تونجيات – ايام التونج ثانية

تونجيات – ايام التونج ثانية !
لقد اغدق الاخ الدكتور الاديب بشري الفاضل آيات الثناء في (بوست) في المنبر العام في صجيفة سودانيز اون لاين علي كتاب ايام التونج , وكذلك كتب الاستاذ المسرحي خطاب حسن بأن كثيراً مما ورد في الكتاب يصلح لمعالجة درامية رائعة مسرحياً او سينمائياً , واورد فصلاً كاملاً من الكتاب بعنوان (محكمة السلاطين) وقال انه ينوي ان يشرع في ذلك , كما طلب مني الدكتور بشري ان اكتب عما حفزني لكتابة الكتاب او اي اضافة أراها له .
وانا ممتن للأخوين الكريمين , وها أنا ذا اكتب عن ملابسات العوامل التي دفعتني لكتابة الكتاب متوسعاً في بعض ما ورد فيه الي اضافات اخري , واخترت لها العنوان المتقدم اعلاه …
تونجيات – ايام التونج ثانية  (1-3)
هناك بعض الامكنة والمدن التي ترتاح لها النفس من الوهلة الاولي , ويأسر المرء حبها , أو يلج حبها في القلب مثل ولوج الحب الي قلب الفتي او الفتاة في اول مرة , ومن هذه المدن الآسرة مدينة التونج الجميلة , والتي يصدق فيها القول ( الحب من اول نظرة ) , فالخضرة الزاهية تكسو أعاليها من الاشجار الباسقة , وتفرش ارضها ببساط كالسندس الاخضر , كما تعمر وجوه ساكنيها انطلاقة وهاجة وابتسامة عذبة تكشف عن اسنان بيضاء براقة ربما تعلن عن قلوب صافية ودواخل شفيفة , أتراني غاليت في وصفها ؟ ربما … فعين المحب تزيد الجميل جمالاً وتتعامي عما عداه .
تملكني هذا الاحساس وصدَّقه فيما بعد تجارب الحياة اليومية في مدها وجزرها وتقلباتها واحداثها . ولعل سخاء الطبيعة بما حبت به البلدة من اخضرار ممتزج بألوان الزهور الزاهية وانواع الطيور الملونة الصادحة من الببغاوات والبلابل والزرازير , وما  لم تره عيناي من قبل واشجار الفاكهة من المانجو واللارنج والباباي والتوت المحملة بثمارها الشهية , وبعضها أراها للمرة الاولي لأنها لا توجد في الشمال .
أما الانسان فيها فأنه معدن آخر وربما يرجع ذلك الي معيشته علي الفطرة التي لم تفسدها شوائب التحضر , وفي البساطة التي لم تعقدها مشاكل وتعقيدات الحياة المدنية الصاخبة في غير طائل ! ويسكن التونج عدة قبائل رئيسة اكبرها الدينكا والجور .
واني احكي عما عايشته في النصف الثاني من القرن العشرين وبالتحديد في عامي 1962 و 1963 وجزء من عام 1964 , ويطيب لي ان استعيد تأكيداً عما ذكرته في الكتاب من السمو الاخلاقي الذي تتميز به قبيلة الدينكا الهائلة العدد بأفرعها المتعددة فهي اكبر القبائل عدداً في الجنوب والشمال , وأفرادها رجالاً ونساء أُميين , ولم يرسل الله اليهم رسولاً او نبياً يبين لهم سبل الهدي والرشاد , ولكن خصَّ البعض القليل منهم بالحكمة , ونحن المسلمين نعلم كما علمنا خالقنا ان الحكمة ضالة المؤمن أنّي وجدها , وان من أوتي الحكمة قد اوتي خيراً كثيراً , ورغم قلة عدد المسيحيين والمسلمين بما لا يذكر للأغلبية العظمي من انصار المعتقدات الدنيوية , فأن تعاليم هذه المعتقدات يلتزم بها الجميع , وأمر آخر يبعث علي الاعجاب وهو حرية الاعتقاد للفرد وهو ما نص عليه قوله تعالي في كتابه الكريم ( من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) , وقوله تعالي ( لا اكره في الدين قد تبين الرشد من الغي ) , وكما نصت عليه وثيقة حقوق الانسان الدولية وكذلك دساتير دول العالم المتمدين علي حرية العقيدة والاعتقاد , ويتجلي ذلك في انصع صورة في مجتمع الدينكا , فقد تجد في البيت الواحد من الاشقاء من هو مسيحي كاثوليكي وآخر بروتستانت , وآخر مسلم , وآخر لا ديني والجميع يعيشون في وئام وسلام , وهذا الوضع الفريد الفيته في منزل سلطان البلدة . وآية ذلك ما ذكرته في الكتاب عن قصة الوالد الدينكاوي الذي استطحب ابنه الطفل ليلتحق بالمدرسة , وعندما سالته لجنة القبول المكونة من سلطان البلدة وضابط المجلس الريفي الجنوبي وحكيمباشي المستشفي وعميد مركز تدريب المعلمين , سألته عن الدين الذي يرتضي ان يدرسه ابنه , رد علينا قائلاً :  (الولد صغير وجاهل وانا ما عاوز افرض عليه ديني او اي دين آخر , وهو لما يكبر ويفهم يختار الدين العايزو ) , وكان يترجم لنا من لغة الدينكا الي العربية لوكا كاتب المعهد الدينكاوي الجنوبي .
وجال بذهني خاطر وهو : ألسنا مسلمين الوراثة ! وجدنا والدينا مسلمين فأصبحنا مثلهم ولو كانوا يهوداً او مسيحيين لصرنا مثلهم ايضاً ! وشغلني هذا الخاطر الي ما بعد انفضاض لجنة القبول وقادني الي تساؤل مفاده ان اتباع الديانات الارضية كالبوذية او الكنفوشيسية او اتباع المعتقدات الارضية الاخري يلتزمون التزاماً صارماً بتعاليم دياناتهم في سلوكهم ومعاملاتهم بشفافية وسمو بينما نحن المسلمين اصحاب الرسالة السماوية الخاتمة والحاوية لخيري الدنيا والآخرة لاتجد الكثير منا يستمسك بفضائل وسلوكيات هذا الدين العظيم في حياتنا وأصبح تديننا مظهرياً في عبادات نؤديها آلياً من صلاة وخلافها وفي سمت معين من لحي وعلامات دائرية سوداء علي الجباه ومسابح في الايدي ولقب الحاج لمن زار بيت الله الحرام والتهليل والتكبير والنقاب والحجاب للنساء , بينما جوهر الدين هو المعاملة التي هي مجموعة المثل والقيم من صدق وأمانة وعدل ورحمة الي آخر المنظومة الاخلاقية السامية نجدها غائبة او مغيبة ! بينما حدثنا نبينا (صلعم) بما معناه انه بُعث ليتمم مكارم الاخلاق .
وارجع الي السمو الاخلاقي لهؤلاء الناس , فهم لا يعرفون السرقة ولا يكذبون ويتمسكون بكلمتهم , فقد يجيئ احدهم بسمكة كبيرة او ديك اوجدي الي السوق , ويضع سعراً محدداً لسلعته لا يحيد عنه ويجلس في مكانه حتي ينفض السوق ويرجع ادراجه مع سلعته ! وامر آخر يدعو للتأمل وهو ان هؤلاء القوم لا يوجد عندهم شذوذ جنسي لأنهم لا يعرفونه , ونجد ان كل المخالفات الجنائية مصدرها الشجار الذي يتسبب في الاذي بين الطرفين .
واجيئ الي القبيلة الهامة الاخري في التونج وهي قبيلة الجور ويمكن ان نطلق علي افراد هذه القبيلة قبيلة الفنانين , فهم فنانون بالسليقة وينحتون من الخشب تماثيل للحيوانات تكاد تنطق من اتقانها وجمالها , ويختارون أجود انواع الاخشاب كالابنوس والمهوقني كما رأيت تماثيل بالحجم الطبيعي للانسان تنصب علي قبور البعض , وهم يبيعون هذه التماثيل الجميلة ويقبل علي شرائها الشماليون ليزينوا بها حجرات جلوسهم او لأهدائها , والي جانب التماثيل فأنهم يصنعون العصي الانيقة ايضا . ولقد شاهدت بعضاً من هذه التماثيل تعرض في محال بيع الاناتيك في الخرطوم ويقبل علي شرائها الاجانب وبخاصة السياح .
ومما يجدر ذكره ان معلم هذه الفن للطلبة المدرسين بمركز تدريب المعلمين بالتونج كان من الجور وكان هناك مشغل او ورشة للتطبيق العملي للخراطة والنحت علي الخشب وصنع الاشكال الجميلة منه , وهذا المعلم الموهوب لم يدرس ولم يتخرج في اية كلية فنون جميلة , وكانوا يستخدمون في عملهم ادوات بسيطة كالازميل والمنشار والشاكوش .
وسأواصل الحديث عما حفزني لكتابة كتاب أيام التونج …
هلال زاهر الساداتي
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *