السودان: انتهاء عصر الدولة المؤدلجة

صلاح شعيب

سنوات قليلة تفصلنا عن شغل الدولة المؤدلج وسط تركيباتها الدينية، والمذهبية، والثقافية، والاجتماعية، والفنية، إلخ. وإذ كانت الأيدلوجيات منذ فجر التاريخ تحاول صياغة ذهن الشعوب وفق تصوراتها فإنها بالكاد تنفق كل طاقتها الآن لصد انتقادات الديموقراطيين الليبراليين بنعومة حينا، وبعنف غير مسبوق أحيانا.

وهذه المرحلة الانتقالية التي نعايشها في كثير من بلدان العالم للخطو نحو التحرر الكامل من تأثير مستميت لإعلام وثقافة الدولة على المواطنين، وتراجعهما في ذات الوقت، ليست سوى سانحة للعصف الذهني لما ينبغي أن يكون عليه حال التحرر الكامل بعد حين. ومهما بذل حماة الدولة المؤدلجون من مجهودات للالتفاف على منجزات العصر الممهدة لسطوة الحرية الفردية للمواطن فإنهم لا محالة سينهزمون شر هزيمة.

إن أكثر الدلائل على هذا الخفوت لسلطة الدولة المؤدلجة تتمثل على سطح الميديا الحديثة الوارثة للإعلام التقليدي. وإذ بدا الآن هناك تعطش للحريات فنحن نلحظ كذلك تمردا كثيفا من الأجيال الناهضة على تاريخ تشكل الدولة نفسها، وأيديولوجياتها، إذ تسعى إلى إظهار المطمور من جرائمها التي غطاها الإعلام التقليدي آنذاك.

إنها أجيال جديدة يسعى المبدعون منها ليس فقط للبحث عن فضاءات جديدة للحرية، وانما أيضا إلى تمهيد المجال لتفكيك خطل الانسجام في بؤرات فكرية محددة، والتي ترسم طريقا واحدا للتعاطي مع كل ضروب النشاط البشري. والحال هكذا ينخفت، وينخفض، صوت رموز قديمة في مجاراة هذا التفكيك الهدام للبالي، والذي يملك القدرة على المثابرة، والحيوية، وإتقان العزم.

وبحكم انشغال هذه الرموز برهق الجسد، وعلله، والعجز عن مسايرة سرعة التواصل، ومعرفة أسرار تقنيات هذه الميديا الحديثة، فإن الأصوات الجديدة لديها مقدرة كبرى في اختراق قواعدها الجيلية. بل إن هذه الأصوات تصل إلى كل الأجيال القديمة التي تتلصص متابعتها في ظل عجزها عن تثوير فاعلية الآليات التواصلية. والمتابع لحركة الميديا الحديثة يلحظ غيابا لجيل الآباء الذي ما يزال بعيدا عن التأثير في الوسائط الإعلامية. وتدريجيا سوف تفرض الميديا الجديدة رموزها المميزة من شباب اليوم في مجالات الفكر، والأدب، والفن، والتي تحل محل الأجيال القديمة. وبرغم الانتقادات التي توجه لهذه الأجيال بحجة عجزها عن البناء فوق المواريث الإبداعية إلا أن ما توفر لها من سبل معرفة سيعزز خطاها على مستوى التجويد، ومراجعة تجاربها المنتجة، واستنباط أشكال، ومواعين، إبداعية جديدة.

-٢-

نذكر تماما أنه حتى أوان السنوات الخمسة الأولى للألفية الجديدة كان رموز المشهد الفكري، والثقافي، والفني يسيطرون على مساحة الإعلام التقليدي. ولكن مع بروز مواقع الإنترنت تبدل الحال كثيرا. شاهدنا رموزا جديدة للكتابة في مجالات التفكير، وسائر مناحي الإبداع. ففي الرواية قرأنا لأسماء جديدة تسعى إلى الاصطدام مع تراث الدولة.

وفِي رواق الشعر الذي بدأ منذ الثمانينات يأخذ طابعا تحديثيا برزت أسماء جديدة مبشرة. وفِي الكتابة الصحفية انفردت عدة أسماء باستقطاب قراء كثر. ذلك بجانب وجود مواقع مهنية سحبت البساط من الصحافة التقليدية، ومع تراجع تأثير الصحافة الورقية تفرغ عدد من الصحافيين المدربين مهنيا لإنشاء مواقع جديدة. أما في مجال الغناء فإن الفضائيات الكثيفة، والميديا الحديثة، لعبت دورا في إبراز مغنين جدد، وإن كانوا يفتقرون إلى التأليف الغنائي المميز.

وكذلك أسهمت هذه المجالات الإسفيرية في بروز وجوه جديدة في مجالات العمل الإذاعي، والتلفزيوني، من معدين، ومخرجين، ومذيعين. وفِي النقد ظهرت أسماء جديدة تقول بوجوب قتل النقاد أنفسهم، فضلا عن قدرتها الجيدة في توظيف المناهج النقدية المعاصرة، ورؤاها المستقلة.

كل هذه الأصوات، والتجارب الجديدة، لم يكن لتجد مناخا للتطور لو أن الإعلام التقليدي ظل على نسق سيطرته القديمة. ولو أن الاجيال القديمة ما فتئت تفرض سيطرتها على الصحافة، والإذاعة، والتلفزيون، ودور النشر، والمؤسسات الثقافية. ولئن كانت هذه الميديا القديمة مملوكة للدولة، والتي يمتد تأثيرها حتى للإعلام الخاص بحكم قوانينها العامة، فإنها الآن تعد من أكثر الموصلات الإعلامية المعرض دورها للضمور. ذلك في مقابل تنام متسارع للحاجة إلى الإعلام المستقل، سواء من إشراف الدولة، أو التنظيمات المؤدلجة. وبمثلما أن الصحيفة الحزبية صارت جزء من التاريخ في ناحية التأثير على الرأي العام، فإنها ستظل تكابد لطرح وجهة نظر واحدة بينما كوادر الحزب أنفسهم هم الأكثر حرصا على الانفتاح على صحافة الانترنت.

ولعل نهاية زمن الصحافة الحزبية، والحكومية، يمثل الدليل الأقوى على حاجة المجتمعات الإنسانية جميعها للخروج من إسار التفسير الواحد للكون، أو الأحداث، أو الأشياء. فلتكن النظرة الأيديولوجية حية، ومزدهرة، ولكن بعيدا عن السيطرة على جهاز الدولة، أو نشاطات المجتمع، أو المجال الثقافي. وإذا كان ذلك من المتاح لها الآن وسط مرحلة الانتقال الى عالم التعدد الفكري فإن الأجيال التي تربت وسط خيارات النت المتعددة لن تقبل بهذا البتة بعد عقود قليلة.

-٣-

مما لا شك فيه أن الاجيال القديمة واجهت المعايير الصارمة إزاء عرض إبداعها. ومع ذلك هذا ساعد في تجويد عطائها المتنافس على مساحات ضيقة. وَمِمَّا لاشك فيه أيضا أن الأجيال الجديدة كانت محظوظة بأن لا تجد أمامها سياجات معايير تكبل حرية انطلاقها لتأكيد قدرتها على الخلق. إذن فإن لكل جيل معطيات متمايزة تفرض الإيجاب والسلب في كيفية تنامي العملية الإبداعية.

فسيطرة الإدارات الإعلامية، والثقافية، وتحيز النقاد، ولجان النصوص السابقة، على جيل الأجداد، والآباء، أسهمت في ترقية بعض الإبداع. ولكنها في ذات الوقت لم تكن لتسمح بوجود اتجاهات فكرية، وإبداعية، خارجة على نسق السياسة الرسمية لحماة الدولة. أي بمعنى أن الإطار الثقافي الذي نشدته الدولة (للأمة) هو من قبيل التأكيد على المواريث القيمية، والفنية، لتحالفات السلطة التاريخية التي مكنت النهج السلفي، والإذعان للسطان، والقصيدة العمودية. ولكن مع انفتاح الأجيال الجديدة على الحداثة وصلنا إلى مرحلة الانفجار في كتابة الرواية، وازدهار فن التشكيل، وسطوة قصيدة التفعيلة ثم النثر، وبارحنا النقد الانطباعي لننتهي إلى نقاد بنيويين يطالبوننا بالنظر إلى النص بناء على منهجيات كلود ليفي شتراوس، وجاك لينهارت، وجاك دريدا، ولوسيان قولدمان، وجوليا كريستيفيا. وفِي الشعر الغنائي، والتأليف الموسيقي، والدراما، والمسرح، ساهم تجريب خريجي المعهد في تثوير هذه المجالات الإبداعية، وتراجعت الأشكال، والفهوم الفنية القديمة لصالح الحداثة.

صحيح أن إبداع الأجيال الجديدة مواجه بغياب المعايير في العرض. وربما ساعد هذا العامل في إتاحة الفرص بالتساوي لكل من يستطيع الوصول للوسائط، سواء في الفيس بوك، أو تويتر، أو الواتساب، أو المواقع والمدونات. سوى أن المعايير التي تعارف عليها المتلقون بناء على جودة مضمون تجارب الاجيال القديمة ما تزال تسيطر على وعيهم، وربما تنفرض معايير جديدة بناءً على ذائقة هذه الأجيال المشرئبة للإسهام.

أما على مستوى الشكل فإن كثافة التجريب تعبر عن مرحلة إبداعية انتقالية، وهكذا ربما بالمزيد من التراكم سيصل المتلقي إلى منهج لغربلة الثمين من الغث. ولكن المهم هو أن الفكرة الموحية للعمل الفني ما تزال تمثل جوهر الإبداع، وأن تجويد الشكل الفني أيضا يمثل عنصرا فاعلا في استقطاب المتلقين. والإثارة، والمتعة، والإلهام، والدهشة، تمثل، بجانب الموهبة وصقلها، القاسم المشترك للحكم وسط المنتجين المميزين في حقول التفكير، والتبديع.

ومهما تكن هناك فرص أفضل، ومتوفرة، للعرض الثقافي في النت إجمالا فإن ذلك ليس وحده بكافٍ لخلق تواصل مستمر مع متلقي هذا العصر، والذي هو نفسه أمام خيارات عديدة في زمان الانفجار المعرفي، وليس لديه الوقت الكثير كما في السابق لمنح المبدع فرصتين.

هذه السيطرة المجتمعية لحقول التفكير، والفنون، والإعلام، لا بد أن تعلي من قيمة التعدد الإبداعي، والتي لم تكن قط سمة الإبداع الذي ترعاه الدولة، وليست من هم الرموز الذين لا يستطيعون الخروج عن أقنوم السلطات الثقافية الداعمة. أمام هذا الطوفان المعرفي الذي ينهش كل ثانية في جسد الدولة، ومسلماتها التي تعارفنا عليها، ويشكك في الحقائق التي توصل إليها رموزها، والمؤرخون، والإعلاميون، منهم، فإن متاحف المستقبل القريب سترينا نماذج من الخطابات الفكرية والإعلامية الحكومية المضللة في اغتصاب الحقائق، وذلك من أجل تدجين الشعوب في مسار ثقافي أحادي يخدم سلط الدولة المتواطئة تاريخيا، ويجعل بالمقابل من كل الشعب خداما لتوجهات أيديولوجية لا تملك الحقيقة وحدها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *