خالد عويس-وداعا أيها السودان الجميل

خالد عويس-وداعا أيها السودان الجميل
خالد عويس
سيمر وقتٌ طويل
قبل أن يولد – إن ولد –
(سوداني) نبيل هكذا
غني بالمغامرة هكذا
إنني أغني جماله بكلمات تئن
وأتذكر نسيماً حزيناً بين أشجار (النخيل)..
الشاعر الإسباني فدريركو غارسيا لوركا

***
يا محبوبي
لا تبكيني
يكفيك ويكفيني
فالحزن الأكبر ليس يقال
الشاعر السوداني محمد الفيتوري


***
لن يمر يومٌ أكثر مشقة وحزناً على هذا الشعب الحزين الحزين أكثر من هذا
اليوم. ذهب محمد وردي، أطول النخلات في السودان، وأبهى الأقمار المعلقة
في سمائه، وأحلى العنادل.
مَن مثل وردي عمّر وجدان السودانيين الجمعي بأغنيات الحب وسوناتات العشق
في أصدق صوره ! مَن مثله وظّف عبقريته الموسيقية ليرسم الحب في المشهد
السوداني كائناً بجناحين من ضوء !
مَن مثله أغنى أرواحهم حتى الثمالة.. حتى الثمالة بشرابٍ صافٍ في عشق
وطن، كان يراه وردي على طريقته، شامخاً فتياً عاتياً، حراً ديمقراطياً!
مَن غنى لشهداء الحرية في السودان مثله، مَن غسل أقدام بيعانخي وتهارقا
والمهدي والخليفة ومهيرة والمك نمر وعلي عبداللطيف والماظ بماءٍ النيل
المقدّس، ورشّ على تيجانهم عطر الصندل المخبوء في جوف صوته!
لم يكن أسطورة في الغناء السوداني وحسب، لم يكن إمبراطوراً في إفريقيا
وحسب، كان رمزاً شاهقاً في ثقافتنا، وواحداً من الذين صاغوا الوجدان
حجراً مذهباً على حجرٍ من نور.
كان الأخير الذي تبقى لنقول في كل ميناء نعبره في رحلات منافينا الطويلة:
نحن من بلد هذا العملاق!
وردي منحنا هويةً خاصةً لوطن مزقته الحروب ودمرته إرادة السياسيين
الفاشلين، فكان هو الإرادة السودانية الحرة، وهو الجسر بين تاريخ مثقل
بالتاريخ والبطولات الكبرى، ومستقبل نرجوه مزداناً بالأغنيات والشموخ.
مَن منا تتفتق عبقريته الوطنية ليجلس على الثرى بتواضع وهو يغني: “في
حضرة جلالك يطيب الجلوس، مهذب أمامك يكون الكلام”! مَن ليكون أكثر
تهذيباً في حضرة وطن عشقه بجنون، ومنحه بجنون، وأفرط في عشقه إلى درجة
الهذيان الجميل: “وعنّك بعيد أنا أبيت الرحيل.. وبيك اعتزاز الصباح
الجميل”.
الوطن في عيني وردي “نهر قديم” يسيل بالعطر والتاريخ الذي يجهله أنصاف
المثقفين الذين أضحوا “ساسة” الزمن الرديء. الوطن في عينيه طفل منسيّ في
حفل، عليه هو وحده أن يهدهد حزنه، ويعيده إلى حضن أمه: النهر، الصحراء،
البحر، عمق الإنسانية!
وردي عاصفةٌ ملونة من الكلمات والألحان ضربت السودان برفق ولين من غابته
إلى صحرائه، من بحره إلى نهره، ومن عليائه إلى عليائه!
خائنٌ هو السوداني، وخائنةٌ هي السودانية. خائنٌ للغاية من لا ينفطر قلبه
ويتصدع اليوم. فوردي، صنو الوطن، وروحه. حين يفرد قامته لكأنما هو الوطن
من يفرد هامته ليتنفس عشقاً..ووعداً وتمني!
وردي هو أول الأحزان وآخرها. وردي هو الحزن الأكبر الذي لا يُقال!
وردي هو أيقونتنا التي ندخرها من الماضي السحيق. قارورة معتقة عبأناها من
أنفس عطورنا وأقواها أثراً وأجودها طيباً.
لكل بيت قصة مع وردي، ولكل حكاية قصة مع وردي. لكل عاشق وعاشقة، لكل ثائر
من أجل الحرية، ثمة أغنية دوزنها وردي من دم إبداعه ودموع معاناته: “لو
بهمسة”، “الطير المهاجر”،”بعد إيه”، “خاف من الله”، “الحزن القديم”،
“بناديها”، “نور العين”،”أرحل”، “عرس الفداء”، “أكتوبر الأخضر”، “يا
شعباً لهبك ثوريتك”. لكل ذكرى رشة عطر من وردي، ولكل همسة حب بعض منه،
ولكل صرخة ثائر نبض منه!
يا الله يا وردي، تمددت في كل حياتنا. تمددت في عروقنا وشراييننا
وأوردتنا. تمددت في قصص عشقنا وفي أدق تفاصيل نضالنا من أجل الحرية.
يا الله يا وردي، كيف نعشق من بعدك؟ ومن سيغني لنا إن سقط الطغاة؟ من
سيغني: “يا شعباً لهبك ثوريتك.. تلقى مرادك والـ..في نيتك.. عمق إحساسك
بي حريتك..يبقى ملامح في ذريتك”!
إنها هي ملامح روحك الحرة زرعتها فينا جميعاً وأنت تغدق علينا معاني
كبيرة.. كبيرة، وترسم لنا وطناً ملوناً في الفضاء، نتقافز – كالأطفال –
لنمسك بخيوطه المذهّبة كأشعة الشمس. وطنك يا وردي يرحل معك. يرحل وطعم
الدمع على شفتيه، وما من وطن لنا، ما من وطن يتسع لأحلامنا، ما من شىء
سوى المنافي يا وردي!
أنت المعلّم يا وردي. أنت مدرستنا الإبتدائية والمتوسطة والثانوية. أنت
جامعتنا الأكثر عراقة. وهل علمونا في الدروس كيف أن الدماء تدوس على
جلادها وتستشهد بجلال؟ هل علمونا أن “الشعب أقوى وأقدر.. مما كان العدو
يتصور”؟ و”مكان السجن مستشفى.. مكان الطلقة عصفورة.. تحلّق حول نافورة”؟
مَن – يا وردي – علمنا هذا الوطن غني إلى هذا الحد، وبهي إلى هذا الحد،
وعظيم إلى هذا الحد، وخرافي وموجع وحزين وجميل كطفلٍ مشطت شعره أمه في
صباح العيد.
مَن يا أيها البهي زرع الضياء في كل ركن وكل قلب؟
اليوم يا وردي سقط القلب. اليوم أصبحت كل ذكرى ملحاً يكشط الروح، لأنك في
كل زاوية من كل شىء في حياتنا.
كم نحن نحبك أيها السوداني الجميل، وكم نحن حزانى اليوم.
والحزن الأكبر ليس يقال!
Yasir
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *