كيف نعلم أبناءنا الديمقراطية وحقوق الإنسان ومحاربة الفساد؟(8) هارون سليمان

كيف نعلم أبناءنا الديمقراطية وحقوق الإنسان ومحاربة الفساد؟(8) هارون سليمان
التنمية المستدامة
شهد العالم خلال العقود الثلاثة الماضية إدراكا متزايدا بأن نموذج التنمية الحالي (نموذج الحداثة( لم يعد مستداما، بعد أن ارتبط نمط الحياة الاستهلاكي المنبثق عنه بأزمات بيئية خطيرة مثل فقدان التنوع البيئي، وتقلص مساحات الغابات المدارية، وتلوث الماء والهواء، وارتفاع درجة حرارة الأرض (الدفء الكوني)، والفيضانات المدمرة الناتجة عن ارتفاع منسوب مياه البحار والأنهار، واستنفاذ الموارد غير المتجددة، مما دفع بعدد من منتقدي ذلك النموذج التنموي إلى الدعوة إلى نموذج تنموي بديل مستدام يعمل على تحقيق الانسجام بين تحقيق الأهداف التنموية من جهة وحماية البيئة واستدامتها من جهة أخرى.
وعلى المستوى السياسي فقد بدأ المجتمع الدولي، منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي، يدرك مدى الحاجة إلى مزيج من الجهود السياسية والعلمية لحل مشاكل البيئة وعندها أصبح مفهوم التنمية المستدامة يمثل نموذجا معرفيا للتنمية في العالم، وبدأ يحل مكان برنامج “التنمية بدون تدمير” Development without Destruction الذي قدمه برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP في السبعينات ومفهوم “التنمية الإيكولوجية” Ecodevelopment الذي تم تطبيقه في الثمانينات. ووصل الاهتمام العالمي بالقضية البيئية ذروته مع تبني مفهوم التنمية المستدامة على نطاق عالمي في مؤتمر قمة الأرضEarth Summit الذي عقد في مدينة ريو دي جانيرو  في عام 1992م. وقد برز هذا الاهتمام العالمي بقضية البيئة بوضوح في تأكيد منهجية التنمية الإنسانية، وفقا لتقرير التنمية الإنسانية العالمي الصادر عام 1995، على عنصر الاستدامة، من خلال التأكيد على عدم إلحاق الضرر بالأجيال القادمة سواء بسبب استنزاف الموارد الطبيعية وتلويث البيئة أو بسبب الديون العامة التي تتحمل عبئها الأجيال اللاحقة أو بسبب عدم الاكتراث بتنمية الموارد البشرية مما يخلق ظروفاً صعبة في المستقبل نتيجة خيارات الحاضر .
تحاول حركة الاستدامة اليوم تطوير وسائل اقتصادية وزراعية جديدة تكون قادرة على تلبية احتياجات الحاضر وتتمتع باستدامة ذاتية على الأمد الطويل، خاصة بعدما أتضح أن الوسائل المستخدمة حاليا في برامج حماية البيئة القائمة على استثمار قدر كبير من المال والجهد لم تعد مجدية نظرا لأن المجتمع الإنساني ذاته ينفق مبالغا وجهودا أكبر في شركات ومشاريع تتسبب في إحداث مثل تلك الأضرار. وهذا التناقض القائم في المجتمع الحديث بين الرغبة في حماية البيئة واستدامتها وتمويل الشركات والبرامج المدمرة للبيئة في الوقت نفسه هو الذي يفسر سبب الحاجة الماسة لتطوير نسق جديد مستدام يتطلب إحداث تغييرات ثقافية واسعة فضلا عن إصلاحات زراعية واقتصادية.

كثر استخدام مفهوم التنمية المستدامة في الوقت الحاضر، ويعتبر أول من أشار إليه بشكل رسمي هو تقرير” مستقبلنا المشترك ” الصادر عن اللجنة العالمية للتنمية والبيئة عام 1987. تشكلت هذه اللجنة بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر/ كانون الأول عام 1983 برئاسة “برونتلاند” رئيسة وزراء النرويج وعضوية ( 22 ) شخصية من النخب السياسية والاقتصادية الحاكمة في العالم، وذلك بهدف مواصلة النمو الاقتصادي العالمي دون الحاجة إلى إجراء تغيرات جذرية في بنية النظام الاقتصادي العالمي. وتم بموجب هذا التقرير دمج الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في تعريف واحد. وعرفت هذه اللجنة، التنمية المستدامة: “بالتنمية التي تأخذ بعين الاعتبار حاجات المجتمع الراهنة بدون المساس بحقوق الأجيال القادمة في الوفاء باحتياجاتهم”.
  وهنالك صنفين من التعريفات:
الصنف الأول: تمثل تعريفات مختصرة سميت بالتعريفات الأحادية للتنمية المستدامة، وهذه التعريفات اقرب للشعارات وتفتقد للعمق العلمي والتحليلي ومنها:
أ) التنمية المستدامة هي التنمية المتجددة والقابلة للاستمرار.
ب) التنمية المستدامة هي التنمية التي تتعارض مع البيئة.
ج) التنمية المستدامة هي التي تضع نهاية لعقلية لا نهائية الموارد الطبيعية.

أما الصنف الثاني: تمثل تعريفات أكثر شمولا ومنها: 
 1. هي التنمية التي تفي باحتياجات الحاضر دون الأضرار بقدرة أجيال المستقبل على الوفاء باحتياجاتها الخاصة، وهي تفترض حفظ الأصول الطبيعية لأغراض النمو والتنمية في المستقبل.
2. هي تنمية اقتصادية واجتماعية متوازنة ومتناغمة، تعني بتحسين نوعية الحياة، مع حماية النظام الحيوي.
3. هي التنمية التي تقوم أساسا على وضع حوافز تقلل من التلوث وتقلل من حجم النفايات والمخلفات وتقلل من حجم الاستهلاك الراهن للطاقة وتضع ضرائب تحد من الإسراف في استهلاك الماء والموارد الحيوية.
4. هي إجراء خفض عميق ومتواصل في استهلاك الطاقة والموارد الطبيعية، وإحداث تحولات جذرية في الأنماط الحياتية السائدة في الاستهلاك والإنتاج، وامتناعها عن تصدير نموذجها الصناعي للعالم. تعريف ذات طابع اقتصادي.
5.  التنمية المستدامة تعني السعي من اجل استقرار النمو السكاني ووقف تدفق الأفراد على المدن من خلال تطوير مستويات الخدمات الصحية والتعليمية في الأرياف وتحقيق اكبر قدر من المشاركة الشعبية في التخطيط للتنمية. تعريف ذات طابع اجتماعي وإنساني.
6. هي تصور تنموي شامل  تهدف إلى تقوية مختلف المجالات المجتمعية بما فيها الاقتصادية و البيئية ، فهي استثمار لكل الموارد من أجل الإنسان .
7. هي التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحالي دون الإضرار بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة وإدارة قاعدة الموارد الطبيعية وصيانتها، وتوجيه التغيرات التكنولوجية والمؤسسية بطريقة تضمن تلبية الاحتياجات البشرية للأجيال الحالية والمقبلة بصورة مستمرة. فهذه التنمية المستدامة التي تحافظ على (الأراضي) والمياه والنبات والموارد الوراثية (الحيوانية) لا تحدث تدهورا في البيئة وملائمة من الناحية التكنولوجية وسليمة من الناحية الاقتصادية ومقبولة من الناحية الاجتماعية” (مجلس منظمة الأغذية والزراعة عام 1988).
8. هي عملية تطوير الأرض والمدن والمجتمعات وكذلك الأعمال التجارية بشرط أن تلبي احتياجات الحاضر بدون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجاتها. ويواجه العالم خطورة التدهور البيئي الذي يجب التغلب عليه مع عدم التخلي عن حاجات التنمية الاقتصادية وكذلك المساواة والعدل الاجتماعي.
9. هي تنمية ديمقراطية تهدف إلى بناء نظام اجتماعي عادل ورفع القدرات البشرية عبر زيادة المشاركة الفاعلة والفعالة للمواطنين وعبر تمكين الفئات المهمشة وتوسيع خيارات المواطنين وإمكاناتهم المرتبطة ارتباطا محوريا بالقرارات والفرص المتاحة التي تضمن الحرية بمعناها الواسع واكتساب المعرفة وتمكين الإطار المؤسساتي .
وأكد تقرير ” جرو هارلم بروندتلاند ” على الارتباط الوثيق بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية مع الحفاظ على البيئة، وأشار التقرير إلى عدم إمكانية تطبيق إستراتيجية للتنمية المستدامة دون ملاحظة متطلبات التنمية للجوانب الثلاث ” الاقتصادية والاجتماعية والبيئة “.
تقاس الاستدامة على قياس الترابط بين مجموعة العلاقات والتي تشمل الاقتصاد واستخدام الطاقة والعوامل البيئية والاجتماعية في هيكل استدامي طويل المدى كما يشمل العديد من الجوانب الواسعة مثل الاقتصاد والبيئة وثقافة وحضارة المجتمع ودور السياسة والحكومة واستخدام الموارد والتعليم والصحة والجودة والسكن وأعداد السكان والأمن العام والرفاهية والمواصلات …. ومن أمثلة الجوانب الاقتصادية : توزيع الفرص الوظيفية وعدالة توزيع الدخل والتدريب بينما تشمل المؤشرات المرتبطة باستخدام الموارد : استهلاك الطاقة واستعمال المواد الخطرة وأساليب واستخدام المياه ومن المؤشرات المرتبطة بالثقافة والحضارة الاجتماعية : العناية بالأطفال ومقدار النشاطات التطوعية في البرامج والنشاطات المستدامة .
أهداف التنمية المستدامة
فيما يلي استعراض أمثلة لأهم أهداف التنمية المستدامة من خلال بعض البنود التي من شأنها التأثير مباشرة في الظروف المعيشية للناس:
1. المياه
تهدف الاستدامة الاقتصادية فيها إلى ضمان إمداد كافٍ من المياه ورفع كفاءة استخدام المياه في التنمية الزراعية والصناعية والحضرية والريفية. وتهدف الاستدامة الاجتماعية إلى تأمين الحصول على المياه في المنطقة الكافية للاستعمال المنزلي والزراعة الصغيرة للأغلبية الفقيرة. وتهدف الاستدامة البيئية إلى ضمان الحماية الكافية للمستجمعات المائية والمياه الجوفية وموارد المياه العذبة وأنظمتها الإيكولوجي.
2. الغذاء
تهدف الاستدامة الاقتصادية فيه إلى رفع الإنتاجية الزراعية والإنتاج من أجل تحقيق الأمن الغذائي المحلي و الإقليمي والعالمي. وتهدف الاستدامة الاجتماعية إلى تحسين الإنتاجية وأرباح الزراعة الصغيرة وضمن الأمن الغذائي المنزلي. وتهدف الاستدامة البيئية إلى ضمان الاستخدام المستدام والحفاظ على الأراضي والغابات والمياه والحياة البرية والأسماك وموارد المياه.
3. الصحة
تهدف الاستدامة الاقتصادية فيها إلى زيادة الإنتاجية من خلال الرعاية الصحية والوقائية وتحسين الصحة والأمان في أماكن العمل. وتهدف الاستدامة الاجتماعية فرض معايير للهواء والمياه والضوضاء لحماية صحة البشر وضمان الرعاية الصحية الأولية للأغلبية الفقيرة. وتهدف الاستدامة البيئية إلى ضمان الحماية الكافية للموارد البيولوجية والأنظمة الإيكولوجية والأنظمة الداعمة للحياة.
4. المأوى والخدمات
تهدف الاستدامة الاقتصادية فيها إلى ضمان الإمداد الكافي والاستعمال الكفء لموارد البناء ونظم المواصلات. وتهدف الاستدامة الاجتماعية ضمان الحصول على السكن المناسب بالسعر المناسب بالإضافة إلى الصرف الصحي والمواصلات للأغلبية الفقيرة. وتهدف الاستدامة البيئية إلى ضمان الاستخدام المستدام أو المثالي للأراضي والغابات والطاقة والموارد المعدنية.
5. الدخل
تهدف الاستدامة الاقتصادية فيه إلى زيادة الكفاءة الاقتصادية والنمو وفرص العمل في القطاع الرسمي. وتهدف الاستدامة الاجتماعية إلى دعم المشاريع الصغيرة وخلق الوظائف للأغلبية الفقيرة في القطاع غير الرسمي. وتهدف الاستدامة البيئية إلى ضمان الاستعمال المستدام للموارد الطبيعية الضرورية للنمو الاقتصادي في القطاعين العام والخاص.
دور تقنية المعلومات في تحقيق التنمية المستدامة
في هذا العصر الذي تحدد فيه التكنولوجيات القدرات التنافسية، تستطيع تقنية المعلومات أن تلعب دوراً مهماً في التنمية المستدامة، إذ يمكن تسخير الإمكانات اللا متناهية التي توفرها تقنية المعلومات من أجل إحلال تنمية مستدامة اقتصادية واجتماعية وبيئية، وذلك من خلال تعزيز التكنولوجيا من أجل التنمية المستدامة كما يلي:
1. تعزيز أنشطة البحث والتطوير لتعزيز تكنولوجيا المواد الجديدة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والتكنولوجيات الحيوية، واعتماد الآليات القابلة للاستدامة.
2.  تحسين أداء المؤسسات الخاصة من خلال مدخلات معينة مستندة إلى التكنولوجيات الحديثة، فضلاً عن استحداث أنماط مؤسسية جديدة تشمل مدن وحاضنات التكنولوجيا.
3. تعزيز بناء القدرات في العلوم والتكنولوجيا والابتكار، بهدف تحقيق أهداف التنمية المستدامة في الاقتصاد القائم على المعرفة، ولاسيّما أن بناء القدرات هو الوسيلة الوحيدة لتعزيز التنافسية وزيادة النمو الاقتصادي وتوليد فرص عمل جديدة وتقليص الفقر.
4.  وضع الخطط والبرامج التي تهدف إلى تحويل المجتمع إلى مجتمع معلوماتي.. بحيث يتم إدماج التكنولوجيات الجديدة في خطط واستراتيجيات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، مع العمل على تحقيق أهداف عالمية كالأهداف الإنمائية للألفية.
5. إعداد سياسات وطنية للابتكار واستراتيجيات جديدة للتكنولوجيا مع التركيز على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
دور الاتصالات في تحقيق التنمية المستدامة
المعارف والمعلومات تعد بالطبع عنصراً أساسياً لنجاح التنمية المستدامة ،حيث تساعد على التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، وتساعد على تحسين الإنتاجية الزراعية والأمن الغذائي وسبل المعيشة في الريف.. غير أنه لا بد من نقل هذه المعارف والمعلومات بصورة فعالة إلى الناس لكي تحقق الفائدة منها، ويكون ذلك من خلال الاتصالات، حيث تشمل الاتصالات من أجل التنمية الكثير من الوسائط مثل الإذاعة الريفية الموجهة للتنمية المجتمعية، والطرق المتعددة الوسائط لتدريب المزارعين وشبكة الإنترنت للربط بين الباحثين ورجال التعليم والمرشدين ومجموعات المنتجين ببعضها البعض وبمصادر المعلومات العالمية.
مؤشرات التنمية المستدامة
1. التمكين : وذلك بتوسيع قدرات المواطنين وخياراتهم عن طريق تقوية أشكال المشاركة ومستوياتها عبر الانتخابات العامة لمؤسسات الحكم وعبر تفعيل دور الأحزاب السياسية وضمان تعددها وتنافسها وعبر ضمان حرية العمل النقابي واستقلالية المجتمع المدني .
2. التعاون : وفيه تضمين لمفهوم الانتماء والاندماج كمصدر أساسي لإشباع الذاتي الفردي ، حيث التعاون هو التفاعل الاجتماعي والضروري
3. العدالة في التوزيع : وتشمل الإمكانات والفرص وليس فقط الدخل كحق الجميع قي الحصول على التعليم
أبعاد التنمية المستدامة
 من خلال التعريفات السابقة نلاحظ أن التنمية المستدامة تتضمن أبعادا متعددة تتداخل فيما بينها من شأن التركيز على معالجتها إحراز تقدم ملموس في تحقيق التنمية المستهدفة، ويمكن الإشارة هنا إلى أربعة أبعاد حاسمة ومتفاعلة هي كل من الأبعاد الاقتصادية والبشرية والبيئية والتكنولوجية:
1. الأبعاد الاقتصادية
حصة الاستهلاك الفردي من الموارد الطبيعية
فبالنسبة للأبعاد الاقتصادية للتنمية المستدامة نلاحظ أن سكان البلدان الصناعية يستغلون  قياسا على مستوى نصيب الفرد من الموارد الطبيعية في العالم،  أضعاف ما يستخدمه سكان البلدان النامية. ومن ذلك مثلا أن استهلاك الطاقة الناجمة عن النفط والغاز والفحم هو في الولايات المتحدة أعلى منه في الهند ب 33 مرة، وهو في بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ال “OCDE” أعلى بعشر مرات في المتوسط منه في البلدان النامية مجتمعة.
إيقاف تبديد الموارد الطبيعية
فالتنمية المستدامة بالنسبة للبلدان الغنية تتلخص في إجراء تخفيضات متواصلة من مستويات الاستهلاك المبددة للطاقة والموارد الطبيعية وذلك عبر تحسين مستوى الكفاءة وإحداث  تغيير جذري في أسلوب الحياة. ولا بد في هذه العملية من التأكد من عدم تصدير الضغوط البيئية إلى البلدان النامية. وتعني التنمية المستدامة أيضا تغيير أنماط الاستهلاك التي تهدد التنوع البيولوجي في البلدان الأخرى دون ضرورة، كاستهلاك الدول المتقدمة للمنتجات الحيوانية المهددة بالانقراض.
مسؤولية البلدان المتقدمة عن التلوث وعن معالجته
تقع على البلدان الصناعية مسؤولية خاصة في قيادة التنمية المستدامة، لأن استهلاكها المتراكم في الماضي من الموارد الطبيعية وإسهامها في مشكلات التلوث العالمي كان كبيرا بدرجة غير متناسبة. يضاف إلى هذا أن البلدان الغنية لديها الموارد المالية والتقنية والبشرية الكفيلة بأن تضطلع بالصدارة في استخدام تكنولوجيات أنظف وتستخدم الموارد بكثافة أقل، وفي القيام بتحويل اقتصادياتها نحو حماية النظم الطبيعية والعمل معها، وفي تهيئة أسباب ترمي إلى تحقيق نوع من المساواة  للوصول إلى الفرص الاقتصادية والخدمات الاجتماعية داخل مجتمعاتها. والصدارة تعني أيضا توفير الموارد التقنية والمالية لتعزيز التنمية المستدامة في البلدان الأخرى  باعتبار أن ذلك استثمار في مستقبل الكرة الأرضية.
تقليص تبعية البلدان النامية
وثمة جانب من جوانب الروابط الدولية فيما بين البلدان الغنية والفقيرة يحتاج إلى دراسة دقيقة. ذلك أنه بالقدر الذي ينخفض به استهلاك الموارد الطبيعية في البلدان الصناعية، يتباطأ نمو صادرات هذه المنتجات من البلدان النامية وتنخفض أسعار السلع الأساسية بدرجة أكبر، مما يحرم البلدان النامية من إيرادات تحتاج إليها احتياجا ماسا. ومما يساعد على تعويض هذه الخسائر و الانطلاق من نمط تنموي يقوم على الاعتماد على الذات لتنمية القدرات الذاتية وتأمين الاكتفاء الذاتي وبالتالي التوسع في التعاون الإقليمي، وفي التجارة فيما بين البلدان النامية، وتحقيق استثمارات ضخمة في رأس المال البشري، والتوسع في الأخذ بالتكنولوجيات المحسنة.
التنمية المستدامة لدى البلدان الفقيرة
وتعني التنمية المستدامة في البلدان الفقيرة تكريس الموارد الطبيعية لأغراض التحسين المستمر في مستويات المعيشة. ويعتبر التحسين السريع، كقضية أخلاقية، أمر حاسم بالنسبة لأكثر من 20 في المائة من سكان العالم المعدمين في الوقت الحالي. ويحقق التخفيف من عبء الفقر المطلق نتائج عملية هامة بالنسبة للتنمية المستدامة ، لأن هناك روابط وثيقة بين الفقر وتدهور البيئة والنمو السريع للسكان والتخلف الناجم عن التاريخ الاستعماري والتبعية المطلقة للقوى الرأسمالية. أما الذين لا تلبى لهم احتياجاتهم الأساسية، والذين ربما كان بقائهم على قيد الحياة أمرا مشكوكا فيه، فيصعب أن نتصور بأنهم سيهتمون بمستقبل كرتنا الأرضية، وليس هناك ما يدعوهم إلى تقدير مدى صلاحية تصرفاتهم للاستدامة، كما أنهم يجنحون إلى الاستزادة من الأطفال في محاولة لزيادة القوة العاملة للأسرة ولتوفير الأمن لشيخوختهم.
المساواة في توزيع الموارد
إن الوسيلة الناجعة للتخفيف من عبء الفقر وتحسين مستويات المعيشة أصبحت مسؤولية كل من البلدان الغنية والفقيرة، وتعتبر هذه الوسيلة، غاية في حد ذاتها، وتتمثل في جعل فرص الحصول على الموارد والمنتجات والخدمات فيما بين جميع الأفراد داخل المجتمع أقرب إلى المساواة. فالفرص غير المتساوية في الحصول على التعليم والخدمات الاجتماعية وعلى الأراضي والموارد الطبيعية الأخرى وعلى حرية الاختيار وغير ذلك من الحقوق السياسية، تشكل حاجزا هاما أمام التنمية. فهذه  المساواة تساعد على تنشيط التنمية والنمو الاقتصادي الضروريين لتحسين مستويات المعيشة.
الحد من التفاوت في المداخيل
فالتنمية المستدامة تعني إذن الحد من التفاوت المتنامي في الدخل وفي فرص الحصول على الرعاية الصحية في البلدان الصناعية مثل الولايات المتحدة وإتاحة حيازات الأراضي الواسعة وغير المنتجة للفقراء الذين لا يملكون أرضا في مناطق مثل أمريكا الجنوبية أو للمهندسين الزراعيين العاطلين كما هو الشأن بالنسبة لبلادنا؛ وكذا تقديم القروض إلى القطاعات الاقتصادية غير الرسمية وإكسابها الشرعية؛ وتحسين فرص التعليم والرعاية الصحية بالنسبة للمرأة في كل مكان. وتجب الإشارة إلى أن سياسة تحسين فرص الحصول على الأراضي والتعليم وغير ذلك من الخدمات الاجتماعية لعبت دورا حاسما في تحفيز التنمية السريعة والنمو في اقتصاديات النمور الآسيوية مثل ماليزيا وكوريا الجنوبية وتايوان.
تقليص الإنفاق العسكري
كما أن التنمية المستدامة يجب أن تعني في جميع البلدان تحويل الأموال من الإنفاق على الأغراض العسكرية وأمن الدولة إلى الإنفاق على احتياجات التنمية. ومن شأن إعادة تخصيص ولو جزء صغير من الموارد المكرسة الآن للأغراض العسكرية الإسراع بالتنمية بشكل ملحوظ.
2. الأبعاد البشرية
تثبيت النمو الديموغرافي
وتعنى التنمية المستدامة بالأبعاد البشرية والعمل على تحقيق تقدم كبير في سبيل تثبيت نمو السكان، وهو أمر بدأ يكتسب أهمية بالغة، ليس لأن النمو المستمر للسكان لفترة طويلة وبمعدلات شبيهة بالمعدلات الحالية أصبح أمرا مستحيلا استحالة واضحة فقط، بل كذلك لأن النمو السريع يحدث ضغوطا حادة على الموارد الطبيعية وعلى قدرة الحكومات على توفير الخدمات. كما أن النمو السريع للسكان في بلد أو منطقة ما يحد من التنمية، ويقلص من قاعدة الموارد الطبيعية المتاحة لإعالة كل ساكن .
مكانة الحجم النهائي للسكان
للحجم النهائي الذي يصل إليه السكان في الكرة الأرضية أهميته أيضا، لأن حدود قدرة الأرض على إعالة الحياة البشرية غير معروفة بدقة. وتوحي الإسقاطات الحالية، في ضوء الاتجاهات الحاضرة للخصوبة، بأن عدد سكان العالم سيستقر عند حوالي 11,6 مليار نسمة، وهو أكثر من ضعف عدد السكان الحاليين. وضغط السكان، حتى بالمستويات الحالية، هو عامل متنام من عوامل تدمير المساحات الخضراء وتدهور التربة والإفراط في استغلال الحياة البرية والموارد الطبيعية الأخرى؛ لأن نمو السكان يؤدي بهم إلى الأراضي الحدية، أو يتعين عليهم الإفراط في استخدام الموارد الطبيعية.

أهمية توزيع السكان
كما أن لتوزيع السكان أهميته: فالاتجاهات الحالية نحو توسيع المناطق الحضرية، ولاسيما تطور المدن الكبيرة لها عواقب بيئية ضخمة. فالمدن تقوم بتركيز النفايات والمواد الملوثة فتتسبب في كثير من الأحيان في أوضاع لها خطورتها على الناس وتدمر النظم الطبيعية المحيطة بها. ومن هنا، فإن التنمية المستدامة تعني النهوض بالتنمية القروية النشيطة للمساعدة على إبطاء حركة الهجرة إلى المدن، وتعني اتخاذ تدابير سياسية خاصة من قبيل اعتماد الإصلاح الزراعي واعتماد تكنولوجيات تؤدي إلى التقليص إلى الحد الأدنى من الآثار البيئية للتحضر.
الاستخدام الكامل للموارد البشرية
كما تنطوي التنمية المستدامة على استخدام الموارد البشرية استخداما كاملا، وذلك بتحسين التعليم والخدمات الصحية ومحاربة الجوع. ومن المهم بصورة خاصة أن تصل الخدمات الأساسية إلى الذين يعيشون في فقر مطلق أو في المناطق النائية؛ ومن هنا فإن التنمية المستدامة تعني إعادة توجيه الموارد أو إعادة تخصيصها لضمان الوفاء أولا بالاحتياجات البشرية الأساسية مثل تعلم القراءة والكتابة، وتوفير الرعاية الصحية الأولية، والمياه النظيفة.والخدمات الأساسية الأخرى والتنمية المستدامة تعني فيما وراء الاحتياجات الأساسية تحسين الرفاه الاجتماعي، وحماية التنوع الثقافي، والاستثمار في رأس المال البشري بتدريب المربين والعاملين في الرعاية الصحية والفنيين والعلماء وغيرهم من المتخصصين الذين تدعو إليهم الحاجة لاستمرار التنمية.
الصحة والتعليم
ثم إن التنمية البشرية تتفاعل تفاعلا قويا مع الأبعاد الأخرى للتنمية المستدامة .من ذلك مثلا أن السكان الأصحاء الذين نالوا من التغذية الجيدة ما يكفيهم للعمل، ووجود قوة العمل الحسنة للتعليم، أمر يساعد على التنمية الاقتصادية. ومن شأن التعليم أن يساعد المزارعين والرعاة وغيرهم من سكان البادية على حماية الغابات وموارد التربة والتنوع البيولوجي حماية أفضل.
أهمية دور المرأة
للمرأة  دور وأهمية خاصة في عملية التنمية المستدامة. ففي كثير من البلدان النامية يقوم النساء والأطفال بالزراعات المعيشية، والرعي وجمع الحطب ونقل الماء، وهم يستخدمون معظم طاقتهم في الطبخ، ويعتنون بالبيئة المنزلية مباشرة. والمرأة بعبارة أخرى هي المدبر الأول للموارد والبيئة في المنزل كما أنها هي أول من يقدم الرعاية للأطفال ومع ذلك فكثيرا ما تلقى صحتها وتعليمها الإهمال الصارخ مقارنة بصحة الرجال وتعليمهم. والمرأة الأكثر تعليما، لديها فرص أكبر في الحصول على وسائل الأمومة والطفولة، كما أن معدلات خصوبتها أقل في المتوسط، وأطفالها أكثر صحة. ومن شأن الاستثمار في صحة المرأة وتعليمها أن يعود على القابلية للاستدامة بمزايا متعددة.
الأسلوب الديمقراطي في الحكم
 إن التنمية المستدامة على المستوى السياسي تحتاج إلى مشاركة من تمسهم القرارات، في التخطيط لهذه القرارات وتنفيذها، وذلك لسبب عملي هو أن جهود التنمية التي لا تشرك الجماعات المحلية كثيرا ما يصيبها الإخفاق. لذلك فإن اعتماد النمط الديمقراطي في الحكم يشكل القاعدة الأساسية للتنمية البشرية المستدامة في المستقبل.
3. الأبعاد البيئية
إتلاف التربة، استعمال المبيدات، تدمير الغطاء النباتي والمصايد
بالنسبة للأبعاد البيئية نلاحظ أن تعرية التربة وفقدان إنتاجيتها يؤديان إلى التقليص من غلتها، ويخرجان سنويا من دائرة الإنتاج مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية. كما أن الإفراط في استخدام الأسمدة ومبيدات الحشرية يؤدي إلى تلويث المياه السطحية والمياه الجوفية. أما الضغوط البشرية والحيوانية، فإنها تضر بالغطاء النباتي والغابات أو تدمرهما. وهناك مصايد كثيرة للأسماك في المياه العذبة أو المياه البحرية يجري استغلالها فعلا بمستويات غير مستدامة، أو أنها توشك أن تصبح كذلك.
حماية الموارد الطبيعية
والتنمية المستدامة تحتاج إلى حماية الموارد الطبيعية اللازمة لإنتاج المواد الغذائية والوقود ابتداء من حماية  التربة إلى حماية الأراضي المخصصة للأشجار وإلى حماية مصايد الأسماك مع التوسع في الإنتاج لتلبية احتياجات السكان الآخذين في التزايد، وهذه الأهداف يحتمل تضاربها، ومع ذلك فإن الفشل في صيانة الموارد الطبيعية التي تعتمد عليها الزراعة كفيل بحدوث نقص في الأغذية في المستقبل. وتعني التنمية المستدامة هنا استخدام الأراضي القابلة للزراعة وإمدادات المياه استخداما أكثر كفاءة، وكذلك استحداث وتبني ممارسات وتكنولوجيات زراعية محسنة تزيد الغلة. وهذا يحتاج إلى اجتناب الإسراف في استخدام الأسمدة الكيميائية والمبيدات حتى لا تؤدي إلى تدهور الأنهر والبحيرات، وتهدد الحياة البرية، وتلوث الأغذية البشرية والإمدادات المائية. وهذا يعني استخدام الري استخداما حذرا، واجتناب تمليح أراضي المحاصيل وتشبعها بالماء.
صيانة المياه
وفي بعض المناطق تقل إمدادات المياه، ويهدد السحب من الأنهار باستنفاذ الإمدادات المتاحة، كما أن المياه الجوفية يتم ضخها بمعدلات غير مستدامة. كما أن النفايات الصناعية والزراعية والبشرية تلوث المياه السطحية والمياه الجوفية، وتهدد البحيرات والمصبات في كل بلد تقريبا. والتنمية المستدامة تعني صيانة المياه بوضع حد للاستخدامات المبددة وتحسين كفاءة شبكات المياه. وهي تعني أيضا تحسين نوعية المياه وقصر المسحوبات من المياه السطحية على معدل لا يحدث اضطرابا في النظم الإيكولوجية التي تعتمد على هذه المياه، وقصر المسحوبات من المياه الجوفية على معدل تجددها.
تقليص ملاجئ الأنواع البيولوجية
إن تواصل مساحة الأراضي القابلة للزراعة – وهي الأراضي التي لم تدخل بعد في الاستخدام البشري , انخفاضها،  يقلص من الملاجئ المتاحة للأنواع  الحيوانية والنباتية، باستثناء القلة التي يديرها البشر إدارة مكتفة، أو التي تستطيع العيش في البيئة المستأنسة. وتتعرض الغابات المدارية والنظم الإيكولوجية للشعب المرجانية والغابات الساحلية وغيرها من الأراضي الرطبة وسواها من الملاجئ الفريدة الأخرى لتدمير سريع، كما أن انقراض الأنواع الحيوانية والنباتية آخذا في التسارع. والتنمية المستدامة في هذا المجال تعني أن يتم صيانة ثراء الأرض في التنوع البيولوجي للأجيال المقبلة، وذلك بإبطاء عمليات الانقراض وتدمير الملاجئ والنظم الإيكولوجية بدرجة كبيرة وإن أمكن وقفها.
حماية المناخ من الاحتباس الحراري
والتنمية المستدامة تعني كذلك عدم المخاطرة بإجراء تغييرات كبيرة في البيئة العالمية  بزيادة مستوى سطح البحر، أو تغيير أنماط سقوط الأمطار والغطاء النباتي، أو زيادة الأشعة فوق البنفسجية،  يكون من شأنها إحداث تغيير في الفرص المتاحة للأجيال المقبلة. ويعني ذلك الحيلولة دون زعزعة استقرار المناخ، أو النظم الجغرافية الفيزيائية والبيولوجية أو تدمير طبقة الأزون الحامية للأرض من جراء أفعال الإنسان.
4. الأبعاد التكنولوجية
استعمال تكنولوجيات أنظف في المرافق الصناعية
كثيرا ما تؤدي المرافق الصناعية إلى تلويث ما يحيط بها من هواء ومياه وأرض. وفي البلدان المتقدمة النمو، يتم الحد من تدفق النفايات وتنظيف التلوث بنفقات كبيرة؛ أما في البلدان النامية، فإن النفايات المتدفقة في كثير منها لا يخضع للرقابة إلى حد كبير. ومع هذا فليس التلوث نتيجة لا مفر منها من نتائج النشاط الصناعي. وأمثال هذه النفايات المتدفقة تكون نتيجة لتكنولوجيات تفتقر إلى الكفاءة أو لعمليات التبديد، وتكون نتيجة أيضا للإهمال والافتقار إلى فرض العقوبات الاقتصادية. وتعني التنمية المستدامة هنا التحول إلى تكنولوجيات أنظف وأكفأ  وتقلص من استهلاك الطاقة وغيرها من الموارد الطبيعية إلى أدنى حد. وينبغي أن يتمثل الهدف في عمليات أو نظم تكنولوجية تتسبب في نفايات أو ملوثات أقل في المقام الأول، وتعيد تدوير النفايات داخليا، وتعمل مع النظم الطبيعية أو تساندها. وفي بعض الحالات التي تفي التكنولوجيات التقليدية بهذه المعايير فينبغي المحافظة عليها.
الأخذ بالتكنولوجيات المحسنة وبالنصوص القانونية الزاجرة
والتكنولوجيات المستخدمة الآن في البلدان النامية كثيرا ما تكون أقل كفاءة وأكثر تسببا في التلوث من التكنولوجيات المتاحة في البلدان الصناعية. والتنمية المستدامة تعني الإسراع بالأخذ بالتكنولوجيات المحسنة، وكذلك بالنصوص القانونية الخاصة بفرض العقوبات في هذا المجال وتطبيقها. ومن شأن التعاون التكنولوجي  ،سواء بالاستحداث أو التطويع لتكنولوجيات أنظف وأكفأ تناسب الاحتياجات المحلية والذي يهدف إلى سد الفجوة بين البلدان الصناعية والنامية وأن يزيد من الإنتاجية الاقتصادية، وأن يحول أيضا دون مزيد من التدهور في نوعية البيئة.  وحتى تنجح هذه الجهود، فهي تحتاج أيضا إلى استثمارات كبيرة في التعليم والتنمية البشرية، ولاسيما في البلدان الأشد فقرا. والتعاون التكنولوجي يوضح التفاعل بين الأبعاد الاقتصادية والبشرية والبيئية والتكنولوجية في سبيل تحقيق التنمية المستدامة.
المحروقات والاحتباس الحراري
كما أن استخدام المحروقات يستدعي اهتماما خاصا لأنه مثال واضح على العمليات الصناعية غير المغلقة. فالمحروقات يجري استخراجها وإحراقها وطرح نفاياتها داخل البيئة، فتصبح بسبب ذلك مصدرا رئيسيا لتلوت الهواء في المناطق العمرانية، وللأمطار الحمضية التي تصيب مناطق كبيرة، والاحتباس الحراري الذي يهدد بتغير المناخ. والمستويات الحالية لانبعاث الغازات الحرارية من أنشطة البشر تتجاوز قدرة الأرض على امتصاصها؛ وإذا كانت الآثار قد أصبحت خلال العقد الأخير من القرن العشرين واضحة المعالم، فإن معظم العلماء متفقون على أن أمثال هذه الانبعاث لا يمكن لها أن تستمر إلى ما لا نهاية سواء بالمستويات الحالية أو بمستويات متزايدة، دون أن تتسبب في احتباس عالمي للمناخ. وسيكون للتغييرات التي تترتب عن ذلك في درجات الحرارة وأنماط سقوط الأمطار  ومستويات سطح البحر فيما بعد  ولاسيما إذا جرت التغييرات سريعا فإن آثارها مدمرة على النظم الإيكولوجية وعلى رفاه الناس ومعاشهم، ولاسيما بالنسبة لمن يعتمدون اعتمادا مباشرا على النظم الطبيعية.
الحد من انبعاث الغازات
وترمي التنمية المستدامة في هذا المجال إلى الحد من المعدل العالمي لزيادة انبعاث الغازات الحرارية. وذلك عبر  الحد بصورة كبيرة من استخدام المحروقات، وإيجاد مصادر أخرى للطاقة لإمداد المجتمعات الصناعية. وسيكون من المتعين على البلدان الصناعية أن تتخذ الخطوات الأولى للحد من انبعاث ثاني أكسيد الكربون واستحداث تكنولوجيات جديدة لاستخدام الطاقة الحرارية بكفاءة أكبر، وتوفير إمدادات من الطاقة غير الحرارية تكون مأمونة وتكون نفقتها محتملة. على أنه حتى تتوافر أمثال هذه التكنولوجيات، فالتنمية المستدامة تعني استخدام المحروقات بأكفأ ما يستطاع في جميع البلدان.
الحيلولة دون تدهور طبقة الأزون
والتنمية المستدامة تعني أيضا الحيلولة دون تدهور طبقة الأوزون الحامية للأرض. وتمثل الإجراءات التي اتخذت لمعالجة هذه المشكلة سابقة مشجعة: فاتفاقية كيوتو جاءت للمطالبة بالتخلص تدريجيا من المواد الكيميائية المهددة للأزون، وتوضح بأن التعاون الدولي لمعالجة مخاطر البيئة العالمية هو أمر مستطاع. لكن تعنت الولايات المتحدة الأمريكية واعتقادها بأن قوتها أصبحت فوق إرادة المجتمع الدولي جعلها ترفض التوقيع على هذه الاتفاقية ما دام أن لا أحدا يستطيع إجبارها على ذلك.

 

الخلاصة
إن تحقيق هدف التنمية المستدامة يحتاج إلى إحراز تقدم متزامن في أربعة أبعاد على الأقل، هي الأبعاد الاقتصادية، والبشرية والبيئية والتكنولوجية. وهناك ارتباط وثيق فيما بين هذه الأبعاد المختلفة، والإجراءات التي تتخذ في إحداها من شأنها تعزيز الأهداف في بعضها الآخر. ومن ذلك مثلا أن الاستثمار الضخم في رأس المال البشري، ولاسيما فيما بين الفقراء، يدعم الجهود الرامية إلى الإقلال من الفقر، وإلى الإسراع في تثبيت عدد السكان، وإلى تضييق الفوارق الاقتصادية وإلى الحيلولة دون مزيد من التدهور للأراضي والموارد، وإلى السماح بالتنمية العاجلة واستخدام مزيد من التكنولوجيات الناجعة في جميع البلدان. كما أن الابتكار التكنولوجي هو في حد ذاته موضوع محوري متباين الجوانب. فالاستدامة تتطلب تغييرا تكنولوجيا مستمرا في البلدان الصناعية للحد من انبعاث الغازات ومن استخدام الموارد من حيث الوحدة الواحدة من الناتج. كما يتطلب تغيرا تكنولوجيا سريعا في البلدان النامية، ولاسيما البلدان الآخذة بالتصنيع، لتفادي تكرار أخطاء التنمية ،وتفادي مضاعفة الضرر البيئي الذي أحدثته البلدان الصناعية. والتحسين التكنولوجي هو بدوره أمر هام في التوفيق بين أهداف التنمية وقيود البيئة.
وختاما نعود إلى التأكيد على أنه برغم أن مفهوم التنمية المستدامة قد لقي قبولا واستخداما دوليا واسعا منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي إلا أن العالم لم ينجح حتى الآن في تبني خطوات حقيقية جادة على طريق الاستدامة الحقيقية نحو التوفيق بين تلك التناقضات بين التنمية والبيئة الناتجة عن نموذج التنمية المهيمن منذ منتصف القرن العشرين مما يجعل البشرية تواجه مستقبلا محفوفا بالمخاطر وعدم التيقن. ومن هنا، يمكن القول إلى أن التحول نحو الاستدامة المنشودة لا يبدو ممكنا بدون حدوث تغير رئيس وجذري على مستوى النموذج المعرفي السائد بعيدا عن قيم الحداثة، والاستعلاء، والاستغلال المتمركز حول الإنسان باتجاه بلورة نموذج معرفي جديد يتصف بالشمول ولا يتمركز حول الإنسان وينظر للعالم كوحدة كلية مترابطة بدلا من أن يكون مجموعة متناثرة من الأجزاء، ويمكن من خلاله دمج جهود التنمية المستدامة وجهود الحفاظ على البيئة بطريقة مفيدة للطرفين من أجل الصالح العام للجيل الحالي والأجيال القادمة على السواء، وأن يكون ذلك التحول مصحوبا باهتمام بالبناءات السياسية والاجتماعية التي يمكن أن تكون أكثر دعما للاستدامة.

الحلقات القادمة
قيم ومبادئ المجتمع الحر
1. المواطنة
2. السلام
3. المساواة
4. التسامح
5. العدل
6. محاربة الفساد
 هارون سليمان
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *