الكتابات الباردة لهذا “المثقف الفخم”!

صلاح شعيب

هناك نوع من المثقفين يSalah Shuaibعيش ترفا ذهنيا أمام اشتواء مواطنه بنار السلطة الديكتاتورية. يُنظر هذا المثقف في كل شئ، بدءً بالحديث عن بحث أسباب اغتيال المطرب زنقار، ومرورا بأسبقية أهرامات البجراوية على الأقصر، وانتهاء بأوجه التماس بين بنيوية كلود ليفي شتراوس وبين الأكاديمية الرسالية لنعوم تشومسكي. طبعا كل ذلك التنظير مفيد لضرورات المعرفة العامة، ولا غبار عليه. ولكن حين نطلب من هذا المثقف الطازج أن يتنزل من عليائه برهة للتضامن مرة واحدة مع الذين تقهرهم السلطة كل يوم يقف حمار الشيخ عند عتبة الخوف. إنه بذلك يبدو ـ كما أراد ـ مثقفا رفيعا، وأكبر من أن يتضامن مع أطباء يحاولون الانتصار للمواطن، وأنه ليس معنيا البتة بكتابة مقال يتيم حتى لدعم مبادرة “لا لقهر النساء” وجلدهن، أو يشجب التضييق على ستات الشاي بالأتاوات. إنه مثقف لا يتجرأ أن ينتقد قوات حميدتي التي تغزو مسقط رأسه، أو يتضامن مع قاطني السكن العشوائي الذين تركتهم المعتمدية في العراء بالآلاف، أو يقارب بين دجل الكاروري ودجل الصافي جعفر، أو حتى يعبر عن أثر الوثبة في تعميق الكذبة. أما إذا تجاسر هذا المثقف مرة، وكتب في السياسة الداخلية فإنه يثرثر بكلام رمادي، لا يغني ولا ي

سمن من جوع.

عبر الملمات الاجتماعية لاقيت كثيرا من هؤلاء المثقفين الذين يدعون أنهم ليسوا بسياسيين رغم أنهم يدركون أن طلاب الجامعات بوعيهم السياسي يسقطون الحكومات الشمولية، كما دلت تجربة تاريخنا. وفي تلك الملمات فإن أول شئ يبدأ هذا المثقف بإثارته هو مناقشة مجريات الواقع السياسي، وحين نتدخل نحن المجتهدون بالكتابة السياسية يمسك بتلابيب المحاضرة التي يقيمها، وحين يدب الخلاف يرى أننا لا نفهم شيئا من رجاحة رأيه المجلسي!. على أن بعضا من هؤلاء المثقفين الكبار يختفون في “القروبات” الجديدة، ويمسكون بدفة الحوار السياسي، ويبرزون عضلاتهم المعرفية أمامنا. ولكنهم لا يحبذون إعلان موقفهم عبر نشر هذا المزيج الفكري للرأي العام مخافة أن تدركهم رقابة عيون الأمنيين. إنهم فقط مثقفون يفضلون الاختباء في الأثير لإبراز وطنيتهم الباذخة، وإظهار الأستذة، والانتفاخ بتحصيلهم العلمي.

هذا المثقف نفسه الذي تلقى تعليما راقيا، وتدريبا جيدا في مهنته المتصلة بحيوات البشر، وعرف دور تاريخ المثقفين الأماجد في العالمين القديم، والحديث، يخشى شيئين: مجابهة القادة المتسلطين، وتصويب مواقفهم، والتصريح ضد الأحداث القمعية التي تحدثها السلطة. ولذلك عرف قادتنا الرئاسيين أن لا مجال للمثقفين التكنوقراط لانتقاد برنامج الحكومة وإلا فـ”الباب يفوت جمل”. نعم، تتعدد ذيول الأزمة الوطنية التي نعايشها، ولكن يبدو أن خيبة المثقف السوداني الذي ركزت عيناه على الوزارة، أو السفارة، هي التي حملت الزعماء على السير بمثابرة نحو تمكين خزعبلاتهم الدينية، والسياسية، التي أفشلت أي إمكانية لتوحد، وتقدم، البلاد. فالزعماء الذين بقوا في أحزابهم لنصف قرن عرفوا أن هؤلاء المثقفين سيقبلون أياديهم، ويسكتون أمام كل خطوة خاطئة يخطونها مهما أثبتوا فشلهم. كذلك أدرك قادتنا بالتجربة أن غالب المثقفين الغردونيين الذين ورثوا البلاد بعد الاستقلال، حين ينتمون إلى الحزب الطائفي إنما يرومون تحقيق النفوذ، والثروة، والوظيفة، وإذا وصلوا للسلطة منحوهم شيئا مما رغبوا فيه. وإذا فقد القادة السلطة انضموا تلقائيا للأنظمة الشمولية التي تغدق عليهم ما يريدون، وإذا سقطت الأنظمة عادوا إلى أحزابهم معتذرين لعلهم يحظون بشئ من وظائف الزمن الديموقراطي. أما إذا لم ينفع هذا التلون، أو ذاك، نشدوا العمل في المنظمات الدولية، وتقاعدوا عندها.

-2-
إن عدنا لتاريخ المثقف والسلطة في بلادنا لوجدنا أن معظم المثقفين الكاتبين الذين أنجبتهم مرحلة الاستقلال ركزوا على السير في المسلمات المجتمعية التي تجاوزها الزمن. ولكنهم عجزوا عن تقديم مساهمات نقدية مخالفة لتصورات الممسكين بالمشهد السلطوي، والسياسي، والفكري، والثقافي. وبالمقارنة بتاريخ التعليم العالي الجامعي في بلادنا فإن الذين ساروا عكس التيار المجتمعي قليلون، أما الذين قدموا أرواحهم من النخب المعروفة المعارضة للأنظمة الديكتاتورية فنكاد لا نعثر إلا على أفراد يعدون بالأصابع. وتراث الأفندي هذا الذي تراكم لأكثر من نصف قرن سم طبيعة المثقفين السودانيين الذين يفتقد غالبهم إلى المبدئية، ولا يحسنون الالتزام ببعض مقولاتهم الصائبة، أو الإصرار على الثبات في المواقف الأخلاقية الصعبة.

على مستوى المثقفين الذين انتموا للإسلام السياسي كانوا هم الأكثر إذعانا لقادتهم نظرا لطبيعة التنظيم التي تتعلق بتشديد الولاء، وحزم الضبط التنظيمي. وبرغم أن المثقف الإسلاموي صدر من موقع ضد القداسة الطائفية، كما أبان، فقد انتهى إلى تقديس زعاماته. وبالتالي لم تأت مراجعاته الفكرية قوية في ملاحظاتها ضد النظام الأبوي الحزبي الذي تلاعب به شمالا، ويمينا، ووسطا. وقد مارس هذا النوع من المثقفين الإسلاميين أيضا صمته تجاه تجربة فصيله السياسي الكارثية بهدف الحفاظ على وظيفته، أو الخوف من إنهاء العلاقة التاريخية مع تنظيمه، والتي انبنت على تشابكات صهرية، ومنفعية، واستثمارية. وما يزال المثقف الإسلاموي فاقدا لبوصلة الرؤية الشجاعة التي تخلق نقدا جادا لما جرى، ويجري، أمام ناظريه. بل إن عقليته الاتباعية لم تحرره من تقديم تصورات فكرية تتقاطع مع النظرية التي آمن بها فيما كذبها الواقع. وبالتالي يغدو السكوت هنا ـ بتبريرات الحفاظ على سلطة الإسلام السياسي ـ أفضل وسيلة للمثقف الإسلاموي للتسوية التنظيمية، والنفسية.

-3-
بالنسبة لأغلبية حالات المثقفين التكنوقراط، وأولئك المستقلين بلا موقف وطني، والذين يتدثرون بعباءة شكلانية لليبرالية، فإن الضرر الذي وقع منهم تجاه مواطنهم مما يقارن. فالأنظمة الشمولية قد استعانت بهم بأشكال متفاوتة نتيجة لمواقفهم الرمادية، ولارتباطهم بالوظيفة الحكومية التي تمثلت في حقول الدبلوماسية، والإعلام الحكومي، والمؤسسات الثقافية، خصوصا. وقد تكورت طبقة هؤلاء الأفندية الذين أثبتوا المقدرة على المناورة بين الأنظمة الديموقراطية، والشمولية، ولذلك تفتقت مواهبهم بالكمون أيام الحرية، وتنشيط الجهد في فترات الكبت. وبالتالي عرف هؤلاء المثقفون التقانيون كيفية أكل أكتاف “الثورات” فيما عرف “الثوريون الكذبة” كيفية استخدامهم بالشكل الذي يوطد أركانهم. ولعل أفضل نموذج لهؤلاء تمثل في الإعلامي علي شمو، والذي لم يقدم عملا إعلاميا بعد إجرائه ذلك الحوار مع الفنانة أم كلثوم في نهاية الستينات. فهو من جهة ترك المهنة بعد أن ضاق طعم الوزارة، وخدمة الديكتاتوريين، وما يزال يكنى بأستاذ الأجيال. ذلك رغم أنه لم يصدر كتابا جادا عن أهمية الحرية للإعلامي، أو أدار مؤسسة إعلامية مستقلة حتى تستفيد هذه الأجيال من خبراته المدعاة، أو قدم برنامجا إذاعيا، أو تلفزيونيا طوال الأربعة عقود الماضية. ولعل نموذجه يمثل دلالة صارخة على خيبة المثقف التكنوقراطي الذي يعرف كيف يحيك الأفك للسلطات الديكتاتورية ومع ذلك يقدم كشخصية وطنية، وأحيانا تستعين به جهات من موقع استقلاليته!.

عودا إلى بدء، تمثل المرحلة التي يعايشها السودانيون الآن أخطر المراحل في تاريخ البلاد ما يستدعي وضوح رؤية المثقفين حول الوقوف مع النظام أو ضده. ووضوح المثقف تمثل درجة عالية من صدقه، ورجاحة رؤيته، وشجاعة شخصيته. فإذا أوجدنا العذر للصامتين الذين يريدون الموت بجبنهم في عدم الوقوف مع شعبهم لمحاربة الكبت، وخلق نظام ديموقراطي، يحقق العدالة والسلام، والتنمية، فإن لا عذر للذين ينشطون بالكتابة الرمادية التي لا تخاطب جوهر القضية السودانية. فالتلذذ بالأنس السياسي في الصالات الخاصة، وإحداث الثرثرة حول أفاعيل الحكومة دون التقدم خطوة لتسجيل المثقف لموقفه، والعمل على تعميق فرص الكتابة الباردة، يمثل خيانة لضمير الأمة. ففي الوقت الذي يتقدم الأطباء الصفوف، ويهدد المعلمون بقفي آثارهم للانتصار الإستراتيجي للمواطن ينبغي أن يقف المثقفون خلفهم، وإعلان مواقفهم عبر بيانات جماعية للمنتمين للمهن، وذلك حتى يتخلق رأي عام يحقق لكل السودانيين وضع سياسي أفضل تزدهر فيه هذه المهن.

لا قيمة للمثقف الذي حظي بدرجة عالية من التعليم إن لم يحس بأوجاع أهله الذين يعانون من المسغبة، والقهر، والخوف. ولا احترام لمجهود كل من فضل الصمت على ما يجري في البلاد من قمع ديكتاتوري، ولاذ يُنظر حول قضايا لا تمثل شيئا جوهريا لجموع المواطنين الذين يبحثون الآن عمن يخلصهم من عذاب السلطة الحالية. فالأولويات الحياتية مثل الحصول على الطعام، والماء الصالح للشرب، والإحساس بالأمن، والصحة، والسلام، والتعليم، هي القضايا التي يجب أن تكون مناط التركيز، ولعلها هي أولى أولويات أماني كل السودانيين الذين يعيشون في الداخل في وضع بائس، وظالم، وقاهر.

صلاح شعيب
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *