الكنداكة سعاد إبراهيم أحمد..أو أم النوبيين

الكنداكة سعاد إبراهيم أحمد..أو أم النوبيين
صلاح شعيب
كلما أنظر الي الراحلة سعاد أتذكر الدكتورة نوال السعداوي رغم فارق التجربتين من الحياة. ربما تكون هناك مشتركات بين الشخصيتين اللتين شغلتا حيز التنوير المجتمعي في البلدين، وناضلتا من أجل قيم الديموقراطية، والتقدم، والكفاح غير الكسول لجلب حقوق المرأة المهضومة، ومقاومة بيئة التطرف والخرافة، والعمل من خلال حقل الدراسات العلمية لتسريع خطوات الوعي بالتاريخ البشري.
ولكن ما ميز إرث الكنداكة “سعاد آشا” هو أنها خرجت من محيط أرستقراطي جلبه تاريخ الأب. فأستاذ الهندسة بكلية غردون إبراهيم أحمد ارتبط، آنذاك، قياديا بالاتجاهات التقليدية في الحراك السياسي السوداني من خلال حزب الأمة. وهي، خلافا لأفراد أسرتها، والعديد من النساء الرائدات اللائي ورثن تاريخ الأسرة، اتخذت مسارا فكريا هو علي أقصى يسار ذلك الحراك الذي تبناه الأب وابناه صلاح، وكمال.
وإن كانت أم النوبيين، كما لقبت، قد ورثت القدرات المالية لزوجها حامد الأنصاري الراحل فقد وظفت تلك القدرات المالية لصالح المشاريع التنموية، والثقافية، والإنسانية، رغم أن فترة الإنقاذ عرقلت كل الاستثمارات الذي ورثته. زواج سعاد نفسه من الأنصاري العربي الجذور كان يعبر عن استقلالية قلبها. إذ لم تحفل بمعارضة العشيرة للارتباط بأحد خارج فضائها العرقي في ذلك الزمن، وإنما كان لابد أن يكون زواجها من الشخص الذي أحبته معبرا عن طبيعة خصوصيتها وسط مجتمعها الصغير، وعنادها أمام رفض زيجات حاولت ان تضعها مسايرة لعموم التقاليد التي ورثتها. وربما رأت سعاد أن آصرة العاطفة الإنسانية، والرباط الأيدلوجي هما الأقوى من أي رباط آخر. وتمثلت استقلالية سعاد مرة أخري حين تفردت دون أخويها، واللذين هما من قادة حزب الأمة، بان اهتمت بالثقافة النوبية، والتنقيب عن الأبعاد الإنسانية التي خلفتها، وسعت جنبا الي ذلك الي قيادة مشروع كتابة اللغة النوبية. وقد وظفت طاقاتها كلها لصالح هذا المشروع، وأكملته بأن أجادت إتقان النوبية بعد بلوغ الستين ربيعا. وبعدها أعادت الاستماع إلى أغاني وردي، ومكي علي إدريس، وصالح عباس، وأولئك الفنانين الذين طوروا تراث الغناء النوبي.
إرث سعاد إبراهيم في جوانبه السياسية، والثقافية، والاستثمارية، والأكاديمية، والنسوية، واللغوية، والجهوية، والفنية، يعبر عن حياة حافلة بالمشقة. فيكفي لامرأة مثلها أن تعاني فقط بمرارة من الذهن الذكوري، مثالا، في حقل واحد من الحقول التي لها فيها صولات، وجولات، ومرارات، وخصومات، واعتقالات، وسجون. ولكن برغم ذلك الجسد الواهن، بشعره الكثيف الابيضاض، ونظره الذي أخذ الزمن منه، لم تفتر همته حتي آخر لحظة من “الحياة النسمة علي القريبين منها”.
كانت في أيامها الأخيرة، عوضا عن الالتزام بنصائح الأطباء، تجلس الساعات الطوال في غرفتها التي تبعثرها الأوراق، والكتب، والصحف، والإيصالات، لتتابع مجريات الأحداث المحلية، والعالمية. وتتواصل كذلك مع شبكة واسعة من صديقاتها، وأصدقائها الناشطين في كل المجالات التي لها فيها مساهمات مميزة. إنها تكتب في مواقع الإنترنت، وتتداخل مع كتابه، وتخرج إلى الشارع لتقود مسيرة “لا لقهر النساء”، وتتابع فصول الدراسة بالنوبية، وتتواصل مع حملات اليونسكو للحفاظ على إرث النوبة. وفي الخارج والداخل تقود الحوار عن كيفية مناهضة مشاريع السدود التي تنوي الحكومة إنشائها دون التوصل الي تفاهمات مع أهل المنطقة.
ومع ذلك تفرد مساحة من سحابة نهارها لمتابعة الشؤون القومية المتصلة بمواقف حزبها، وقضايا المشردين في مناطق النزاع، وتنسيق شبكة الأعمال الاستثمارية المتبقية في جنوب كردفان، والنيل الأزرق، أو شرق السودان، وغيرها من المهمات التي يعود ريعها لصالح أهل البلاد. وسعاد برغم نوبيتها التي تجاهر بها مفاخرة بإرث ضارب في التاريخ إلا أنها لم تكن منكفئة علي عشيرتها، وجهويتها منذ ميلادها في أمدرمان. ولعلها بدلا من أن تذوب في ثقافة المدينة كما ذاب الكثيرون من ابناء، وبنات عشيرتها، عملت علي ترسيخ أهمية الوفاء لمناطق الآباء، والأجداد. ذلك بالتوازي مع حراكها القومي، وهي في هذا فقد قدمت نموذجا للمزاوجة بين العمل القومي الفاعل، والتضامن مع العشيرة في القضايا التي تتعلق بصون ثقافتها، وحماية وجودها، ومكافحة مظالمها، وخدمة مستقبلها ضمن الكيان السوداني.
-2-
في جامعة الخرطوم التي تخرجت فيها من كلية الآداب، اهتمت سعاد بالعمل الثقافي فأنشأت جمعية التمثيل والمسرح رغم شراسة معركتها في هذا الأمر مع الطلاب الإسلاميين. ولعل ذلك الارتباط بالثقافة اثناء ساعات الطلب العلمي لم يتوقف الي آخر شهر من حياتها. ولاحقا شاركت في تأسيس نادي السينما. وهذا الاهتمام بالشأن الثقافي الباكر هو الذي مهد للأستاذة سعاد الاستنارة الكافية لخوض تجاربها العملية في الحياة وتطويرها. بل منحتها الثقافة المنتجة فنيا بعدا إنسانيا كبيرا في الاهتمام الراسخ بالآخر المظلوم والمنكوب، وتعميق نظرتها للأشياء، وتحسين شروط إبداعية عموم حراكها. وربما لا يعرف الكثيرون أنها ساهمت بفكرها، ومالها، في انشاء إذاعة “كدونتكار” ولم تبخل بما لديها من رؤى لدعم هذه الإذاعة الوليدة التي سلطت الأضواء علي القضايا القومية عموما، والقضايا النوبية خصوصا.
السؤال الذي يطرح نفسه هو إلى أي مدي استطاعت الدكتورة سعاد إبراهيم ان تؤلف، وتوالف، بين تباينات اهتماماتها. إذ هي تكدح من أجل مشروع سياسي كوني، وفي ذات الوقت تحاول من خلال تحريك رأس المال المحلي أن تكون جز من طبقته. وهي الجماعة التي ظل غالبها يحتكر تنفيذ العطاءات الحكومية، ومزاداتها، وتعمل في ظروف عدم الشفافية في مراكمة الأرباح علي حساب ضعف قدرات العامة في الاستفادة من الموارد الاقتصادية في البلاد؟
كذلك كيف تبدي لها القناعة بالأيدلوجيا التي تسعي لمحو الفوارق الثقافية، والجهوية، والمناطقية، لصالح انتصار ثقافة المجتمع الإنساني الاشتراكي التقدمي، وفي ذات الوقت تعمل بجد، وإخلاص، بهدف بعث الثقافة النوبية، وإعادة الاعتبار إليها حضاريا، في ظل محاولات طمس التاريخ السوداني؟
الثابت ان الفيض الإنساني الكبير داخل شخصيتها هو الذي حماها من شر الوقوع في بعض آسن التباينات الكثيرة التي كانت تبحر فيها. كما أن طبيعتها المستقلة بمسافة من تفكير الذين من حولها هي التي يسرت لها أن تكون اسهاماتها معبرة عن رؤيتها الموضوعية والبناءة. ولئن عرفت سعاد برفقها بغمار الناس فإنها من خلال هذه الأعمال المتشابكة كانت بوصلة أهدافها وتنفيذها ترنو الي خدمة هؤلاء الناس، والتعبير عن مظالمهم، وعونهم أمام شدائد العصر التي وطنت الكثير من الاحتيال الثقافي، ووظفت أهدافها الاستراتيجية علي حساب المساكين القاطنين في الديار المفقرة، وعمقت الاحتكار السلطوي، والاقتصادي، والتجاري. ببساطة، واختصار، أن العصر الذي عاشته سعاد، شاهدة وفاعلة فيه، لا يتوجب علي ساكنيه القيام بشي عظيم مثل ضرورة النضال لصالح طبقة الفقراء. والذين هم كذلك بسبب صمت النخبة أمام مظالم المستأثرين بغير حق علي مصادر الثروة، والحكم، والنفوذ. ولأنها كانت مثقفة متصالحة مع ذاتها تميزت بألا تكتفي بممارسة السياسة النخبوية من عل. فهي نشدت الانتصار للمثل الديموقراطية من ناحية أولوية تمديد الرباط الاجتماعي مع العمل القاعدي، واستنهاض الثقافة التي تقاوم التمييز الجندري، والطبقي، والجيلي، والجغرافي. ولهذا كان طبيعيا أن توجه الاستثمار نحو غاياته العامة، وأن تحافظ على مطبعة الزهراء التي ورثتها، وتعمل على إبقاء مشاريع البني التحتية التي عوقها رأس المال الإسلاموي الطفيلي. وناتج هذا الحرص على الإسهام أن تمت محاصرة عطائها الأكاديمي عبر جامعة الخرطوم، حتي ان لم يكف ذلك وضعوها في السجن حتي تتعطل مسيرتها، ويصمت صوتها، وبالتالي تجفف الصلات التي تقيمها مع كثرة من المناهضين لايدلوجيا الارتياب، والغياب.
-3-
لم ألتق أم النوبيين يوما. ولكني كنت متابعا لعطائها الوريف ضمن عطاء النخب المميز، والذي لا بد أن يدركه المهتمين بالشؤون السياسية، والثقافية. تحدثت معها مرة وطلبت مقابلة إذاعية، ولكنها اعتذرت بسبب نزلة برد بدت واضحة في صوتها. وضمن المقابلات التي أجريتها مع أكثر من ثلاثين خبيرا في القضايا العامة لصحيفة (الأحداث) عام 2009 أخترتها لتجيب على عشرة أسئلة موحدة وجهتها لكل ذلك العدد من الخبراء. واستجابت مشكورة بأن أرسلت لي الإجابة مع الصديق الأستاذ محمد يوسف وردي. أتذكر أن إجاباتها نشرت في صفحة كاملة من الجريدة. وحوت ردودا واضحة، وعميقة، لا لبس فيها، ولا غموض فيها. وهذا الوضوح في القول الشفاهي، والمكتوب، هو ما ميز استقامة سعاد إبراهيم أحمد. فهي لا تتوانى من التعبير عن كل ما تراه صحيحا. واختطف هنا جزء من أقوالها ردا على اسئلتي:
“..درب الخلاص من الديكتاتورية طويل، وطريق العدالة والتنمية المتوازنة تحفه الاشواك، ولكني لست متشائمة لأنني التقي كل يوم بشباب من الجنسين، وقر في قلوبهم وعقولهم الاقتناع الكامل بأن في مقدورهم مواجهة المجموعات المتسلطة فكريا، وعمليا، بعد تسوية ساحة النشاط السياسي ثم منازلة والحاق الهزائم بالانتهازيين منهم..”
“..القضية الجوهرية هي أن التعليم وحده لا يؤدي بالضرورة إلى احداث تغييرات اساسية في المجتمع المعين فهناك المتعلم الذي لم يتمكن من ازالة البلم، كما في المثل العامي الشهير، فلا بد أن أن يوجد من ادرك بالوعي الفطري أن هناك اوقاتا يكون فيها الصمت الساخط جريمة في حق الاوطان. فتربية الاجيال على النظر الناقد لما هو كائن وتدريب العقول على التفكير المتسائل ـ رغم اهميته ـ لم يجد إبان الحكم الاستعماري من يجعله واقعا معاشا، فلسفة ومنهاجا، في النظام التعليمي. وحتى بعد الاستقلال لم تتمكن الطبقة الحاكمة من مواجهة الفكر السلفي الذي فرض رؤاه الضيقة في مناهج المدارس الحكومية حتى بلغ درجة طرد مستشاري اليونسكو في العلوم الطبيعية والتاريخ بعد عامين من الاستقلال علي يد الإسلاموي مندور المهدي عميد معهد التربية ببخت الرضا باعتبار ان العلوم الطبيعية تشمل نظرية النشوء الملحدة، واستمر الاصرار على تغبيش الوعي حتى ما بعد اكتوبر حين منع بروفيسور فاروق محمد إبراهيم الأستاذ في كلية العلوم بجامعة الخرطوم من تقديم نظرية النشوء وحال تسلموا زمام السلطة قاموا بتعذيبه في بيوت الاشباح لنفس السبب، أما تاريخ السودان فلا معنى لتدريس القديم منه. فيكفي أن يتعرف النش على ما بعد 1504 ودولة الفونج الإسلامية..”
“..يبدو لي أننا لن نتحرر من كل الاوهام المتعلقة بإمكانية تغيير سلوك الاسلاميين بالمناقشات السلمية وحدها لإقناعهم بضرورة الغاء القوانين التي تكبل حركة الشعب. وقديما قيل إن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة، عليه: آن لنا أن نقف في اركان الشوارع وفي كل الساحات، وفي كل مدن وقرى الوطن، كما كان يفعل الشاعر “برتولد برشت” في المانيا لنقول علنا وعلى رؤوس الاشهاد كفى.آن لنا أن نتحرر من كل القوانين التي تكبل حركتنا لدرجة تقديم حملة الاقلام أمثال الصحفية المميزة لبنى أحمد حسين لمكمة النظام العام..”
“..من تجربتي الشخصية في النشاط العام الممتد منذ الدراسة الثانوية في بداية الخمسينات حتى اليوم لم أشارك في منظمات إقليمية إلا بعد التخرج من الجامعة عام 1960،عندما واجهنا كارثة إغراق السد العالي، وكان ذلك الغضب شاملا للكثير من مدن السودان. ولم تكن المظاهرات قاصرة على النوبيين وحدهم. غير أن سياسات الإسلاميين بعد احتكارهم للسلطة عام 1989 غير مسبوقة في قسوتها على أهل النوبة . بدأت بإلغاء مؤسسة الشمالية الزراعية التي كانت توفر الري للشمالية بأسعار مدعومة منذ الثلاثينات (عشرة قروش للفدان وخمسة قروش للنخلة) بفرض اتاوات، وضرائب على النخيل، وكل المزروعات عندما قال لهم اللواء الزبير محمد صالح مسؤول الشمالية في مجلس الثورة: “إذا سقيتوها بالجوز نشيل الثلث، ومعاها الزكاة” كان رد الشعب : ثلث للزبير، وثلث للأسبير، وثلث للطير، والمزارع فاعل خير. ولم يكتفوا بذلك بل أوقفوا الميناء التاريخي في وادي حلفا في سبتمبر 1994 لصالح العبيدية قرب أتبرا، ثم منعوا منظمة الصحة العالمية من الاستمرار في الرش من اسوان حتى دنقلا في إبريل وأكتوبر وكانت المنطقة خالية من أمراض المياه لمدة 26 عاما. نتج عن ذلك أن تعطلت المنطقة بكاملها وأفرغت من سكانها بعد أن تناقص عدد القرى المأهولة في محافظة وادي حلفا من 114 إلى 76 قرية واغلقت 31 مدرسة بسبب نقص السكان المهول لانعدام التنمية..”
“..آن لنا أن نزرع ساحات الجامعات والمعاهد والاندية لإقامة اركان النقاش والندوات والسمنارات، نتوخى الصدق، ونمارس النقد، بل الهجاء الشجاع للامية الأبجدية والسياسية المنتشرة، ونتحدث عن أحوال الشعب الذي تمدد الفقر في اوساطه حتى أفقد الكثير من الناس صوابهم، وأضعف قدراتهم على الاحتفاظ بكبريائهم وامانتهم، ونعدد ونحلل كل القوانين المقيدة للحريات الديموقراطية والتقييد الانتقائي المتعمد للإعلام..”
· رحم الله الكنداكة سعاد آشا بقدر ما قدمت للباد، وأسكنها فسيح الجنات، والعزاء لأسرتها، وأقاربها، ولأهل السودان عموما، والاسرة النوبية خصوصا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *