بالاشارة ايضا ان الاعلام المصري الذي يوصف في بعض منه بانه اعلام «منفلت» – كصيغة سياسية للتبرير- قدم اساءات مباشرة ورمزية للرئيس السوداني، بل عمد الى تحليل وتقديم وشرح بعض الرمزيات التي وضعتها القيادة المصرية للتقليل من السيادة السودانية التي يمثلها «رمزية» الرئيس السوداني، كما نرى وجهة نظر القيادة المصرية الجديدة، والملاحظ ان مجموع تلك الاستفزازات كانت ترتبط بالرئيس السوداني شخصيا، بالنظر الى الواقع السوداني والبون الواسع بين الرئيس السوداني والشعب السوداني وانه لا يمتلك اي شرعية لتمثيل سيادة الشعب السوداني، بل ان نظام السيسي يراه ونظامه «ارهابيان مفترضان» لا يتورعان في اي لحظة عن اعادة انتاج سيناريو اغتيال مبارك متى ما توافرت الظروف الواجبة لذلك، لذا كان من الطبيعي ان يعمل السيسي على سحب رمزية سيادة الشعب السوداني المتمثلة في العلم السوداني منه، وان يضع مدنا سودانية تم احتلالها امامه، بدون يدفع الرئيس السوداني الى اتخاذ اي موقف.

في هذا السياق تشير تقارير انه لا معنى لهوس الشعب السوداني باسترجاع المدينتين المحتلين، لان المدينتين تم بيعهما في صفقة سياسية مع نظام حسني مبارك مقابل ثمن سياسي دفعته الحكومة المصرية للخرطوم وبموجبها وقع التملك وليس الاحتلال، والرئيس السوداني جاهز لمنح الاقليم الشمالي برمته لمصر، عبر خطط تبدأ بالتوأمة، ما دام ذلك يخدم مخطط تقسيم السودان كمشروع متورطة فيه الحركة الاسلاموية السودانية حتي النخاع ويتضح الامر من خلال تشبثها باستمرارية السلطة ودعم الخارج لها لاستكمال الاجندة. وبموازة مع «الارتياح» الذي سجله «ممثل» السيادة السودانية الوطنية في القاهرة، قابله ارتياح اخر عند وصوله الى الخرطوم وهو قرار جمهور الفقهاء باعادة ترشيحه لكرسي الدولة والسلطة لفترة خمس سنوات اخرى تلبية لتنبوءات احد مشايخ الضلال الذي قال ان البشير يحكم لمدة من الزمن قدرها «ثلاثون عاما وخمسة وعشرون يوما».
قراءة هذين الخبرين، زيارة الرئيس السوداني الى مصر واعادة ترشحه لدورة جديدة، وفق توجهات ناشطي التفاعل الاجتماعي الذي يمكن اعتباره عينة عشوائية تحدد توجهات الرأي العام في العديد من القضايا، بل مؤشرا يمكن القياس عليه في قول «ليت الرئيس المصري سلم الرئيس السوداني للجنائية، عوض سحب رمزية الشعب السوداني، المتمثلة في علم جمهورية السودان، وبالمرة قطع الطريق لإعادة استمرار ديكتاتوريته في البلاد، عندها سوف لا يتضجر الشعب السوداني الديمقراطي الوطني قدر تضجره من الاهانة التي لحقت بالبشير في الاراضي المصرية، بل ربما يهتف له بأنه انقذ وادي النيل جنوبا وشمالا من التمكين الاسلاموي الذي يمكن ان يتحول الى «داعش» سريعا.

٭ سوداني مقيم في لندن

محجوب حسين
القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *