تاريخ ما اهمله التاريخ … كيف ساعد مولانا الميرغني في إنجاح ثورة اكتوبر 21 ؟

ثروت قاسم:

[email protected]
1- النبي هارون والوحدة الوطنية ؟

في يوم الجمعة 17 نوفمبر 2017 ، مرت الذكرى ال 59 لإستيلاء الفريق ابراهيم عبود على السلطة من حكومة ديمقراطية ، في يوم الأثنين 17 نوفمبر 1958 . لعبت مصر الناصرية دوراً أساسياً في إستيلاد ذلك الانقلاب العسكري ، ولكن هذه قصة أخرى .

في هذه المقالة ، نكشف سراً من أسرار ثورة اكتوبر 1964 ، التي اطاحت بنظام عبود العسكري ، ألطف الانظمة العسكرية التي مرت بالسودان ، مقارنة بنظام نميري الأستبدادي ، ونظام البشير الذي قسم السودان إلى قسمين ، وعرفنا معه الابادات الجماعية .
يكشف هذا السر … كيف ساعد مولانا محمد ع

ثمان الميرغني في إنجاح ثورة اكتوبر 21 ؟

الآية 94 في سورة طه ، تشرح لنا أهمية الحفاظ على الوحدة الوطنية ، تحت كل الظروف وبأي ثمن ، مهما غلى .

قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي .

ذهب النبي موسى لملاقاة ربه في جبل الطور ، وليستلم الالواح وفيها التوراة ، هدى ومغفرة للعالمين . ترك النبي موسى اخاه هارون مع بني اسرائيل ، حتى لا يضلوا عن التوحيد بالله اثتاء فترة غيابه .
رجع النبي موسى لبني اسرائيل بعد ان كلمه سبحانه وتعالى ، فوجدهم يعبدون عجلاً ، صنعه لهم السامري من ذهب ، وله خوار من اثر خروج الريح بين فمه ودبره . غضب النبي موسى من اخيه هارون غضبة مضرية ، وراح يجذبه من راسه ولحيته لتفريطه مع بني اسرائيل .

برر هارون موقفه بانه ركز على تثبيت وحدة أمة بني إسرائيل ، وعدم التفرقة بينهم ، بمحاربتهم ، لانهم تركوا عبادة الله ، وصاروا يعبدون العجل الذهبي .

ثمن هارون وحدة أمة بني إسرائيل عالياً ، وجعلها مرجعيته الحصرية ، حتى على حساب ان يكفروا بالله سبحانه وتعالى .
وهذا ما فعله السيد الامام مع السيد محمد عثمان الميرغني ، في الايام العصيبة التي تلت يوم الاربعاء 21 اكتوبر 1964 . حرص السيد الامام على الاتصال بالسيد محمد عثمان وإقناعه بارسال ممثل للختمية للمشاركة في المفاوضات التي يقودها السيد الامام مع الرئيس عبود وصحبه ، للتنازل طوعاً عن السلطة ، وذلك في الايام التي تلت يوم الاربعاء 21 اكتوبر 1964 . فعل السيد الامام ذلك رغم دعم السيد الميرغني وكيان الختمية للرئيس عبود ونظامه ، ومعارضتهم لثورة اكتوبر 21 وثوارها .
حاكى السيد الامام مع مولانا الميرغني النبي هارون مع بني اسرائيل حسب ما تحدثنا به سورة طه ، إعلاءً وتثبيتاً للوحدة الوطنية .

ولكن كيف ساعد مولانا الميرغني في إنجاح ثورة اكتوبر 21 ، وهو المعارض الأشرس لها ولثوارها ؟

دعنا نبدأ من طقطق ، لنضع الامور في سياقاتها التاريخية الصحيحة ، حتى لا نخرج من الصندوق .

2- تكوين الجبهة القومية المتحدة .

في مساء الاربعاء 21 اكتوبر 1964 ، عقد طلبة جامعة الخرطوم ندوة حول قضية جنوب السودان في داخليات البركس .

استشهد في هذه الليلة بسلاح الشرطة أكثر من طالب جامعي ، أشهرهم أحمد قرشي طه.

في يوم الخميس 22 اكتوبر 1964 ، تم نقل جثمان الشهيد القرشي الى قريته القراصة في لوري ، بعد صلاة جنازة جامعة في ميدان عبدالمنعم ، أمها السيد الإمام . شارك في صلاة الجنازة قادة الاحزاب السودانية المنحلة ومنهم الاستاذ عبدالخالق محجوب ، بإستثناء حزب الشعب الديمقراطي ( كيان الختمية ) .

بعد صلاة الجنازة على الشهيد القرشي ، عمت المظاهرات شوارع الخرطوم ، وهي تهتف :

الصادق أمل الأمة .

بعدها بدأت الاشياء تتداعى ، كما حدثنا كاتب نيجيري في زمن غابر .

تكون مركزان لمتابعة الاحداث :

+ المركز الاول في نادي أساتذة جامعة الخرطوم ، تجمعت فيه جبهة الهيئات.

+ ومركز ثان في بيت المهدي في ام درمان تجمعت فيه القوى السياسية المنحلة ، بإستثناء حزب الشعب الديمقراطي ( كيان الختمية ) .

حرص المركزان على دعم الإضراب العام، والعصيان المدني ودعم المظاهرات المساندة لهما.

بمبادرة من السيد الامام ، تم دمج المركزين اعلاه في الجبهة القومية المتحدة ، وصار السيد الإمام أمينها العام . رفض حزب الشعب الديمقراطي ( كيان الختمية ) المشاركة في الجبهة القومية المتحدة ، وأكد دعمه للرئيس عبود ونظامه ، ومعارضته للعصيان العام .

في يوم الخميس 22 اكتوبر 1964 ، قادت الهيئة القضائية موكباً جماهيرياً ، انضمت إليه هيئات نقابية للمطالبة بالتحقيق في حادثة البركس مساء الاربعاء 21 اكتوبر .

حظرت وزارة الداخلية سير الموكب ، الأمر الذي أدى لمواجهات ، إنتهت بإعلان جبهة الهيئات الاضراب السياسي العام ، والعصيان المدني ، في نفس يوم الخميس 22 اكتوبر 1964 .

دعا الإمام الهادي المهدي لإجتماع للجبهة القومية المتحدة في بيت المهدي في امدرمان ، شاركت فيه الاحزاب السياسية المنحلة وجبهة الهيئات . رفض حزب الشعب الديمقراطي ( كيان الختمية ) المشاركة في الاجتماع ، مؤكداً دعمه للرئيس عبود ونظامه .

اصدرت الجبهة القومية الموحدة مذكرة من بيت المهدي تدين ما حدث مساء الاربعاء 21 اكتوبر في الجامعة ، وتطالب بإنهاء الحكم العسكري ، واسترداد الديمقراطية.

3-ردة فعل الرئيس عبود ؟

في يوم الجمعة 23 اكتوبر 1964 ، أرسل الرئيس عبود اللواء عوض عبد الرحمن صغير واللواء الطاهر عبد الرحمن المقبول لمقابلة السيد الامام في بيت المهدي في امدرمان ، في تجاهل وتهميش متعمدين بل عزل لجبهة الهيئات وللجبهة القومية المتحدة ولبقية الاحزاب السياسية المنحلة .

رحب السيد الامام بمبعوثي الرئيس عبود ، وأصر على مشاركة الجبهة القومية المتحدة بكل مكوناتها ، وأهمها جبهة الهيئات في الحوار ، وليكون المحاور مع مندوبي الرئيس عبود الجبهة القومية المتحدة ، وليس السيد الإمام حصرياً . ارسل السيد الامام لقادة جبهة الهيئات المعتكفين في نادي اساتذة جامعة الخرطوم رسولاً للحضور ، فحضروا وشاركوا في الحوار في بيت المهدي مع مبعوثي الرئيس عبود .

وقتها لم يعرف القوم المحمول .

4-ردة فعل كيان الختمية ؟

رغم ان كيان الختمية يكن عداءاً مستعراً لكيان الانصار ، ورغم دعم كيان الختمية لنظام عبود وضد ثورة اكتوبر 21 ، ورغم الكراهية التي يحملها السيد الميرغني للسيد الإمام ، فقد اصر السيد الإمام على الاتصال بالسيد محمد عثمان الميرغني لإقناعه بإرسل ممثل لكيان الختمية وحزب الشعب الديمقراطي للمشاركة في الحوار مع ممثلي الرئيس عبود في بيت المهدي ، تثبيتاً وتوكيداً للوحدة الوطنية كما تصرف النبي هارون مع بني إسرائيل في غياب اخيه النبي موسى .

في هذا السياق ، وكما هو مدون في سجلات التاريخ ، نكرر بأن كيان الختمية كان يؤيد الرئيس الختمي عبود ونظامه ، ويعارض ثورة اكتوبر 21 وثوارها .

في يوم الخميس 22 اكتوبر 1964 ، أصدر كيان الختمية وحزب الشعب الديمقراطي مذكرة سموها مذكرة كرام المواطنين يدعمون فيها الرئيس عبود ونظامه ، ويقفون ضد ثورة اكتوبر 21 وثوارها .

في بادئ الامر تمنع السيد محمد عثمان الميرغني في قبول دعوة السيد الامام لمشاركة كيان الختمية وحزب الشعب الديمقراطي في الحوار مع ممثلي الرئيس عبود في بيت المهدي في امدرمان .

تلى السيد محمد عثمان على السيد الامام الآية 59 في سورة النساء :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا … أُولِي الْأَمْرِ منكم …

ولكن وبعد لولوات وحق الله بق الله وان التاريخ لن يرحم ، وافق السيد محمد عثمان الميرغني ، مُكرهاً ، على إرسال ممثل لكيان الختمية وحزب الشعب الديمقراطي ليشارك في الحوار مع ممثلي الرئيس عبود في بيت المهدي في امدرمان .

وصدق او لا تصدق ، حضر الدكتور احمد السيد حمد وشارك في الحوار مع ممثلي الرئيس عبود ، مُمثلاً لكيان الختمية وحزب الشعب الديمقراطي .

إتفق قادة الجبهة القومية المتحدة وممثل حزب الشعب الديمقراطي مع ممثلي الرئيس عبود اللواء عوض عبد الرحمن صغير واللواء الطاهر عبد الرحمن المقبول على ان يلتقي وفد من الجبهة القومية الموحدة وحزب الشعب الديمقراطي مع الرئيس عبود وصحبه في القصر الجمهوري ، للتفاكر حول ما يمكن عمله .

5-ميثاق اكتوبر ؟

قبل ذهاب وفد الجبهة القومية الموحدة وحزب الشعب الديمقراطي لمقابلة الرئيس عبود وصحبه في القصر الجمهوري ، اقترح السيد الامام على الوفد ان يلتزم بميثاق وطني يعبر عن مطالب الشعب المشروعة في الديمقراطية والحرية . كتب السيد الامام مسودة ميثاق اكتوبر . وبعد التداول ، تم إعتمادها كمرجعية حصرية للمفاوضات مع الرئيس عبود وصحبه في القصر الجمهوري .

تكون وفد الجبهة القومية الموحدة من السادة الآتية اسماؤهم :

+ السيد الامام … رئيساً للوفد .

+ السيد مبارك زروق .

+ السيد عابدين اسماعيل .

+ الدكتور حسن الترابي .

+ الدكتور احمد السيد حمد ، ممثلاً لكيان الختمية وحزب الشعب الديمقراطي .

وإنضم لاحقاً للوفد في القصر الجمهوري ، بغير تفويض من الجبهة القومية الموحدة :

+ السيد بابكر عوض الله .

+ الدكتور طه بعشر .

+ السيد الامين محمد الامين .

+ الاستاذ احمد سليمان .

هذه تسعة كاملة !

نأتي الآن لموضوع المقالة ونشرح كيف ساعد مولانا الميرغني في إنجاح ثورة اكتوبر 21 ؟

6- مولانا الميرغني والرئيس عبود .

في نفس يوم الجمعة 23 اكتوبر 1964 ، دعا الرئيس عبود أعضاء المجلسين العسكري والوزراء لاجتماع عاجل في القصر الجمهوري، لسماع ما يقوله ممثليه اللواء عوض عبد الرحمن صغير واللواء الطاهر عبد الرحمن المقبول بعد اجتماعهم مع السيد الامام في بيت المهدي في امدرمان .

في هذا السياق ، كتب الاستاذ الصحفي المخضرم محجوب عروة ، ما قاله له عمه اللواء محمد احمد عروة ، وزير الداخلية في نظام عبود ، حول هذا الاجتماع التاريخي بحق وحقيق .

كتب الصحفي محجوب عروة ، بتصرف ، على لسان عمه اللواء محمد احمد عروة :

عندما حضرنا الاجتماع ، وجدنا الرئيس عبود ينظر من شرفة القصر الجمهوري في اتجاه شارع القصر ، وهو يرى الشرطة تطلق النار على المتظاهرين . يبدو أن الرئيس عبود شعر ، وهو يرى المظاهرات عياناً بياناً ، بقوة رفض الشعب لنظامه .

ردد الرئيس عبود :

(هل كل هؤلاء الناس لا يريدوننا ؟ لنسلمهم السلطة ) .

بعد قليل حضر للإجتماع اللواء الطاهر عبد الرحمن المقبول واللواء عوض عبد الرحمن صغير قادمين من اجتماعهما مع الجبهة القومية المتحدة في بيت المهدي في امدرمان .

قدم اللواء الطاهر عبدالرحمن المقبول تقريره للاجتماع ، وذكر ً أسماء الوفد الذي كونته الجبهة القومية المتحدة للتفاوض مع الرئيس عبود ونظامه .

قال اللواء الطاهر المقبول ان الوفد سوف يتكون من :

+ السيد الصادق المهدي .
+ السيد مبارك زروق .

+ السيد عابدين اسماعيل .

+ الدكتور حسن الترابي .

+ والدكتور احمد السيد حمد ، ممثلاً لكيان الختمية وحزب الشعب الديمقراطي .

توقف الرئيس عبود عند اسم الدكتور احمد السيد حمد شيئاً ، وسال اللواء الطاهر المقبول :

هل انت متاكد ان الوفد سوف يحتوي على الدكتور احمد السيد حمد ممثلاً لكيان الختمية وحزب الشعب الديمقراطي ؟

رد اللواء الطاهر المقبول بالإيجاب .

خرج الرئيس عبود من قاعة الاجتماع ، إلى غرفة جانبية ، ومعه وزير الداخلية اللواء عروة .

طلب الرئيس عبود من اللواء عروة الاتصال بالسيد محمد عثمان الميرغني ، وسؤاله :

هل الدكتور احمد السيد حمد فعلاً يمثلكم ؟

رد على الهاتف السيد احمد الميرغني ، الذي اكد دعمهم للرئيس عبود ونظامه ، وذكر ان اخيه السيد محمد عثمان في الجنينة . تكلم الرئيس عبود مع السيد احمد الميرغني قليلاً ، ولاطفه .

بعدها ، والرئيس عبود بجانبه ، اتصل اللواء عروة بالسيد محمد عثمان في الجنينة ، وساله سؤالاً مباشراً :

هل حقاً الدكتور احمد السيد حمد يمثلكم في وفد الجبهة القومية المتحدة ؟

تردد السيد محمد عثمان ، وتلعثم في الحديث . طلب اللواء عروة من السيد محمد عثمان اجابة قاطعة :

نعم أو لا ؟

عندها اكد السيد محمد عثمان إن الدكتور احمد السيد حمد فعلا يمثلهم في وفد الجبهة القومية المتحدة ، وإنه شارك في حوار بيت المهدي بموافقتهم .

سمع الرئيس عبود توكيد السيد محمد عثمان ، فطلب من اللواء عروة إنهاء المكالمة ، ولم يتحدث مع السيد محمد عثمان .

رجع الرئيس عبود للاجتماع المشترك للمجلسين الذي كان منعقداً في إنتظار رجوع الرئيس عبود واللواء عروة ، من خلوتهما في الغرفة الجانبية .

خاطب الرئيس عبود الاجتماع المشترك ، وقال بصوت حاسم:

لقد قررت حل المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الوزراء..

إنصاع الجميع لقرار الرئيس عبود ، إلا محاولة من الاستاذ أحمد خير ، الذي رفع يده ليقول شيئاً ، ولكنه جلس فجاة دون أن ينطق ببنت شفة!!

هل عرفت يا حبيب ، كيف ساعد مولانا محمد عثمان الميرغني في إنجاح ثورة اكتوبر 21؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *