النخبة المتعلمة وصناعة الطواغيت

بقلم بروفيسور/ محمد زين العابدين عثمان –جامعة الزعيم الأزهرى

هنالك سؤال يدور دائماً ويسأل لنا كثيراً من أشقائنا العرب والأفارقة وهو لماذا بلادكم تسير من سئ الى أسوأ وأنتم أول البلدان الأفريقية التى نالت استقلالها من الأستعمار؟ كما أنكم أكثر الشعوب العربية والأفريقية التى نالت قسطاً وافراً من التعليم مقارنة بالمستعمرات الأخرى؟ ولماذا وصلت بلادكم لهذا الدرك ونحن نراكم أكثر المبعوثين للدراسات العليا تميزاً؟ وأنكم أكثر الجاليات تميزاً برباطكم الأجتماعى؟ لماذا صارت بلادكم الى ما صارت اليه وأنتم أكثر الشعوب تفانياً فى العمل فى بلاد المهجر؟ ولماذا تحطمت بلادكم وبدأتم تخرجون منها زرافات ووحداناً وأنتم عرف عنكم أنكم أكثر الشعوب أمانة وصدقاً وشهامة وكرامة؟
لقد وقفت ووقف غيرى كثيراً حاسرين فى الأجابة على هذه الأسئلة، وسألنا أنفسنا اذا كان حقاً نحن نتمتع بكل هذه الصفات الحميدة فلماذا أجرمنا فى حق بلادنا وشعبنا؟ وبدأت استرجع التاريخ منذ أن بدأ الرعيل الأول معركة التحرير ضد الاحتﻻل، فوجدت أن الجيل الذى قاد النضال ضد الاحتﻻل قد كان جيلاً عصامياً اجتهد كثيراً أفراده ليحولوا أنفسهم من متعلمين أكاديميين الى مثقفين ومن مثقفين منعزلين فى أبراج عاجية الى مثقفين جماهيريين أرتبطوا بقطاعات شعبهم المختلفة والتحموا بها وحملوا أشواقها وأمانيها، فصاروا يعبرون عن تطلعاتها ويدافعون عنها وعن قضاياها ويقفون بها أمام المحافل المحلية والأقليمية والدولية، ولذلك عندما أداروا دفة الحكم بالبلاد بعد الأستقلال كانت النزاهة والتجرد والتفاني فى خدمة مواطنيهم ديدنهم حتى غادروا دار الفناء الى دار البقاء دار الخلد وكلهم سير عطرة ونبراس يحتذى به وتلهج الألسن بالثناء عليهم ومن بقى منهم على قيد الحياة لم يبدلوا تبديلاً، لم يتركوا وراءهم مالاً أو عقاراً بل معظمهم قد فارق الحياة وهم مدينون للتجار وشيعوا من بيوت الأوقاف وتشردت أسرهم بلا مأوى بعد موتهم وتركوا ديونهم على رقاب أبنائهم، فلماذا خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة والوطن وأتبعوا الشهوات؟
ان الجيل الذى جاء بعد الرعيل الأول –رعيل الحركة الوطنية– من المتعلمين من خريجى مدارس حنتوب وخورطقت ووادى سيدنا وقمتهم جامعة الخرلاطوم، هم جيل منفصم متمحور حول نفسه ومضخماً لذاته. فهم أبناء المزارعين والفقراء وأبناء الرعاة الحفاة الذين لا تتعدى وجباتهم العصيدة وملاح الويكاب وأم تكشو واذا تحسنت الظروف فأكل اللحم والشرموط عند تحليل البهيمة التي هي على أعتاب مفارقة الحياة وخروج الروح من الجسد، أو عند مناسبات الموت والفرح أو أكرام الضيف القادم من بعيد وعزيز، هؤلاء عندما التحقوا بالمدارس المتوسطة وتغير نمط حياتهم قليلاً، فصارت وجباتهم فى داخليات هذه المدارس تحتوي على اللحم والعدس والرز واللبن والفواكه شعروا بالزهو، وأزدادوا زهواً وخيلاء عندما صاروا قطب الرحى وسط مجتمعاتهم فى القرى والبوادي عندما يعودون لقراهم ويتجمع ويتجمهر حولهم الكبار والصغار ويسألونهم عن حياة المدينة وعن المدرسة وعن الأنجليزى وعوج اللسان وغيره، تضخمت الذات عندهم، وأيضاً بدأوا يتعلمون الكذب مستغلين جهل الآباء بالأنجليزى فصاروا يطالبون أهليهم بأن يرسلوا لهم النقود لشراء الكومبذشن Composition والديكتيشن Dictation والكمبرهنشن Comperhension وهى أشياء لا يحتاج لأن تشترى بالنقود، ولكن فى سبيل اشباع رغائب النفس العلية ودخول السينما والمدينة ولياليها الحمراء، فالكذب يهون وخداع الأهل والآباء يجوز، ومن هنا بدأ الأنحراف الوطني عن الوطن وقضاياه، ثم دخلوا الثانويات فى المدارس الثانوية الثلاثة العريقة وأيضا تغير نمط الحياة الى أفخم وبدأ التعامل مع الشوكة والسكين تقليداً للرجل الأبيض، فتضخمت الذات بزيادة فى دواخلهم وصارت الدنيا لا تسعهم وبدأ عليهم الأستعلاء على أندادهم بالقرى والفرقان الذين لم يحالفهم الحظ فى الدراسة، بل أن البعض استعرى من أهليه وصار لا يذهب فى الأجازات الى قراهم وفرقانهم فى بيوت الشعر المتحركة، وبلغ الأستعلاء على المجتمع والأهل قمته عندما التحقوا بالجامعات وصارت على أعينهم غشاوة وفى أذانهم وقر عن قضايا ومشاكل أهليهم، نسوا وتناسوا أن كل القرية تخرج لوداعهم وهم فى طريقهم للمدارس وهم يحملون ملابسهم فى شنط الصفيح، كل من فى القرية آت بهداياه سواءاً أكانت نقوداً أو بلحاً أو حلوى أو فولاً، الكل كان فى رجاء هؤلاء الأبناء ليتعلموا ويرجعوا اليهم ليقفوا معهم أمام المحاكم والحكام وليكتبوا له الطلبات والأردوحالات والعرائض وليطالبوا نيابة عنهم الحكام بتوفير القابلة وبئر الماء والشفخانة والدواء والمدرسة وذلك لتغيير حالهم الى احسن حال ولمساعدتهم فى الأستقرار، ولكن هؤلاء عندما التحقوا بجامعة الخرطوم وصار الأكل ما لذ وطاب وبالكتلوج والتحلية بالخشاف والباسطة وسرير فى الغرفة وآخر خارج الغرفة فى النجيلة لزوم الترطيبة وخدم وحشم، هنا بلغ تضخيم الذات مداه وأنعزلوا تماماً عن مجتمعاتهم وأنظارهم ترنوا وتتطلع الى وظيفة المحتل التي ستخلوا بطرد المحتل وتكون لهم العربية الفارهة والمنزل الكبير بحدائقه والخدم والحشم ولذلك تولد فيهم التطلع للسلطة والمال والجاه والوصول اليه بأي طريقة وبأي اسلوب سواءاً أكان أخلاقياً أو لا أخلاقي، المهم هو أن كل السبل تؤدى الى السلطة والجاه والمال وليذهب الآخرون الى سواء الجحيم ما دام هو سيكون وأولاده فى النعيم. ولذلك هؤلاء الا من رحم الله تزوجوا فى المدينة وبنوا لأنفسهم القصور فى المدينة التى أختاروا وبنوا فيها المدارس والمستشفيات لعلاجهم وعلاج أبنائهم وأوصلوا الكهرباء لأزالة الظلام لمذاكرة أبنائهم وكذلك الماء النقي والصحي ونسي أن هنالك فى قريته أمات ضفائر ومساير القابعات فى خدورهن فى انتظاره للزواج والكل تمنى نفسها به كفارس أحلام، ونسي كذلك الآباء والأمهات والأخوان والأخوات الذين هم فى انتظاره ليأخذ بأيديهم وليرتقوا بحياتهم الى الأحسن، سكن القصور وتركهم فى بيوت الشعر يعانون، الأستعمار خرج من البلاد وترك العاصمة القومية كقرية ليس فيها بناء من طابقين غير سراى الحاكم العام والدائرتين وجلاتلى هنكى فكيف صارت الخرطوم غابة من الأسمنت المسلح والعمارات وناطحات السحاب وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ذكر علامات الساعة ” أن ترى الحفاة العراة رعاة الشاه يتطاولون فى البنيان “

هؤلاء هم المتعلمون الذين أجادوا ربطة العنق وفشلوا فى ربط ورباط البلاد والعباد ومن أجل المال والجاه والسلطة تراموا تحت أرجل جنرالات الأنقلابات العسكرية والشيوخ والزعماء الذين بيدهم هذه الأشياء حتى ولو كانوا أقل منهم مقدرة وعلم وعطاء وفكر. هؤلاء هم الذين صنعوا الطواغيت كل الطواغيت وألبسوهم ما ليس فيهم حتى أعموا بصائرهم وصاروا يرون أنفسهم بأن رايهم لا ياتيه ال…. لا من بين يديه ولا من خلفه. ولنا فى القرآن عبرة وعظة فى قصة فرعون موسى والملآ الذين من حوله والذين حولوه الى طاغوت وجبار الى أن صار هذا الفرعون يقول ” وما أريكم الا من أرى وما أهديكم الا سبيل الرشاد” ” وأبن لى يا هامان صرحاً لعلى أبغ اسباب السموات وأضطلع الى اله موسى..” وبدأ يتجبر ويضرب ويقتل ” سنقتل أبناءهم ونستحى نساءهم ..” وتخيل نفسه الهاً ” لئن أتخذت الهاً غيرى لتكونن من المسجونين ..”

سقنا كل ذلك مقدمة لنصل الى أن الجنرال جعفر محمد نميرى قد كان رجلاً مسكيناً ومتواضاً ومن اسرة متواضعة وهو محدود الذهن والذكاء ولا يجيد الا لعب الورق وشرب العرق وسف التمباك والكورة وبالعقلية العنترية العسكرية قاد الأنقلاب العسكرى فى 25 مايو 1969م بأيحاء من النخبة المتعلمة فى اليسار السودانى وعندما استولى على السلطة وجد أمامه وتحت رجليه كل البروفيسرات والدكاترة وأساتذة الجامعات من بروف النذير دفع الله ومروراً بدكتور منصور خال ودكتور جعفر محمد على بخيت ورئي القضاء والعدالة بابكر عوض الله وانتهاء بروف محمد عبد الله نور وبين هؤلاء فى كل المراحل شعبىيعلمهم. وجد أمامه كل هؤلاء بركعون له ويسبحون بحمده ويقولون له ولأى شئ يأمر به نعم سيدى الرئيس. ثم ذهبوا يدبجون المقالات ويطلقون الكلمات ويؤلفون الشعر والنثر فى القائد الملهم وتدبيج الشعارات ورفع الحناجر بالهتافات التى تمجد القائد الملهم. وقالوا له أنت الشاية وأنت المحاية وأنت الشرلفة وأنت القسبة وأنت التقيبة ولولاك يا سيدى الرئيس ما كنا ولن نكون ودكتور أخر يقول له علمت أهل الخوى أن يأكلوا كذا وكذا وقفزت بهم الزانة. فصدق المسكين حعفر نميرى أنه كل هذا وأنه لا يعرف نفسه اذ كيف يخطئ كل هؤلاء العلماء ولا يمكن أن يخطئوا جميعاً وقطع الشك أنه كذلك وفوق ذلك أحتقرهم وبدأ فى أهانتهم ما دام هو يملك كل تلك الميزات التى لا يملكونها هم حتى ولو اجتمعوا لها فضعف الطالب والمطلوب وصاروا ليس أكثر من مراسلات فى بلاط حكمه. فصار يضرب هذا يميناً ويركل ذاك شمالاً ويعين هذا عن طريق التلفزيون حتى دون استشارته لأنه يعلم علم اليقين أن هؤلاء المتعلمين لن يرفضوا وأن كل همهم هو السلطة والجاه والمال. وكذلك بدأ يرفدهم ويفصلهم من مناصبهم الدستورية والوزارية من على المذياع دون أن يقول لهم كلمة شكر واحدة لما أسدوه له من خدمة لأنه هو صاحب النعمة وهو السودان والبقية خدم ويجب أن يمتن عليهم بدلاً عن شكرهم لأنه حقق لهم لفترة أشباع رغائبهم من الجاه والسلطة والمال. هكذا خلق وصنع المتعلمون المتأدلجون اصحاب نظريات الأحلام البعيدة عن واقعنا حتى بايعوه أماماً لأهل السودان فى الدين والدنيا وبذلك خلقوا الطاغوت الأول جعفر نميرى. لذلك هؤلاء المتعلمون فسدوا فى أنفسهم وافسدوا ودمروا الحياة لأهل السودان سياسياً وأجتماعياً وأقتصادياً وأخلاقياً.

ولم نستفد من تلك التجربة المايوية ويأتى أيضاً المتأدلجون فى أقصى الأتجاه الآخر والذين لو لا لطف الله بهم ولم تقم الأنتفاضة وجاء نميرى من رحلته الى أمريكا لكانوا اليوم كلهم فى عداد الأموات. جاء هؤلاء من أقصى لبيمين ليخلقوا كمية مهولة من الطواغيت والجبابرة فى حكم الأنقاذ هذا الجاثم على صدر شعبنا. وفى الأنقاذ أكثر من طاغوت بل أخطبوط من الطواغيت التى لا ترعى لا ألاً ولا ذمةً. وحال البلاد الآن يغنى عن السؤال وما وصلت له من درك على أيديهم لا يعلمه الا الله سواء أكان ذلك فى النسيج الأجتماعى للمجتمع السودانى أو أخلاقه أو أقتصاده أو تعليم أبنائه أو صحته …الخ.

وخلق الطواغيت ليس محصوراً على من بيده السلطة ولكن أيضاً على من يصل بهؤلاء للسلطة من شيوخ ونظار وزعامات ورجال دين وأصحاب ما وهلم جرا. ولأن لكل هؤلاء الأستعداد النفسى ليكونوا مشاريع طواغيت فلا يلتف حولهم ولا يسمعوا الا للمتعلمين المتطلعين للسلطة والذين يجيدون النفاق آناء الليل واطراف النهار. أما الصادقون والوطنيون المتجردون فلا مكان لهم مع الطواغيت أو مشاريع الطواغيت. ويبقى السؤال الى متى يظل كثير من المثقفين والمتجردين والحادبين على وطنهم وبنى شعبهم فى هذه السلبية يبتعدون عن الحراك الذى يحدث التغيير ويصلح الحال بدلاً من موقف المت… اوالهارب النافذ بجلده الى خارج السودان؟ متى تتملك الأجيال الجديدة من الخريجين الذين يلوذون بالطرقات دون هدف فى عطالة دائمة تسبب فيها القابضون على السلطة الآن. وتسبب فيها ايضاً زعامات وقيادات الأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى التى على رأسها المتعلمين الذين يبحثون عن السلطة وليس لتنمية المجتمع وتغيير الحال من هذه الحال الى حال تجعل السودان فى مصاف الأمم المتقدمة. الى متى تنتظر أجيال الحاضر والمستقبل ليقرر فى حياتهم ومستقبلهم دون أن يشاركوا فى تقرير هذا المصير؟. الى متى يسكنوا ويرتضوا كل السياسات فى الحكم والمعارضة وهى تحطم المستقبل الذى هو ملك لهذه الأجيال؟ ليست هذه دعوة تحريض وأنما دعوة أستنهاض لجيل يشكل ألآن أكثر من 60% من مجموع الشعب السودانى سلبت منه الأرادة بفعل فاعل وبغفلة منه.

وثالثة الأثافى أن النخبة المتعلمة عندما أزداد عددها وصارت أكثر من مصادر السلطة والمال والجاه المتاحة بدأ الصراع نحو هدف المال والجاه يأخذ أشكالاً مدمرة من العنف وأستخدام السلاح باستغلال البسطاء من الأهلين وأقناعهم بأنهم يدافعون عن حقوقهم وهم يريدون بهم الوصول الى السلطة والمال والجاه. فبدأت دعاوى التهميش والجهوية والقبلية تأخذ مجراها وحيزها الواسع على مجرى الحياة السياسية السودانية وكان نتج هذا أزهاق أرواح كثيرة من الأباؤ والأخوان والأمهات والأخوات والأطفال. وهؤلاء المتعلمون فى مأمن من هذه النيران المتصاعدة الحاصدة للأرواح بل يغذونها بالسلاح وأزكاء روح الكراهية بين ابناء الوطن الواحد الذين يجمعهم الترث والثقافة والقيم واللغة والدين والتقاليد، بل صار الأمر أضخم من ذلك أنهم يستجدون بمأساة اهليهم ومواطنيهم الضمير الأنسانى العالمى لأغاثتهم ورحمتهم وهم سبب ماساتهم وسبب معاناتهم وتشردهم لا لسبب الا اشباع رغبة الوصول للسلطة والمال والجاه. والذى أصابته السلبية من هؤلاء المتعلمين هجر الوطن والأرض والدسار الى بلاد المهجر فى كل مكان ولا يهمهم ولا يعنيهم ما يجرى فى بلادهم. وكذلك الذين فى بلاد أعتراب دول الولاربترول العربية ما كان ملهم الا غابات من الأسمنت المسلح لا تسمن ولا تغنى من جوع وأنطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم أن ترى الحفاة العراة رعاة الشاه يتطاولون فى البنيان ، فلم يستثمروا أمواهم فيما يفيد امتهم وصار صرفاً بزخياً من أجل اشباع رغائبهم فى التفاخر بالمظاهر. وسيظل الفشل والأخفاق متراكماً وستظل المأساة ماثلة ومتطورة ما لم تغير النخبة المتعلمة من منهج تفكيرها هذا الى منهج أكثر وطنية قوامه نكران الذات والأيثار على النفس ولو كانت هنالك خصاصة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *