اليوم، سيقرر جنوب السودان مصيره، وستولد أحدث دولة في العالم، تحمل الرقم (193). وسينطلق الشمال وحيداً كالأبتر، بلا جنوب. ولن يسمع أحد بعد اليوم بعلة جنوبية يشتكي منها السودان، بل ستطغى “دارفور” وجبال النوبة ومشكلة الشرق على ساحة السودان الجديد.
استأثر الفريق عمر البشير بالسودان، وعلى غرار الدكتاتوريات العربية العتيدة، صفى معارضيه رويداً رويداً، ثم حلفاءه بعد ذلك، حتى الدكتور حسن الترابي “عراب” ثورة الانقاذ التي اوصلت البشير الى السلطة لم يسلم من “التطهير البشيري“.
ثم جاءت اتفاقية “نيفاشا” 2005، التي منحت حق تقرير المصير للجنوب بعد ست سنوات، لتنهي أطول حرب أهلية في القارة الافريقية، الا انها اشترطت ان يعمل الطرفان ـ حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان ـ على جعل الوحدة خيارا جاذبا. الاتفاقية وقعها الشريكان من دون الرجوع الى معارضيهم، أو حتى حلفائهم، ففرحة النصر المزعوم غطت على كل الأحزان، ولم تكن الابتسامة المزيفة التي جمعت العدوين ـ الشريكين كافية لدفن ربع قرن من الدماء، أو قرون من الاحقاد.
أراد الفريق البشير أن يحكم السودان بقوة العصا التي يحملها دائماً، وأن يلبس ثوبا عربياً وعباءة اسلامية، وفكر في أن يفرض العربية والشريعة الاسلامية على كل أرجاء السودان المترامية الأطراف. الا ان السودان ـ على سعته ـ لم يتسع لطموحات الفريق، ولم يسعفه عقله أو قلبه في ترك السلطة لحكومة يشترك فيها الجنوبيون، ليقنعهم بأنهم مواطنون. وهكذا سارت الأمور بما لايريد الشعب، وبما يريد الحاكم، ولم تعد “الوحدة الجاذبة” الا وحدة كاذبة، حيث لم يقنتنع الجنوبيون بعدالة الشماليين، بل ان مسلمي الجنوب انفسهم يسعون للانفصال، وقد كرهوا استبداد مسلمي الشمال. وفي الشمال دعم الجنوبيون الانفصال، وقد كرههم الشماليون.
لم تسعُ الدول المعنية بالسودان لاحتواء “وحدة السودان”، بل اكتفوا بالدعاء أن يمر الاستفتاء بسلام، وان لاتسيل دماء جديدة على اعتاب السلطة. وحتى مصر المعنية الاولى بقضية مياه النيل، طرحت فكرة الكونفدرالية على استحياء، وبعد فوات الأوان، ولم تبذل دول افريقيا جهداً في ذلك، فأمراضها الداخلية تغنيها عن وصف العلاج للآخرين.
وأخيرا، أغرى الفريق البشير الجنوبيين بأن نفطهم لهم، محاولا ان يساوم في وقت انتهى فيه كل شيء, فرفض الجنوبيون، وطالبوا بشيء أكثر جدية ومصداقية، رئاسة دورية بين الشمال والجنوب، رفضها البشير رفضا قاطعا، فهو لايتصور سوداناً من دونه.
ولكي يبرر الخسارة ـ كعادة الطغاة ـ أعلن أن العربية ستسود ربوع السودان، وأن تطبيق حدود الشريعة الاسلامية سيكون أمراً مفروغاً منه حال افصال الجنوب، وهكذا لبس ثوب المؤمن استجداء لدعم الجماعات السلفية المتشددة، مبتسماً برغم كل المرارة التي خلفها على خارطة السودان، فالنصر نصر متى ما شاء المستبد ذلك.
وللانصاف، فان مشكلة جنوب السودان، بل السودان كله، ليست “بشيرية” حصراً، ففقدان الثقة بين الطرفين، والتعسف، كان يسيطر على العلاقة بين الشمال والجنوب طوال عقود، فالحكومات السودانية السابقة لم تكن أقل شراً، ولا أهون طغياناً. ولاننسى الفريق “جون قرنق”، الذي كان مفكرا وسياسيا بعيد النظر، استطاع ان يعبر ببصيرته أفق الجنوب الضيق، وكان يناضل لاقناع رفاقه، بأن سوداناً واحداً يسع الجميع. الا ان وفاته في حادث الطائرة الغامض، كانت أول المسامير في نعش السودان الواحد. ثم توالت المطارق، لتصنع تابوتا جاهزا خلال بضع سنوات.
أمام الجنوب الكثير ليثبت أهله انهم يستحقون الاستقلال، فالقبائل الوثنية والمتخلفة يزيد عددها على الـ(500)، واللغة الرسمية هي الانجليزية، اما الفعلية المستخدمة في التخاطب فهي العربية، أو “عربية جوبا”. وللتنمية حصة الاسد في هموم الجنوب، حيث سيحتاج الى سنين طويلة ليستثمر ويستفيد من نفطه، والى حظ عظيم ليقنع اسرائيل والدول الكبرى بفتح خزائنهم والاغداق عليه، فالحال في الجنوب لم تتغير منذ أن هدأت المدافع، ولن تتغير بعد الانفصال.
خمس السودان تقريباً سينفصل، وستتكون دولة جديدة شاسعة المساحة، 600 ألف كم2، وفيها تتجمع روافد النيل لتتجه شمالاً حيث الخرطوم والقاهرة، وسيخسر السودان صفة أكبر الدول مساحة في افريقيا. لكنها لن تكون النهاية، فالفريق البشير تنتظره ملفات أخرى في الشرق والغرب والشمال، ملفات قد تنهي وجود السودان.
فليته كان سوداناً بلا بشير.
حيدر الجابر
دنيا الوطن