الدكتور غازي العتباني: مسئولية انفصال جنوب السودان واستنساخ نيفاشا (1 – 9)د. سلمان محمد أحمد سلمان

الدكتور غازي العتباني: مسئولية انفصال جنوب السودان واستنساخ نيفاشا (1 – 9)

 د. سلمان محمد أحمد سلمان

  [email protected]

1

من التوجيهات المبدئية والأولية التي يتلقّاها طلّاب دراسة علم التاريخ هي توخي الحذر والحيطة في كتابات الأشخاص الذين هم طرفٌ في الأحداث موضوع المقال أو الكِتاب. فهؤلاء الكُتّاب قد يرتكبون واحداً أو أكثر من ثلاثة أخطاء هي: أولاً تضخيم دورهم الإيجابي، وثانياً عدم ذكرأيٍ من الأخطاء التي وقعت، أو التعرض لها بصورةٍ غير متكاملة، وثالثاً تقديم التبريرات غير السليمة أو الصحيحة للأخطاء، إذا تمّ التعرض لها.

طرق ذهني هذا التوجيه بشدّةٍ وأنا أقرأ مقال الدكتور غازي صلاح الدين العتباني بعنوان “قرار الاتحاد الأفريقي استنساخ للإيقاد ثم نيفاشا جديدة”. وقد وصلني المقال عبر بريدي الالكتروني عدّة مراتٍ من مجموعةٍ من الأصدقاء، وأوضح الكاتب أنه قد تمّ نشر المقال في ثلاث صحفٍ هي الانتباهة والسوداني والرأي العام في 29 أبريل عام 2012.  

افتتح الدكتور غازي مقاله بالآتي “بين حين وآخر أستصوب ألا تنحصر نصيحتي في دوائر الاستشارة الضيقة التي يفرضها المنصب الرسمي. ويكون ذلك عندما أرى أن موضوع النصح جدير بأن يتفاعل معه الرأي العام بحسبانه أمراً يتعلق بالحقوق الوطنية التي تهم جميع المواطنين، وهو ما يحدث كلما مرت البلاد بمنعطف مصيري.” وهكذا أوضح لنا الدكتور غازي أن دوره ينحصر فقط في تقديم النصيحة في دوائر الاستشارة الضيقة. ثم يواصل الدكتور غازي “في سبتمبر من عام 1994 انتُدبت لقيادة وفد مباحثات السلام في كينيا بدلاً من الرئيس السابق للوفد. كان ذلك التكليف لمرة واحدة فقط، وكانت المهمة التي أوكلت إليّ واحدة ومحددة للغاية وهي إلغاء إعلان مبادئ مبادرة الإيقاد الذي صاغه الوسطاء أو إلغاء مبادرة الإيقاد من أساسها….. أدى الوفد مهمته بكفاءة عالية، إذ دام الاجتماع حوالى خمس وثلاثين دقيقة فقط. رفض الوسطاء، الذين نصبوا أنفسهم قضاة في ذات الوقت، تعديل إعلان المبادئ فكان البديل هو أن تموت مبادرة الإيقاد التي أصبحت بالفعل بعد ذلك الاجتماع العاصف كبيت مهجور تخرقه الأنواء من كل جانب…. بصفتي رئيس الوفد في تلك المهمة الفريدة تعرضتُ لهجمة شرسة من الإعلام الغربي وُصفت فيها بأسوأ النعوت ومن بينها بالطبع أنني شخص متطرف، لكنني على الصعيد الشخصى لم أنم أقرّ عيناً ولا أشفى صدراً من نومي في تلك الليلة.”

ويواصل الدكتور غازي مقاله فيتعرض بالشرح والنقد للقرار الصادر عن مجلس السلم والأمن الافريقي بشأن السودان وجنوب السودان في الرابع والعشرين من شهرأبريل ويختتم مقاله بمجموعة من النصائح من بينها “على الصعيد السياسي ينبغي إشراك كل القوى والشخصيات السياسية السودانية والخبراء والمختصين في صياغة قراءة موحدة للأزمة ومن ثم سياسة وطنية موحدة تجاهها…. . وسيكون من المفيد أن تشارك في هذه الحملة كل القوى السياسية والمؤسسات القومية والشخصيات السودانية ذات العلاقات الإقليمية والدولية.” نكتفي بهذا الاقتباس من مقال الدكتور غازي. 

2

اندهشت كثيراً وأنا أقرأ مرةً بعد الأخرى مقال الدكتور غازي. فقد اختزل الدكتور غازي كل دوره في عملية السلام في الغاء إعلان مبادئ مبادرة الإيقاد، وهي المهمة التي قال أنه قد أدّاها بكفاءة عالية تسببت في وصفه بواسطة أجهزة الإعلام الغربية بأنه شخص متطرف.

لم يتطرق الدكتور غازي إلى دوره في بروتوكول مشاكوس ولم يذكر أنه كان رئيس الوفد الذي فاوض على هذا البروتوكول وأنه هو الذي وقّع نيابةً عن حكومة السودان مع السيد سلفا كير على بروتوكول مشاكوس في 20 يوليو عام 2002. كما لم يذكر للقارئ من أين جاءت مبادرة الايقاد التي قام بإلغائها وما هي أوجه الشبه بينها وبين إعلان فرانكفورت، وكيف تختلف عن بروتوكول مشاكوس الذي فاوض ووقّع عليه.

سوف نقوم في تعقيبنا على مقال الدكتور غازي بإثارة مجموعةٍ من الأسئلة والرد عليها.

3

ما هي مبادرة الايقاد ومن أين أتت؟

الايقاد منظمة تم إنشاؤها عام 1986 بواسطة دول شرق افريقيا (اثيوبيا وجيبوتي وكينيا ويوغندا والسودان والصومال) لمواجهة التصحر والجفاف في الاقليم. وقد عدّلت هذه المنظمة أهدافها لِتُركّز على التنمية، وقد انضمت لها اريتريا عام 1993، ثم دولة جنوب السودان في العام الماضي. وليس لهذه المنظمة دورٌ أو انجازٌ يُذكر سوى اتفاقية السلام الشامل السودانية والتي جرّها للعمل فيها ما سُمّي بمجموعة شركاء الايقاد من الدول الغربية والتي دفعت جلّ تكاليف المفاوضات من فنادق وطعام وشراب وسفر ومطبوعات.

في مايو عام 1991 سقط نظام منقستو هايلي مريم الحليف الرئيسي للحركة الشعبية. وفي أغسطس من نفس العام انشقّ كلٌ من الدكتور لام أكول والدكتور رياك مشار عن الحركة الشعبية وكوّنا جناح الناصر (أو الجناح المتّحد) وأعلنا مطالبتهما بانفصال جنوب السودان. في سبتمبر عام 1991 اجتمعت الحركة الشعبية الأم في توريت وتبنّت (فيما يبدو أنه رد فعلٍ لهذين التطورين) خيار تقرير المصير فيما عرف بمقررات مؤتمر توريت، سبتمبر عام 1991.

في 25 يناير عام 1992، وفيما يبدو أنه رد فعلٍ لكل هذه التطورات، حدث أكبر وأخطر تطور في تاريخ العلاقات بين شمال وجنوب السودان. فبعد أربعة أيامٍ من الاجتماعات التي بدأت في 22 يناير أصدر الدكتور علي الحاج والدكتور لام أكول إعلان فرانكفورت. وقد وافقت حكومة السودان بمقتضى الفقرة الثالثة من ذلك الإعلان على الآتي “بعد نهاية الفترة الانتقالية يُجرى استفتاء عام في جنوب السودان لاستطلاع آراء المواطنين الجنوبيين حول نظام الحكم الذي يناسب تطلعاتهم السياسية دون استبعاد أي خيار.” وهكذ وببساطةٍ شديدةٍ ومتناهية وافقت حكومة السودان ولأول مرةٍ في تاريخ السودان على حق جنوب السودان في تقرير مصيره دون استبعاد أي خيار. لم يكن ذلك الإعلان شأناً خاصاً بالدكتور علي الحاج أو الحزب الحاكم. فقد نصّت الديباجة على أن الوفدين اللذين أصدرا ذلك الإعلان هما حكومة السودان واللجنة التنفيذية الوطنية الانتقالية للحركة الشعبية لتحرير السودان.

عليه فقد فتح إعلان فرانكفورت صندوق بندورا وخرج الجنّيُ ولم يعد بإمكان أحدٍ إعادته إلى مكانه. لم يعد حق تقرير المصير بعد 25 يناير عام 1992 جُرماً يُعاقِب القانون من يتبناه، بل أصبح حقاً لشعب جنوب السودان بمقتضى اتفاقٍ وقّع عليه أحد كبار المسئولين السودانيين في الدولة والحزب الحاكم، وتمّ التوصل إليه في دولةٍ أوروبيةٍ دون وسيطٍ أو طرفٍ ثالث يمكن أن يُتهم بأنه مارس ضغطاً ً على الطرفين، أو على أحدهما.

اتفق الطرفان على اللقاء في أبوجا في مارس عام 1992، وقد تمّ ذلك اللقاء وتواصلت الاجتماعات والمفاوضات في عام 1993 ولكنها ركّزت على مسألة الدين والدولة ولم تتوصل إلى نقاط التقاء، فانفضّ المفاوضون وفقدت نيجريا حماسها للوساطة بعد أن انتهت فترة رئاسة السيد ابراهيم بابنجيدا.

قفزت دول شرق افريقيا إلى داخل حلبة النزاع السوداني وقررت أن تملأ الفراغ الذي خلّفته نيجريا. عرضت هذه الدول باسم منظمة الايقاد وساطتها التي قبلها الطرفان. والوساطة أمرٌ لايتم بدون الرضا التام والصريح للطرفين، ويحق لأيٍ من الطرفين إنهاء الوساطة في أي وقت. إنّها مهمةٌ سياسيةٌ مبنيةٌ على التوافق وليست إجراءاً قانونيا يُفْرض على الطرفين أو أحدهما. وافق السودان وكذلك الحركة الشعبية على وساطة منظمة الايقاد ورحبا بدورها. ولكن الايقاد فاجأت السودان بتقديمها إعلان المبادئ في 20 يوليو عام 1994 والذي تضمّن حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. أبدى السودان دهشته ورفضه الكامل لإعلان المبادئ ذاك. ولكن منظمة الايقاد (أو من يقف خلفها) ذكّرت السودان بإعلان فرانكفورت وأنه يتضمن حق تقرير المصير أيضاً. وأوضحّ عرّابو الايقاد أن مبادئ الايقاد لم تأتِ بجديد، وأصرّوا عليها. بالإضافة إلى حق تقرير المصير فقد نصّ إعلان الايقاد صراحةً وفي مادةٍ منفصلةٍ على علمانية الدولة السودانية.

هنا جاءت المهمة التي تحدث عنها الدكتور غازي وهي إلغاء إعلان مبادئ مبادرة الإيقاد أو إلغاء مبادرة الإيقاد من أساسها، والتي قام وفده بأدائها بكفاءةٍ عالية كما ذكر. لكنّ هذه مهمةٌ لم تكن لتتطلّب أكثر من تسليم خطابٍ رسميٍ بواسطة أحد دبلوماسيي السفارة السودانية بنيروبي أو جيبوتي لمكتب الايقاد هناك معلناُ انتهاء المبادرة. ولكن دعونا نتوقف عند الكلمة التي ألقاها الدكتور غازي في ذلك الاجتماع في يوم 22 سبتمبر عام 1994 مع ممثلي الايقاد. فقد بدأها بالقول: “بالنسبة لحق تقرير المصير فإن مصير السودان كان قد تحدد في عام 1956 عندما نال السودان استقلاله.” وأوضح أن جنوب السودان لم يحدث أن تمّ التعامل معه ككيانٍ سياسيٍ منفصل بل إن الحركة الشعبية – حركة التمرد – اشتهرت بنهجها الوحدوي وأن تبنيها مؤخراً خيار الانفصال هو تكتيكٌ تفاوضي. (تناسى أو تجاهل الدكتور غازي مقررات مؤتمر توريت الصادرة في سبتمبر عام 1991). أشار الدكتور غازي إلى أن حق تقرير المصير لجنوب السودان سوف يكون له رد فعلٍ كبيرٍ سيؤثّر على كل افريقيا، وأوضح أن ذلك يتعارض مع مقررات منظمة الوحدة الافريقية التي أكّدت على ضرورة الإبقاء على الحدود الموروثة من الاستعمار. وختم الدكتور غازي كلمته بأن “حكومة السودان ملزمةٌ بتسليم نفس السودان للأجيال القادمة، وأن حق تقرير المصير تحت أية مسميات قد تؤدي إلى الانفصال أمرٌ غير وارد، وأن الحكومة غير مستعدة للتباحث حوله.”

ما الذي حدث لإعلان فرانكفورت الذي صدر قبل عامين ونصف؟ ألم توافق الحكومة بمقتضاه على استفتاءٍ عام في جنوب السودان لاستطلاع آراء المواطنين الجنوبيين حول نظام الحكم الذي يناسب تطلعاتهم السياسية دون استبعاد أي خيار؟

4

واصلت الخرطوم موقفها الرافض لإعلان مبادئ الايقاد حتى عام 1996 عندما بدأت التفاوض مع الدكتور رياك مشار ووقّعت معه الميثاق السياسي ذاك العام، ثم اتفاقية الخرطوم عام 1997 والتي انضم إليها الدكتور لام أكول فيما بعد بمقتضى اتفاقية فشودة. وقد نصّ الميثاق السياسي واتفاقية الخرطوم على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وكمدخلٍ ونتيجةٍ لاتفاقية الخرطوم فقد وافق السودان رسمياً في نفس العام (1997) على إعلان المبادئ الذي صدر من الايقاد في يوليو عام 1994 متضمناً حق تقرير المصير والذي كان الدكتور غازي قد رفضه باسم الحكومة في سبتمبر عام 1994. وصدر دستور السودان لعام 1998 وتضمّنت المادة 139 منه نصّاً صريحاً على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. بالطبع فقد سهّل إعلان فرانكفورت مهمة الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول. كما ذكرنا فقد تضمّن إعلان الايقاد مسألة علمانية الدولة السودانية أيضاً.

ما الذي حدث لخطاب الدكتور غازي ومهمته التي أداها بكفاءةٍ في سبتمبر عام 1994؟ بل ما الذي حدث لوعده وتصميمه أن يسلّم السودان كاملاً للأجيال القادمة؟ وماذا عن تأكيده أن حق تقرير المصير تحت أية مسميات قد تؤدي إلى الانفصال أمرٌ غير وارد، وأن الحكومة غير مستعدة للتباحث حوله؟.

في يناير عام 2002 اجتمعت دول منظمة الايقاد في الخرطوم. عرضت كينيا إحياء مبادرة الايقاد بعد أن وافق السودان عليها، واقترحت بدء المفاوضات في نيروبي. رحّب السودان بالفكرة ووافق عليها، ووافقت عليها أيضاً الحركة الشعبية. بعد المشاورات الداخلية تمّ اختيار الدكتور غازي العتباني رئيساً للوفد المفاوض وعضوية كلٍ من السادة ادريس محمد عبد القادر، ويحيى حسين بابكر، ومطرف صديق، وسيد الخطيب. وقامت الحركة الشعبية باختيار السيد نيال دينق رئيساً لوفدها وعضوية السيد دينق ألور والدكتور جستين ياك والسيد سامسون كواجي. ضم كلٌ من الوفدين مجموعةً أخرى من الأعضاء السياسيين والفنيين. بدأت المفاوضات في ناكورا في كينيا في مايو عام 2002، ثم انتقلت إلى مشاكوس في 17 يونيو عام 2002. وشارك في المفاوضات شركاء الايقاد ممثلين بالولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج (والتي سُمّيت بمجموعة الثلاثة أو الترويكا) مع مجموعة كبيرة من الفنيين والقانونيين من عدّة دول من بينها جنوب افريقيا وسويسرا. وقد لعب الجنرال الكيني لازاروس سومبييو والوزيرة النرويجية السيدة هيلدي جونسون دوراً فاعلاً خلال المفاوضات كوسيطين، وأصدر كلٌ منهما فيما بعد كتاباً عن المفاوضات (كتاب السيدة هيلدي عنوانه اندلاع السلام وهي ترجمة غير موفّقة، وعنوان كتاب الجنرال لازاروس هو الوسيط). وقد استندنا على هذين الكتابين ومجموعة من التقارير التي صدرت عن مفاوضات اتفاقية السلام الشامل كبعض المصادر لكتابة هذا المقال.

5

لايمكن بأي حالٍ من الأحوال تلخيص ما دار في تلك المفاوضات الصعبة في مقالٍ صحفيٍ قصيرٍ مثل هذا. غير أن المفاوضات انتقلت من فكرة “دولة واحدة بنظامين” إلى مسألة الدين والدولة ونظام الحكم في السودان وتعثّرت كثيراً في هذين الأمرين. فجأةً أصرّت الحركة الشعبية على أن يتم نقاش مبدأ تقرير المصير والاتفاق عليه قبل معالجة الأمور الأخرى. رفض الوفد السوداني في بداية الأمر مسألة تقرير المصير ولكنّ الوسطاء الأوربيين والأمريكيين والأفارقة ذكّروا الوفد السوداني بإعلان فرانكفورت والميثاق السياسي واتفاق الخرطوم ودستور السودان لعام 1998 والتي تضمنت كلها مبدأ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وحذروا الوفد أنه لايمكن النكوص عن تلك الالتزامات.

وافق الوفد الحكومي إثر هذا على مبدأ تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وطلب الدكتور غازي (حسب كتاب الوسيط) التركيز على نقاطٍ أربع هي أسبقية الوحدة مع الاعتراف بالتعددية، احترام إرادة الشعب السوداني والاتفاق على إجراءاتٍ دستورية.

ولكنّ الوفدين اختلفا في مدة الفترة الانتقالية التي تسبق إجراء الاستفتاء. فقد أصرّ الوفد الحكومي على أن تكون الفترة عشر سنوات بينما أصرّت الحركة على مدة عامين فقط. قام الوسطاء بجمع الرقمين واستخراج المتوسط وهو الرقم ست سنوات التي تضمّنتها اتفاقية السلام الشامل فيما بعد.

صاغ الوسطاء في 19 يوليو 2002 ما أسموه بـ “الوثيقة الإطارية للتفاوض” والتي تضمّنت حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان بما في ذلك حق الانفصال بعد فترةٍ انتقالية مدتها ست سنوات، مع الإبقاء على تطبيق الشريعة في شمال السودان. وقد أوضحت السيدة هيلدي جونسون أن الوثيقة هي مختصر لاتفاقية الخرطوم للسلام. ومنحَ الوسطاءُ الوفدين مدة ساعةٍ لقبول أو رفض الوثيقة، مع التهديد بإنهاء الوساطة إذا رفض الطرفان أو أحدهما الوثيقة. قبِل الطرفان هذا الإجراء واختار الوفد الحكومي السيدين يحيى حسين وسيد الخطيب بينما اختارت الحركة الشعبية السيدين نيال دينق ودينق ألور لمناقشة الوثيقة معاً. طلب الوفدان مزيداً من الوقت ووافق الوسطاء على ذلك، وبعد أربع ساعاتٍ من النقاش خرج الطرفان باتفاقٍ تمت صياغته النهائية والتوقيع عليه في 20 يوليو عام 2002 تحت مُسمّى “بروتوكول مشاكوس” الذي قنّن وأطّر مبدأ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.

وقد قام الدكتور غازي العتباني والسيد سلفا كير بالتوقيع على بروتوكول مشاكوس في مساء يوم 20 يوليو 2002 بالقصر الرئاسي في نيروبي بحضور الرئيس الكيني السيد دانيال أراب موي وعددٍ من أعضاء السلك الدبلوماسي والوسطاء. وقد أصدر مجلس الأمن بياناً رحب فيه بالاتفاق، وفعلت ذات الشئ مجموعةٌ من الحكومات من بينها الامريكية والبريطانية والنرويجية والايطالية. كما تناولت الصحف ووكالات الأنباء العالمية خبر الاتفاق وأشادت بإنجاز الوفدين. وكانت هناك إشادة خاصة بالدكتور غازي والسيد سلفا كير وتمّ وصفهما بواسطة القادة الغربيين والصحف الغربية بأنهما رجلا دولة يتميزان بالحكمة والمسئولية.

6

أشارت السيدة هيلدي جونسون في كتابها إلى رأي الدكتور غازي في بروتوكول مشاكوس ودوره في التفاوض والتوقيع عليه. وأوضحت أنه ذكر لها أنه لم يكن هناك تطابقٌ في الآراء حول بروتوكول مشاكوس داخل الحكومة، ولكنه تشاور مع أعضاء الوفد واتصل بالسيد رئيس الجمهورية وكبار المسئولين قبل التوقيع عليه. وأضاف “بالنسبة لي فقد كانت هذه فرصة العمر التي لايمكن إضاعتها. لقد كان أمامي في تلك اللحظة بالذات مستقبل السودان. إنه لا يمكن لقائدٍ يملك عقلاً سوياً إضاعة تلك الفرصة.”

تواصل التفاوض حول قضايا الثروة والسلطة والإجراءات الأمنية والتي أصبحت بعد موافقة الحكومة الرسمية على حق تقرير المصير تفاصيل لا أكثر ولا أقل. وظل الدكتور غازي رئيساً لوفد التفاوض حتى 29 نوفمبر عام 2003 حيث حلّ محله النائب الأول الأستاذ علي عثمان محمد طه رئيساً لوفد التفاوض. وهذا يعني أن الدكتور غازي ترأّس وفد السودان لمفاوضات السلام لمدة عامٍ ونصف (مايو 2002 حتى نوفمبر 2003) تم خلالها اتخاذ أهم وأخطر قرارٍ في تاريخ السودان.

7

لقد خرج اتفاق نيفاشا (الذي بُني على بروتوكول مشاكوس) من رحم مبادئ الايقاد كما أشار الدكتور غازي. ولكن مبادئ الايقاد نفسها خرجت من رحم إعلان فرانكفورت والذي عرضته الحكومة نفسها على الدكتور لام أكول، ووقّعت عليه دون وساطةٍ أو إكراهٍ أو تهديد.

لقد اقترح الدكتور غازي “إشراك كل القوى والشخصيات السياسية السودانية والخبراء والمختصين في صياغة قراءة موحدة للأزمة ومن ثم سياسة وطنية موحدة تجاهها.” وأضاف “وسيكون من المفيد أن تشارك في هذه الحملة كل القوى السياسية والمؤسسات القومية والشخصيات السودانية ذات العلاقات الإقليمية والدولية” حتى يمكننا تفادي استنساخ الايقاد ثم نيفاشا في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور. إنني آمل أن يتبنى الدكتور غازي بنفسه هذا الاقتراح ويخرجه إلى حيّز التنفيذ، فنطاق عمله ليس محصوراً في دوائر الاستشارة الضيقة كما ذكر في مقاله. إنه شخصٌ نافذٌ وقياديٌ بارزٌ ومسئول في الحزب الحاكم كما ذكر هو بنفسه للسيدة هيلدي جونسون.

 

 

 

 

الدكتور علي الحاج: إعلان فرانكفورت ومسؤولية انفصال جنوب السودان (2 – 9)

د. سلمان محمد أحمد سلمان

1

وصلتني عشرات الرسائل حول مقالي السابق بعنوان “الدكتور غازي العتباني: مسؤولية انفصال جنوب السودان واستنساخ نيفاشا” (جريدة الأحداث ومجموعة من المواقع الالكترونية بتاريخ 27 مايو عام 2012). ثمّن الكثيرون مبدأ أن التاريخ الذي يقوم بكتابته أطرافٌ ساهمت في صنعه يفتقر بالضرورة إلى المصداقية، وتمنّى آخرون أن يكون المقال بدايةً لحوارٍ موضوعيٍ حول الاتفاقيات التي تضمّنت مبدأ حقّ تقرير المصير الذي أدّى بدوره إلى انفصال جنوب السودان.

تساءل الكثيرون عن خلفية وبنود ومضمون إعلان فرانكفورت وعن الأشخاص الذين مثّلوا كلاً من حكومة السودان والحركة الشعبية في تلك المفاوضات. كما طلب عددٌ من القراء مزيداً من التفاصيل حول الاتفاقيات الأخرى التي تناولت حقَّ تقرير المصير والتي وقّعتها الحكومة مع الفصائل المنشقّة عن الحركة الشعبية بعد إعلان فرانكفورت. وتساءل آخرون عن دور التجمّع الوطني الديمقراطي في قضيّة تقرير المصير وطلبوا عرض ومناقشة الاتفاقيات التي وقّعها التجمّع وأحزابه مع الحركة الشعبية حول هذه المسألة.

مواصلةً للمقال السابق فسوف نناقش في هذا المقال خلفية ومضمون وتداعيات إعلان فرانكفورت، على أن نتناول في المقال القادم الاتفاقيات الأخرى اللاحقة التي وقّعتها الحكومة مع الفصائل المنشقّة عن الحركة الشعبية. وسوف تشمل هذه السلسلة من المقالات عرضاً لاتفاقيات التجمّع الوطني الديمقراطي وأحزابه مع الحركة الشعبية والتي تناولت مبدأ تقرير المصير لشعب جنوب السودان حتى تعكس هذه السلسلة الصورة كاملةً. ونأمل أن يبدأ بعدها نقاشٌ موضوعي حول قرارات الحكومة والمعارضة الموافقة على حقِّ تقرير المصير الذي أدى إلى انفصال جنوب السودان.

2

ركّز مانيفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان والذي تمّ إصداره في يوليو عام 1983 على وحدة السودان. وتناولت الفقرة الثالثة من المانيفستو مبدأ “السودان الجديد”، القائم على المواطنة التي تُساوي في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن العِرق أو الدين أو اللغة أو الثقافة. وقد أنشأت الحركة الشعبية منذ قيامها في مايو عام 1983 تحالفاً وطيداً مع نظام منقستو هايلي مريم، وأصبحت أديس أبابا مصدراً رئيسياً للعون العسكري والمادي للحركة، وصارت أراضي اثيوبيا المتاخمة للحدود مع ولاية أعالي النيل في جنوب السودان ميداناً للتدريب والاجتماعات للحركة الشعبية ومعسكراً للاجئين.

ويعتقد الكثيرون أن شعار السودان الجديد المُوحّد فرضته وأملته العلاقة مع نظام منقستو. إذ لايعقل أن تتوقع الحركة الشعبية عوناً متكاملاً من اثيوبيا التي كانت تحارب الحركات الاريترية المنادية بالانفصال إذا كانت الحركة نفسها تطالب بالانفصال أو حتى حقّ تقرير المصير.

عليه فقد نتج عن سقوط نظام منقستو هايلي مريم في مايو عام 1991 دويٌّ هائلٌ داخل الحركة الشعبية. فجأةً توقفت الإمدادات العسكرية والمادية، وكان على الحركة إغلاق معسكرات التدريب الواقعة داخل اثيوبيا والبحث عن حلفاء جدد لن تتوفر في أيٍ منهم الميزات الاثيوبية. من الجانب الآخر سعدت الخرطوم كثيرأ للتغيير في أديس أبابا (والذي كانت قد ساهمت فيه)، وفتح هذا التغيير فصلاً جديداً للعلاقات بين الحكومة والحركة من جهة، وداخل الحركة نفسها من الجهة الأخرى.

3

كانت أولى تداعيات سقوط نظام منقستو هايلي مريم هو الانشقاق داخل الحركة نفسها. ففي 27 أغسطس عام 1991، أي بعد ثلاثة أشهرٍ فقط من سقوط منقستو، أعلن الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول عن انقلابٍ عسكريٍ زعما أنهما أطاحا من خلاله بالدكتور جون قرنق. غير أن الانقلاب لم ينجح في هدفه الأساسي، وانتهى الأمر بحدوث انقسامٍ كبيرٍ داخل الحركة الشعبية وبروز فصيل الناصر (أو الفصيل المتّحد) من الحركة الشعبية بقيادة الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول. وقد تبنّى هذا الفصيل شعاراتٍ عدّة منها تقرير المصير والانفصال في مواجهة شعار السودان الجديد الموحّد الذي كان يدعو له مانيفستو الحركة الشعبية الأم. وأشار عددٌ من التقارير إلى دور الخرطوم في ذلك الانقسام ودعمها العسكري والمادي لفصيل الناصر قبل وبعد الانقسام.

في السادس من شهر سبتمبر عام 1991، أي بعد أقل من أسبوعين من الانقسام، عقدت الحركة الشعبية الأم اجتماعاً لمكتبها السياسي بمدينة توريت التي كانت تحت سيطرتها. وأصدرت الحركة عدّة قرارات أهمها القرار رقم (3) الذي نصّت الفقرة الثانية منه على الآتي:

“النظام المركزي للحكم في السودان والذي يستند على دعائم العروبة والإسلام مع إتاحة الحق بإقامة نظمٍ لحكمٍ محليٍ ذاتي أو دولٍ فيدرالية في الجنوب (أو أي أقاليم أخرى) تمّ تجربته ولكنه فشل فشلاً ذريعاً، لذلك تأرجح السودان بين الحرب والسلام منذ الاستقلال، وأخذت الحرب 25 من 36 عاماً من هذه الفترة. في أية مبادرةٍ للسلام مستقبلاً سيكون موقف الحركة الشعبية من نظام الحكم هو وقف الحرب باعتماد نظامٍ موحّدٍ وعلمانيٍ وديمقراطي، أو نظامٍ كونفيدرالي أو تجمعٍ لدولٍ ذات سيادة أو تقرير المصير.”

4

وهكذا بين ليلةٍ وضحاها انتقلت الحركة الشعبية لتحرير السودان من شعار السودان الجديد الموحّد إلى المطالبة بنظامٍ كونفيدرالي أو تجمعٍ لدولٍ ذات سيادة أو تقرير المصير. كان هذا هو أول شرخٍ لمبدأ السودان الجديد ابن الثمانية أعوام. وهو دون أدنى شكٍّ شرخٌ كبير. فحركات التحرير لا تطالب بحقِّ تقرير المصير من أجل إرضاء طموحاتٍ نظرية، أو لغرضٍ أكاديمي. إنها تطالب بحقِّ تقرير المصير من أجل أن يقودها إلى غايتها النهائية وهي الانفصال.

لقد كان سقوط نظام منقستو هايلي مريم دون شكٍ هو عود الكبريت الذي فجّر قنبلة الخلاف داخل الحركة الشعبية وقاد إلى بروز جناح الناصر. وأدى هذان التطوران معاً إلى تبنّي الحركة الشعبية الأم لمبدأ حقّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وإلى البدء في وداع شعار السودان الجديد الموحّد الذي كان المكوّن الأساسي لبرنامج الحركة الشعبية منذ عام 1983.

5

واصلت الحكومة السودانية اتصالاتها مع فصيل الناصر الذي كان يقوده الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول. وقد تمّ أول اجتماعٍ بين مسؤولين كبار من الحكومة والفصيل المنشق في أكتوبر عام 1991 في نيروبي، حيث التقى الدكتور علي الحاج مع القانوني السيد جون لوك الذي كان أحد أبرز القادة المنشقين من الحركة الشعبية الأم. اتفق الطرفان على لقاءٍ موسّعٍ ورسميٍ في احدى الدول الأوروبية. وقد وافقت جمهورية المانيا الاتحادية على عقد اللقاء في مدينة فرانكفورت.

وصل الوفدان إلى فرانكفورت وبدأت مفاوضاتهما في 22 يناير عام 1992 واستمرت حتى يوم 25 يناير. قاد وفد الحكومة السودانية الدكتور علي الحاج وشملت عضوية الوفد العميد كمال علي مختار، والسيد موسى علي سليمان، والسكرتير الأول بالسفارة السودانية بالمانيا السيد محمد حسين زروق. وقاد وفد مجموعة الناصر الدكتور لام أكول وشملت عضوية وفده السادة جون لوك، وتيلار دينق، وتعبان دينق والدكتور كاستيلو قرنق.

تمّ التوصل في يوم 25 يناير عام 1992 إلى إعلان فرانكفورت والذي تضمّن سبع فقرات. نصّت الفقرتان الأولى والثانية من الإعلان على أنه ستكون هناك فترة انتقالية يتفق عليها الطرفان من يوم توقيع اتفاقية السلام بين الطرفين، يتمتّع جنوب السودان خلالها بنظامٍ قانونيٍ ودستوريٍ خاص في إطار السودان الموحّد. وتتضمّن الفقرة الثالثة من إعلان فرانكفورت مبدأ حقّ تقرير المصير وتنصّ على الآتي: “بعد نهاية الفترة الانتقالية يُجرى استفتاء عام في جنوب السودان لاستطلاع آراء المواطنين الجنوبيين حول نظام الحكم الذي يناسب تطلعاتهم السياسية دون استبعاد أي خيار.” ولتجنّب النزاع المسلّح مستقبلاً بين الجنوب والحكومة المركزية اتفق الطرفان على وضع قواعد دستورية وقانونية لحل الخلافات عبر المؤسسات السياسية والدستورية. واتفق الطرفان أيضاً على عقد جولة المفاوضات القادمة في مدّةٍ أقصاها مارس عام 1992 في أبوجا تحت مظلّة الوساطة النيجيرية، على أن يبدأ وقف إطلاق النار الشامل في الجنوب والمناطق المتأثرة بالحرب في الشمال عند بدء المحادثات. أوضحت الفقرة الأخيرة من إعلان فرانكفورت أن المسائل التي سيتقدم الطرفان بمقترحاتٍ مفصّلةٍ للتفاوض حولها هي نظام الحكم خلال الفترة الانتقالية، واقتسام السلطة والثروة، بالإضافة إلى الأمن والإغاثة وإعادة التوطين وإعادة التعمير.

6

نصّت الديباجة على أن الوفدين اللذين أصدرا ذلك الإعلان هما حكومة السودان واللجنة التنفيذية الوطنية الانتقالية للحركة الشعبية لتحرير السودان. وهكذا وافقت حكومة السودان ببساطةٍ شديدةٍ ومتناهية ولأول مرةٍ في تاريخ السودان على حقّ شعب جنوب السودان في تقرير مصيره دون استبعاد أي خيار.

ورغم أن إعلان فرانكفورت لم يستعمل مصطلح “تقرير المصير” إلاّ أنه اشتمل على المُقوِّم الأساسي لهذا المبدأ وهو الاستفتاء. كما أن الإعلان لم يستبعد أي خيارٍ، بما في ذلك بالطبع خيار الانفصال، وهو الشعار الذي رفعه فصيل الناصر. من الواضح أنّ هذا الاستحياء قد فرضته حقيقة أنّ هذه أول مرةٍ في تاريخ السودان توافق فيها حكومةٌ في الخرطوم على حقِّ تقرير المصير لمواطني جنوب السودان. من الجانب الآخر فإن أي مصطلحٍ يفيد باستفتاء شعب جنوب السودان ويعطيه كلَّ الخيارات هو انتصارٌ كبيرٌ للدكتور لام أكول ولفصيله المنشق ابن الخمسة أشهر. 

فتح إعلان فرانكفورت القمقم وخرج المارد ولم يعد بإمكان أحدٍ إعادته إلى.مكانه. لم يعد حقّ تقرير المصير بعد 25 يناير عام 1992 جُرماً يُعاقِب القانون من يتبناه أو يدافع عنه، بل أصبح حقّاً لشعب جنوب السودان بمقتضى اتفاقٍ وقّع عليه أحد كبار المسؤولين السودانيين في الدولة والحزب الحاكم، وتمّ التوصّل إليه في دولةٍ أوروبيةٍ دون وسيطٍ أو طرفٍ ثالث يمكن أن يُتهم بأنه مارس ضغطاً ً على الطرفين، أو على أحدهما. ولم يعد هذا الاعتراف حكراً على الطرفين بل انتشر خبره وأنشأ سابقةً سيعتمد عليها الوسطاء منذ تلك اللحظة في كل مبادراتهم القادمة.

7

بدأت تداعيات إعلان فرانكفورت في الظهور دون تأخير، وبدأت كرة الثلج في التدحرج. فقد عبّد إعلان فرانكفورت الطريق لإعلان مبادئ الايقاد التي تمّت صياغتها في مايو عام 1994 خلال جولة مفاوضات الايقاد الثانية، وتمّ إصدارها في يوليو عام 1994 خلال جولة الايقاد الثالثة. وتضمّنت مبادئ الايقاد حقّ تقرير المصير لجنوب السودان، وأشارت ديباجة الإعلان صراحةً إلى إعلان فرانكفورت. وعند ما ذهب الدكتور غازي العتباني إلى نيروبي في سبتمبر عام 1994 لينقل رفض السودان لمبادئ الايقاد لم يقبل الوسطاء طلبه وذكّروه بإعلان فرانكفورت، وأوضحوا له أنه لا فرق بين الوثيقتين.

شهد عقد التسعينيات بعد إعلان فرانكفورت تنافساً حاداً بين الحكومة وأحزاب المعارضة المُمثّلة في التجمّع الوطني الديمقراطي في تبنّي مبدأ تقرير المصير في اتفاقاتهما مع الحركة الشعبية ومع الفصائل المنشقّة عنها، كما سنناقش في المقالات القادمة. وسوف نلاحظ في تلك المقالات أن اتفاقيات الحكومة كانت مع الفصائل المنشقّة بينما كانت اتفاقيات أحزاب المعارضة مع الحركة الشعبية الأم. وقد كان إعلان فرانكفورت المرجعية الأساسية للفصائل المنشقّة عن الحركة الشعبية بقيادة الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول في مفاوضاتها واتفاقياتها مع الحكومة والتي خُتِمتْ باتفاقية الخرطوم للسلام عام 1997.

من الجانب الآخر، وكما سنناقش في المقالات القادمة، فقد قامت الحركة الشعبية الأم بانتزاع حقّ تقرير المصير من أحزاب التجمّع الوطني الديمقراطي من خلال الاتفاقيات التي وقّعتها الحركة الشعبية على انفرادٍ مع كلٍّ من الحزب الاتحادي الديمقراطي، ثم حزب الأمة. وقد مهّدت هذه الاتفاقيات لإعلان أسمرا لعام 1995 الذي وقّع عليه كلُّ قادة التجمّع الوطني الديمقراطي (مؤتمر القضايا المصيرية – قرار حول قضيّة تقرير المصير)، والذي توّجت الحركة الشعبية بمقتضاه نجاحاتها في انتزاع حقّ تقرير المصير من كلِّ أحزاب وتجمّعات المعارضة. وقد كان إعلان الايقاد المبنيُّ على إعلان فرانكفورت هو المرجعية الأساسية للحركة الشعبية الأم في مفاوضاتها مع أحزاب التجمّع الوطني الديمقراطي.

8

نخلص من هذا العرض الموجز إلى أن إعلان فرانكفورت قد فتح الباب واسعاً أمام مبدأ حقّ تقرير المصير، وهيّأ كلَّ القوى السياسية الشمالية (الحاكمة والمعارِضة) لقبوله، وفتح شهيّة الحركة الشعبية وفصائلها المنشقة لمزيدٍ من التنازلات (أن يشمل حقُّ تقرير المصير ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق ومنطقة أبيى). وقد عبّد الإعلانُ الذي صدر عام 1992 الطريقَ لمبادرة الايقاد عام 1994 ولاتفاقية الخرطوم لعام 1997. وفتحت مبادرة الايقاد بدورها الباب واسعاً لتدخل من خلاله اتفاقيات الحركة الشعبية الأم مع أحزاب المعارضة، وليصدر دستور السودان لعام 1998 مُتضمّنا حقّ تقرير المصير. وتجمّعت كل هذه الروافد لتجعل من حقِّ تقرير المصير المعلمَ الرئيسي لبروتوكول مشاكوس لعام 2002، ولاتفاقية السلام الشامل لعام 2005. وعند ما اعترض الوفد الحكومي على مبدأ حقّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان أثناء مفاوضات مشاكوس عام 2002 ذكّرهم الوسطاء ببساطة بكل تلك الاتفاقيات التي وقّعتها الحكومة وبنصوص الدستور، وأوضحوا لهم أنه لايمكن النكوص عنها.

سنتعرّض في المقال القادم بشئٍ من التفصيل إلى الاتفاقيات اللاحقة التي وقّعتها الحكومة مع الفصائل المنشقّة عن الحركة الشعبية والتي تمّت تحت المبادرة المُسمّاة “السلام من الداخل.” وتشمل هذه الاتفاقيات الميثاق السياسي لعام 1996، واتفاقية الخرطوم لعام 1997، ثم اتفاقية فشودة لعام 1997. وسنناقش كيف تمّ تأكيد هذه الاتفاقيات في دستور السودان لعام 1998. وسوف ننتقل بعد ذلك المقال إلى اتفاقيات أحزاب التجمّع الوطني الديمقراطي مع الحركة الشعبية التي تضمّنت حقّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان.

مبادرة السلام من الداخل ومسؤولية انفصال جنوب السودان (3 – 9)

د. سلمان محمد أحمد سلمان

1

تناولنا في المقال السابق الخلفية التفاوضية لإعلان فرانكفورت ومضمون بنود الإعلان. ويمكن تلخيص ذلك المقال في النقاط  الآتية:

أولاً: تبنّت الحركة الشعبية لتحرير السودان مبدأ وحدة البلاد تحت شعار “السودان الجديد.” وبرز ذلك بوضوح في مانيفستو الحركة الذي صدر في يوليو عام 1983. أوضح المقال أن علاقة الحركة الشعبية الوطيدة بنظام منقستو هايلي مريم كانت عاملاً رئيسياً في ذلك التوجّه. فاثيوبيا كانت في حالة حربٍ ضروس مع حركات تحرير اريتريا التي كانت تنادي بالانفصال. عليه لم يكن من المعقول أن ترفع الحركة الشعبية شعار الانفصال أو حتى تقرير المصير وتتوقع ذلك العون المهول من اثيوبيا.

ثانياً: أحدث سقوط نظام منقستو هايلي مريم في مايو عام 1991 دوياً هائلاً داخل الحركة الشعبية نتج عنه انقسام الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول في 27 أغسطس عام 1991 وقيام فصيل الناصر (أو الفصيل المتّحد) تحت قيادتهما.

ثالثاً: في السادس من شهر سبتمبر عام 1991، أي بعد أقل من أسبوعين من الانقسام، عقدت الحركة الشعبية الأم اجتماعاً لمكتبها السياسي بمدينة توريت التي كانت تحت سيطرتها. وأصدرت الحركة عدّة قرارات أهمها القرار رقم (3) الذي نصّت الفقرة الثانية منه على موقف الحركة الجديد المتمثّل في المطالبة بحق تقرير المصير في أية مبادرةٍ للسلام في المستقبل. وهكذا برز شعار تقرير المصير كنقطةٍ رئيسيةٍ في التفاوض بين الشمال والجنوب، ومثّل ذلك أول شرخٍ في شعار السودان الجديد.

رابعاً: في يناير عام 1992، أي بعد أربعة أشهرٍ من تبنّي الحركة الشعبية شعار تقرير المصير وافقت الحكومة السودانية على هذا المبدأ. فقد التقى الدكتور علي الحاج والوفد المرافق له مع الدكتور لام أكول ووفده في مدينة فرانكفورت وأصدرا في 25 يناير عام 1992 إعلان فرانكفورت. وقد نصّت الفقرة الثالثة على الآتي: “بعد نهاية الفترة الانتقالية يُجرى استفتاء عام في جنوب السودان لاستطلاع آراء المواطنين الجنوبيين حول نظام الحكم الذي يناسب تطلعاتهم السياسية دون استبعاد أي خيار.”

تناولنا في المقال السابق نقاش بنود إعلان فرانكفورت وكيف عبّد الطريق لإعلان مبادئ الايقاد. وسنتناول في هذا المقال تداعيات إعلان فرانكفورت الداخلية وما تبعه من مفاوضات واتفاقيات بين الحكومة السودانية والحركات المنشقّة عن الحركة الشعبية الأم تحت مظلة المبادرة التي سُمّيت “السلام من الداخل.”

2

تواصلت لقاءات ومفاوضات الحكومة السودانية مع فصيل الناصر من الحركة الشعبية بعد إعلان فرانكفورت. بدأت المفاوضات في أبوجا تحت مظلة الوساطة النيجيرية في مايو عام 1992 واستمرت متقطّعةً خلال عام 1993، وشاركت فيها الحركة الشعبية بجناحيها. ركّزت المفاوضات على مسألة الدين والدولة ولم تتوصّل إلى نقاط التقاء، فانفضّ المفاوضون وفقدت نيجيريا حماسها للوساطة بعد أن انتهت فترة رئاسة السيد ابراهيم بابنجيدا.

قفزت دول شرق افريقيا إلى داخل حلبة النزاع السوداني في مارس عام 1994 وقررت أن تملأ الفراغ الذي خلّفته نيجيريا. عرضت هذه الدول باسم منظمة الايقاد وساطتها التي قبلها الطرفان. أصدرت المنظمة في يوليو عام 1994 إعلان مبادئ مبادرة الايقاد. وقد نصّت الفقرة الثانية من الإعلان على حق شعب جنوب السودان في تقرير مصيره. كما تضمّن إعلان المبادئ مسألة علمانية الدولة السودانية.

كما أوضحنا في المقال السابق فقد بنت دول الايقاد مبادرتها على إعلان فرانكفورت. وقد أشارت ديباجة إعلان الايقاد صراحةً إلى إعلان فرانكفورت. رفضت الحكومة رسمياً إعلان الايقاد في سبتمبر عام 1994 عندما أوصل الدكتور غازي العتباني ذاك الموقف لمنظمة الايقاد في نيروبي. وقد كان مدهشاً أن ترفض الحكومة السودانية مبادئ إعلان الايقاد عام 1994 بعد أن أصدرت إعلان فرانكفورت عام 1992، فكلا الإعلانين يتضمّنان نفس مبدأ تقرير المصير لشعب جنوب السودان.

3

تواصلت محاولات الايقاد لعقد اجتماعٍ للأطراف عام 1995، لكن الحكومة السودانية قاطعت المفاوضات وانتهى العام دون أي لقاء. تبدّل الوضع فجأةً عندما أعلنت الحكومة السودانية عن اتصالاتٍ تمّت مع فريق الناصر قادها النائب الأول لرئيس الجمهورية الفريق الزبير محمد صالح. وتُشير الحكومة إلى هذه الاتصالات باسم “مبادرة السلام من الداخل” لأنها، كما ادّعت الحكومة، مبادرة سودانية داخلية بحتة ولا دور فيها لأطرافٍ خارجية أو لوسطاء أجانب. كما أن كلَّ اجتماعات التفاوض حولها تمّت داخل السودان. وقد نتج عن هذه اللقاءات الاتفاق على وثيقة سُمّيت “الميثاق السياسي”، وتمّ توقيع هذا الميثاق في 10 أبريل عام 1996. أشار الميثاق إلى سلسلة محادثات السلام السابقة وإلى ضرورة وضع حدٍّ للقتال الدائر في السودان بناءاً على بنود الميثاق. وأكّد الميثاق ضرورة الحفاظ على وحدة السودان بحدوده المعروفة وصيانة كيانه ضد المهددات والأخطار الداخلية والخارجية، وأوضح رغبة الأطراف في بذل كافّة الجهود لتحقيق السلام والعدل. ورغم تأكيده وحدة السودان فقد تضمّنت الفقرة الثالثة من الميثاق السياسي على الآتي:

“بعد تحقيقٍ كاملٍ للسلام والاستقرار، وتحقيق قدرٍ معقولٍ من التنمية الاجتماعية في جنوب البلاد، وفي نهاية الفترة الانتقالية، يُجرى استفتاء بين مواطني الولايات الجنوبية وذلك لتحقيق التطلعات السياسية للمواطنين.” 

وهكذا أكّد الميثاق السياسي عام 1996 مبدأ حق تقرير المصير لمواطني جنوب السودان الذي أقرّه إعلان فرانكفورت عام 1992، رغم عدم استعمال الميثاق، مثل سلفه، لهذا المصطلح. ولكن كما أوضحنا في المقال السابق، فإن إعلان فرانكفورت رغم أنه لم يستعمل مصطلح “تقرير المصير” إلاّ أنه اشتمل على المُقوِّم الأساسي لهذا المبدأ وهو الاستفتاء. بالطبع فقد سهّل إعلان فرانكفورت مهمة الدكتور رياك مشار التفاوضية فيما يتعّلق بحق تقرير المصير هذا.

أشار الميثاق إلى إنشاء مجلس تنسيق في الولايات الجنوبية للمساهمة في تنفيذٍ أكمل لبنود الاتفاقية. وقد وقّع على الميثاق الفريق الزبير محمد صالح النائب الأول لرئيس الجمهورية مُمثّلاً لحكومة السودان، والدكتور رياك مشار الرئيس والقائد العام لحركة استقلال جنوب السودان. ووقّع أيضاً السيد كاربينو كوانين بول مُمثّلاً لما سُميّ بمجموعة بحر الغزال.

قد يبدو مدهشاً أن يوقّع الرئيس والقائد العام لحركة استقلال جنوب السودان على وثيقةٍ تنادي بضرورة الحفاظ على وحدة السودان بحدوده المعروفة وصيانة كيانه ضد المهددات والأخطار. لكن يجب أن نتذكّر أن الميثاق تضمّن أيضاً نصّاً عن استفتاء بين مواطني الولايات الجنوبية لتحقيق تطلعاتهم السياسية. وقد يبدو غريباً أيضاً أن تؤكّد الحكومة مبدأ حق تقرير المصير لجنوب السودان وتتحدّث في نفس الوثيقة على ضرورة الحفاظ على وحدة السودان. وسوف نلاحظ تكرار هذا المنحى التناقضي في الاتفاقيات اللاحقة خاصةً بروتوكول مشاكوس.

4

تعاملت الأطراف مع الميثاق السياسي على أنه إعلان مبادئ، وأن هذه المبادئ يجب أن تُعكس في اتفاقٍ متكاملٍ مُفصّلٍ يتناول كل هذه الخطوط العريضة. بدأت المفاوضات بين الطرفين  في الخرطوم في 16 مارس عام 1997، واستمرت حتى 21 أبريل عام 1997 عندما وقّعت الأطراف المتفاوضة على اتفاقية الخرطوم للسلام.

تقع اتفاقية الخرطوم في حوالي أربعين صفحة وتشمل ثمانية فصول وثلاثة ملاحق. يتناول الفصل الأول التفاسير والمبادئ العامة. ويُعدّد الفصل الثاني أطراف الاتفاقية وهم حكومة السودان من جهة ومجموعة من الحركات الجنوبية أولها جبهة الانقاذ الديمقراطية التي تتكوّن من حركة استقلال جنوب السودان والاتحاد السوداني للأحزاب الأفريقية. الطرف الجنوبي الثاني هو الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهذه مجموعة ادّعت انها منشقّة من الحركة الشعبية أيضاً. والطرفان الجنوبيان الثالث والرابع هما قوّة دفاع الاستوائية ومجموعة جنوب السودان المستقلة.

يتناول الفصل الثالث القضايا السياسية والتي تشمل المسائل الدستورية والقانونية بما في ذلك مسألة الدين والدولة والحقوق الأساسية وتوزيع الصلاحيات بين السلطات الاتحادية والسلطات الولائية. أما الفصل الرابع فيتضمّن تفاصيل الفترة الانتقالية والتي حُدِّدت بأربع سنوات ويجوز مدّها أو تقصيرها بتوصيةٍ لرئيس الجمهورية من مجلس تنسيق الولايات الجنوبية عند نشوء الحاجة لذلك. ويحدّد هذا الفصل مهام مجلس التنسيق خلال الفترة الانتقالية. ويقوم رئيس الجمهورية بتعيين أعضاء المجلس بالتشاور مع الأطراف الموقّعة على الاتفاقية. ويتضمّن الفصل الخامس الترتيبات الأمنية خلال الفترة الانتقالية.

أما الفصل السابع فيتناول موضوع الاستفتاء، وتنصّ المادة الأولى منه على الآتي:

“(أ) بموجب هذه الاتفاقية يحق لمواطني جنوب السودان تحقيق تطلعاتهم السياسية بحرية، وتأكيد سعيهم للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

(ب) يمارس مواطنو الولايات الجنوبية هذا الحق في استفتاء قبل نهاية الفترة الانتقالية.

(ج) تكون خيارات الاستفتاء هي الوحدة والانفصال.”

ويحدّد هذا الفصل الأهلية للمشاركة في الاستفتاء ويدعو المراقبين الدوليين للوقوف عليه.

يتناول الفصل الثامن أحكام ختامية ويشمل أسماء الموقعين وهم الفريق الزبير محمد صالح نائب رئيس الجمهورية والدكتور رياك مشار عن الجبهة الديمقراطية المتحدة للإنقاذ وحركة استقلال جنوب السودان، والقائد كاربينو كوانين بول عن الحركة الشعبية لتحرير السودان والقائد كواج مكوي كواج عن مجموعة جنوب السودان المستقلة.

ويتكوّن الملحق الأول من بروتوكول وقف اطلاق النار، والملحق الثاني هو أمر إعلان العفو العام والثالث جدول لتوزيع العائدات، ويوزّع هذا الجدول عائدات النفط كالآتي: 25% النسبة الاتحادية، 35% نسبة التنسيق و40% نسبة الولاية.

بعد التوقيع على اتفاقية الخرطوم للسلام تمّ اصدارها تحت مُسمى “المرسوم الدستوري الرابع عشر (تنفيذ اتفاقية السلام ) لسنة 1997.”

5

وهكذا تضمّنت اتفاقية الخرطوم تفاصيل هامة أبرزها حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان بعد فترةٍ انتقالية لا تتجاوز أربع سنوات، وأكّدت المبدأ الأساسي لإعلان فرانكفورت. ولكنّ الجديد هو تحديد مدّة الفترة الانتقالية التي سيُجرى بعدها الاستفتاء، والإشارة صراحةً إلى خيار الانفصال. كذلك اشتملت الاتفاقية على دعوة مراقبين من منظمة الوحدة الافريقية وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة والايقاد لتأكيد حرية الاستفتاء ونزاهته.

يُلاحظ من أسماء المفاوضين والموقّعين على الميثاق السياسي واتفاقية الخرطوم غياب الدكتور لام أكول مهندس إعلان فرانكفورت. وفي حقيقة الأمر فإن الدكتور لام أكول لم يشارك في المفاوضات ولكنه انضمّ لهذه الاتفاقية في 20 سبتمبر عام 1997 عبر اتفاقية فشودة. وقد أضافت اتفاقية فشودة أربع نقاطٍ إلى اتفاقية الخرطوم هي إعطاء الفصيل المتّحد (فصيل دكتور لام أكول) الحق في المشاركة السياسية والدستورية خلال الفترة الانتقالية، بما في ذلك الدعاية والترويج لخيارات الاستفتاء، وألا يتم تعديل الاتفاقية إلّا بواسطة ثلثي أعضاء مجلس تنسيق الولايات الجنوبية، وتمّ توضيح حالات خلو مقعد رئيس مجلس تنسيق الولايات الجنوبية.

وهكذا تضمّنت اتفاقيتا الخرطوم وفشودة إطاراً موسعاً لمبدأ حق تقرير المصير لمواطني جنوب السودان، وتمّ تعيين الدكتور رياك مشار مساعداً لرئيس الجمهورية والدكتور لام أكول وزيراً للنقل في الحكومة المركزية.

6

في 28 مارس عام 1998 أجاز المجلس الوطني دستور السودان لعام 1998، ووقّع عليه السيد رئيس الجمهورية ودخل حيّز التنفيذ في 30 يونيو عام 1998. وهو أول دستورٍ للسودان منذ انقلاب 30 يونيو عام 1989. وقد أشرف على وضع الدستور الدكتور حسن الترابي رئيس المجلس الوطني. تضمّنت المادة 139 من الدستور إشارةً إلى حق تقرير المصير لجنوب السودان ونصّت تلك المادة أن لجنوب السودان نظام انتقالي يكون خلاله السودان اتحادياً وينتهي هذا النظام بممارسة جنوب السودان حق تقرير المصير. كما نصّت المادة 137 على استمرار العمل بالمرسوم الدستوري الرابع عشر (تنفيذ اتفاقية السلام ) لسنة 1997 على أن ينتهي نفاذه عند انتهاء الفترة الانتقالية المذكورة فيه. وهكذا كسر دستور عام 1998 حاجز الخوف من استعمال مصطلح “تقرير المصير” وأزال أي إدعاءٍ قد يثيره البعض بغموض النص. كذلك أعطت هاتان المادتان من الدستور اتفاقية الخرطوم للسلام صفةً دستوريةً متكاملة.

7

بعد توقيع اتفاقية الخرطوم للسلام والتي أكّدت حق شعب جنوب السودان في تقرير مصيره لم يعد هناك سبب لرفض الخرطوم لمبادرة الايقاد. عليه فقد قرّرت الخرطوم العودة لوساطة الايقاد والغاء قرار رفض المبادرة الذي أوصله لسكرتارية الايقاد الدكتور غازي العتباني في سبتمبر عام 1994 خلال جولة المفاوضات الرابعة.

دارت الجولة الخامسة من مفاوضات الايقاد مع الحركة الشعبية الأم في نيروبي في شهر نوفمبر عام 1997، وتلتها الجولة السادسة في مايو عام 1998، ثم السابعة في أديس أبابا في أغسطس عام 1998، ثم الثامنة والأخيرة من تلك المرحلة في نيروبي في شهر يوليو عام 1999. ولكن تلك الجولات الأربع لم تفلح في تقريب الشقة بين مواقف الخرطوم والحركة الشعبية الأم في القضايا العالقة رغم الاتفاق على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.

شهد عام 1999 انشقاقاتٍ حادة داخل الحزب الحاكم نفسه أدّت إلى انقسامه إلى حزبي المؤتمر الوطني والشعبي. في هذا الاثناء بدأت معالم فشل اتفاقية الخرطوم تظهر للعيان. فالحرب زادت استعاراً في الجنوب رغم الاتفاقية مما أوضح ضعف الحركات المنشقّة وفشلها في ترجيح كفة الجيش السوداني. وظلت كل برامج ومؤسسات السلام في الجنوب حبراً على ورق. تأكّد ذلك للدكتور رياك مشار فغادر الخرطوم والتحق بقواته التي لم تكن قد استُوعِبت بعد في القوات النظامية. وهكذا وبعد عامين فقط انهارت انهياراً تاماً مبادرة السلام من الداخل واتفاقياتها، وانهار معها ما بنت عليها الحكومة من آمال.

8

مع بداية القرن الحالي أصبح واضحاً لحكومة الخرطوم أن الاتفاق الحقيقي والجاد لوقف الحرب والوصول إلى السلام يجب أن يكون مع الحركة الشعبية لتحرير السودان الأم بقيادة الدكتور جون قرنق، وأن كل الحركات الأخرى هي مجرد مجموعات محدودة القوة العسكرية والسياسية والعدد والتأثير. كما اتضّح أيضاً فشل سياسة زرع وتوسيع الخلافات داخل الحركة الشعبية. اعتقدت الخرطوم أيضاً أن القضايا المتبقّية أقل صعوبةً، خصوصاً بعد حسم مسألة تقرير المصير لشعب جنوب السودان في إعلان فرانكفورت في يناير عام 1992، وفي ميثاق السلام عام 1996 ثم في اتفاقية الخرطوم عام 1997 وأخيراً في دستور السودان لعام 1998.

من الجانب الآخر فقد كانت أحزاب التجمّع الوطني الديمقراطي نفسها قد وافقت فرادى وجماعاتٍ على مبدأ حق تقرير المصير لجنوب السودان، مما جعل الحكومة أقلّ تردّداً وخوفاً من ردود الفعل الداخلية والخارجية لاتفاقٍ نهائيٍ وجادٍّ مع الحركة الشعبية الأم.

سنناقش في المقالين القادمين اتفاقيات أحزاب التجمّع مع الحركة الشعبية حول حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، ثم ننتقل بعد ذلك إلى دور كلٍ من حزب المؤتمر الشعبي وشماليي الحركة الشعبية قبل أن نختتم هذه السلسلة من المقالات.

 

التجمّع الوطني الديمقراطي ومسؤولية انفصال جنوب السودان (4 – 9)

د. سلمان محمد أحمد سلمان

1

تناولنا في المقالات الثلاث السابقة بداية الاعتراف بواسطة الحكومة السودانية بمبدأ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وأوضحنا كيف أن تبنّي الحركة الشعبية لمبدأ تقرير المصير في مؤتمر توريت في شهر سبتمبرعام 1991 قد تمّ قبوله بواسطة الحكومة السودانية وأصبح المعلم الأساسي لإعلان فرانكفورت. وكما أوضحنا فقد وقّع على إعلان فرانكفورت الدكتور علي الحاج والدكتور لام أكول، ونصّ الإعلان على إجراء استفتاءٍ عام في جنوب السودان بعد نهاية الفترة الانتقالية لاستطلاع آراء المواطنين الجنوبيين حول نظام الحكم الذي يناسب تطلعاتهم السياسية دون استبعاد أي خيار.

أوضحنا كيف عبّد إعلان فرانكفورت الطريق للحكومة للدخول في اتفاقيات لاحقة ومفصّلة مع الفصائل المنشقّة عن الحركة الشعبية تضمّنت كلها حق تقرير المصير. وقد شملت تلك الاتفاقيات الميثاق السياسي لعام 1996، واتفاقية الخرطوم للسلام لعام 1997، واتفاقية فشودة لعام 1997. وقد حدّدت اتفاقية الخرطوم الفترة الانتقالية بأربعة أعوام. وقد عكس دستور السودان لعام 1998 تلك الاتفاقيات وأكّد حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.

ننتقل في هذا المقال إلى دور التجمّع الوطني الديمقراطي في مسألة تقرير المصير ونستعرض ونناقش الوثائق القانونية التي وقّعها التجمّع وأحزابه مع الحركة الشعبية والتي تضمّنت مبدأ تقرير المصير لشعب جنوب السودان حتى تكتمل للقارئ الصورة التاريخية والسياسية لدور كلٍّ من الحكومة والمعارضة في هذه المسألة، وحتى نفتح حواراً متكاملاً وموضوعياً في هذا الموضوع. 

2

كانت أولى اتفاقيات الحركة الشعبية مع حزبٍ شماليٍ بعد انقلاب 30 يونيو عام 1989 تلك التي وقّعتها الحركة الشعبية وحزب الأمة في 29 يناير عام 1990، أي بعد سبعة أشهرٍ فقط من الانقلاب، وعنوانها “اتفاقية تحالف بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وحزب الأمة.” اتفق الطرفان بموجب تلك الاتفاقية على مضمون ميثاق التجمّع الوطني الديمقراطي (الذي تمّ الاتفاق عليه مبدئياً في أكتوبر عام 1989) مع بعض التحفّظات التي أبدتها الحركة. كما اتفق الطرفان على العمل على إسقاط النظام واستعادة الديمقراطية، وقيام المؤتمر الدستوري الذي نصّت عليه مبادرة السلام السودانية التي وقّعها السيد محمد عثمان الميرغني والدكتور جون قرنق في 16 نوفمبر عام 1988. ونصّت الاتفاقية على إنهاء النزاعات بين الجيش الشعبي لتحرير السودان والمليشيات القبليّة المسلّحة التي تحارب مع الجيش السوداني، وأن يقوم حزب الأمة بمسؤولياته لإقناع هذه المليشيات بالتحالف مع الجيش الشعبي في حربه ضد الحكومة. ثمّنت الاتفاقية العلاقة الخاصة للسودان مع ليبيا واثيوبيا ومصر ويوغندا، وأشارت إلى أن العلاقة الخاصة مع ليبيا يجب تطويرها لتقود في النهاية إلى الوحدة بين السودان وليبيا. وقد وقّع على الاتفاقية السيد مبارك الفاضل ممثلاً لحزب الأمة والسيد جيمس واني إيقا ممثلاً للحركة الشعبية.

وقد تلت تلك الاتفاقية اتفاقيةٌ أخرى بين الطرفين عنوانها “البيان المشترك بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وحزب الأمة” وتمّ التوقيع عليها في 22 فبراير عام 1990، أي بعد أقل من شهر من الاتفاقية الأولى. كرّرت هذه الاتفاقية نقاط الاتفاقية السابقة خصوصاً ضرورة إنهاء النزاعات بين الجيش الشعبي لتحرير السودان والمليشيات القبليّة المسلّحة التي تحارب مع الجيش السوداني. وقد اتفق الطرفان على استعمال نفوذهما لحل هذه المسألة. نادت الاتفاقية أيضاً بضرورة إكمال العمل في ميثاق التجمّع الوطني الديمقراطي ومواصلة التعاون في كافة المجالات. وقد وقّع على الاتفاقية السيد مبارك الفاضل ممثلاً لحزب الأمة والسيد لوال دينق وول ممثلاً للحركة الشعبية.

تأتي هاتان الاتفاقيتان على خلفية مجموعة من الأحداث التي وقعت خلال فترة الحكم المدني الثالثة بين الطرفين. فحزب الأمة كان قد انسحب من إعلان كوكا دام ورفض حتى مبدأ تجميد قوانين سبتمبر، ولم يُبدِ أي حماسٍ لمبادرة سلام السودان على مدى السبعة أشهر بين توقيعها في 16 نوفمبر عام 1988 (بين السيد محمد عثمان الميرغني والدكتور جون قرنق)، وانقلاب 30 يونيو عام 1989. وقد اتهم وزير الداخلية وقتها السيد مبارك الفاضل نفسه مجموعة المثقفين السودانيين (السادة عدلان الحردلو والواثق كمير ومحمد أحمد محمود ومحمد يوسف أحمدالمصطفى ومحمد الأمين التوم ويوسف الياس وطه ابراهيم ومحمدعلي المحسي ومحمد زين شداد ومحمد عبد الحيم شداد) الذين التقوا بالحركة الشعبية في ورشة عمل أمبو (اثيوبيا) في فبراير عام 1989 بالخيانة وتوعّد بمحاكمتهم. ولكن بعد سبعة أشهر فقط عاد السيد مبارك الفاضل وصار أولَ الموقعين على اتفاق تعاونٍ مع الحركة الشعبية. من الناحية الأخرى فالحركة الشعبية كانت قد أصرّت على إلغاء اتفاقية الدفاع المشترك مع مصر وليبيا كشرطٍ للتفاوض بعد سقوط نظام نميري، لكنها عادت ونادت بمقتضى الاتفاقية الأولى بالوحدة مع ليبيا. وهذا بالطبع يُثير التساؤل حول جديّة الطرفين في المسائل التي تضمّنتها الاتفاقيتان. ولا بدّ من الإشارة إلى أن الخمسة عشر عاماً التي تلت توقيع هاتين الاتفاقيتين أوضحت بجلاء أن ظاهر الأمور في علاقة الحركة الشعبية بالتجمّع الوطني الديمقراطي وأحزابه وتنظيماته، وكذلك بالحكومة، كانت تختلف كثيراً عن باطنها.

شهد عام 1990 قيام التجمّع الوطني الديمقراطي (بعد الاجتماع التمهيدي في الخرطوم في أكتوبر عام 1989)، وانضمام الحركة الشعبية رسمياً له في عام 1991 بعد أن تمت إجازة مُقترح الانضمام خلال مؤتمر الحركة في توريت في سبتمبر عام 1991. وكما ذكرنا في المقال السابق فقد انعقد ذلك المؤتمر بعد أقل من شهرٍ من الانقسام داخل الحركة الشعبية الذي قاده الدكتور لام أكول والدكتور رياك مشار وكوّنا بعد الانقسام  فصيل الناصر أو الفصيل المتّحد في أغسطس عام 1991. وقد تبنّى مؤتمر توريت مبدأ حق تقرير المصير لجنوب السودان كما أشرنا في المقالات السابقة.

وفي يناير عام 1992 اتفق السيد علي الحاج والدكتور لام أكول على إعلان فرانكفورت الذي أعطى شعب جنوب السودان حق تقرير المصير كما ناقشنا من قبل. مواصلةً لإعلان فرانكفورت فقد بدأت مفاوضات أبوجا والتي حضرها وفدان من الحركة الشعبية، أحدهما يمثّل الحركة الأم والآخر يُمثّل فصيل الناصر. تواصلت مفاوضات أبوجا عام 1993 دون بروز أيّة بادرة أملٍ في التوصل لاتفاق.

3

بينما كانت مفاوضات أبوجا دائرةً عقد التجمّع الوطني الديمقراطي اجتماعاً موسّعاً لقياداته في نيروبي يوم السبت 17 أبريل عام 1993. وقد حضر الاجتماع ممثلون للحركة الشعبية وحزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي والحزب الشيوعي السوداني والاتحاد السوداني للأحزاب الأفريقية والمؤتمر السوداني الأفريقي والقيادة الشرعية للقوات المسلحة. تحدث الدكتور جون قرنق في بداية الاجتماع بإسهابٍ مؤكداً التزام الحركة الشعبية بوحدة السودان والتي يجب أن تُبْنى على الديمقراطية والتعددية الدينية والعرقية والثقافية، والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الانسان، والتي هي، كما ذكر، تُمثِّل مقوّمات السودان الجديد. كما أكّد التزام الحركة الشعبية بميثاق وبرنامج العمل للتجمع الوطني الديمقراطي رغم دخولها في مفاوضات أبوجا. كما ناشد دكتور جون المجتمعين بضرورة مناقشة القضايا المطروحة بأمانةٍ وصدق تأخذ في الاعتبار المنعطف التاريخي الحرج الذي يمر به السودان والمأساة الكبيرة التي يعاني منها شعبه نتيجة الحرب التي قامت الجبهة القومية الاسلامية بتصعيدها.

بعد نهاية كلمة دكتور جون قرنق ناقش الاجتماع مفاوضات أبوجا ومشاركة الحركة الشعبية فيها، وأكّد المجتمعون تفهمهم لما أسموه بالظروف المحلية والاقليمية والعالمية التي تنعقد فيها المفاوضات، وقناعتهم أن الحركة تشارك في هذه المفاوضات بغرض إنهاء الحرب وتحقيق السلام والعدالة والوحدة. انتقل الاجتماع بعد ذلك لمناقشة  مسألة دور الدين في السياسة في السودان وتأثير ذلك على الوحدة الوطنية وعلى إمكانية التوصل لسلامٍ عادلٍ ودائم. اتفق المجتمعون أن دستور السودان المؤقت الذي ينوون إصداره سيتضمّن بنوداً تؤكد أن المعاهدات الدولية والاقليمية المعنيّة بحقوق الانسان سوف تكون جزءاً أساسياً من قوانين السودان، وأن أي قانونٍ يتعارض معها سيكون باطلاً وغير دستوري. كما اتفقوا أيضاً أن القوانين سوف تؤكد المساواة بين السودانيين على أساس المواطنة، واحترام المعتقدات الدينية والتقاليد بدون التمييز بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو الثقافة، وأن أي قانونٍ يتعارض مع هذه المبادئ سيكون باطلاً وغير دستوري. واعتبر الاجتماع أن الاتفاق على هذه المبادئ يكون قد حسم الجدل في كل المسائل العالقة بخصوص الدستور الانتقالي. وقد صدر إعلان نيروبي متضمناً لهذين البندين في معالجته لمسألة دور الدين في السياسة.

أكدّ الاجتماع دعمه للصراع العسكري الذي يقوده الجيش الشعبي لتحرير السودان وناشد الفصائل المنشقّة بالعودة إلى الحركة الشعبية. كما ناقش الاجتماع الإطار الهيكلي التنظيمي للتجمّع الوطني الديمقراطي وكوّن لجنةً للقيام بدراسته وتقديم توصياتها في هذا الصدد. وقّع على إعلان نيروبي السادة اليجا مالوك عن الحركة الشعبية، مبارك الفاضل عن حزب الأمة، أحمد السيد حمد عن الحزب الاتحادي الديمقراطي، التجاني الطيب عن الحزب الشيوعي، أبدون أقو جوك عن الاتحاد السوداني للأحزاب الأفريقية، عبد الرحمن سعيد عن القيادة الشرعية، وفاروق أبو عيسى وبونا ملوال كشخصياتٍ وطنية.

كان هذا أول اجتماعٍ لقيادات التجمّع يتناول قضية أساسية من قضايا السودان، وأول اجتماعٍ للتجمع يحضره الدكتور جون قرنق. وقد احتل خطاب الدكتور قرنق الذي بدأ به الاجتماع حيّزاً كبيراً في إعلان نيروبي. ووضح من الإعلان الهالة الكبيرة التي حظي بها دكتور قرنق وسط قادة التجمّع. ولكنّ الملاحظة الأساسية في خطاب دكتور قرنق هي تركيزه على وحدة السودان وعدم تطرقه اطلاقاً لمسألة تقرير المصير أو مقررات مؤتمر توريت التي تضمّنت هذا المبدأ والتي كانت قد صدرت قبل عامٍ ونصف من اجتماع نيروبي. ومن المحتمل أن قادة الأحزاب الشمالية لم يكونوا على علمٍ بها، أو أنهم كانوا على علمٍ بها ولكن قرروا عدم إثارتها حتى لا تفتح باب الخلافات في أول اجتماعٍ للتجمع يحضره دكتور قرنق، خصوصاً مع الهالة والزخم الكبيرين اللذين صاحبا حضوره.

4

قبل أن ينقضي عام 1993 قام السيد هاري جونسون عضو مجلس النواب الأمريكي بدعوة فصيلي الحركة الشعبية وحكومة السودان والتجمّع الوطني الديمقراطي إلى إجتماعٍ تشاوريٍ في واشنطن في أكتوبر عام 1993. وقد وصل وفدان للحركة الشعبية، أحدهما بقيادة الدكتور جون قرنق والدكتور منصور خالد، والآخر بقيادة الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول. ووصل وفد التجمّع الوطني الديمقراطي والذي شمل الدكتور عمر نور الدائم والدكتور أحمد السيد حمد والدكتور بيتر نيوت كوك والدكتور أمين مكي مدني والدكتور تيسير محمد أحمد علي والسادة التجاني الطيب ومبارك الفاضل وفاروق أبو عيسى وبونا ملوال والتوم محمد التوم والفريق فتحي محمد علي والعميد عبد العزيز خالد. ووقد حضر الدكتور كمال عثمان صالح من السودان وشارك في لقاء واشنطن، إلاّ أنه أعلن أنه حضر ممثلاً لمركز الدراسات الاستراتيجية بالخرطوم وليس للحكومة السودانية. بالطبع لم يصدّق أحدٌ تلك الدعوى.

لم ينجح السيد هاري جونسون في التوفيق بين فصيلي الحركة الشعبية وبالتالي لم يصدر بيانٌ مشترك عن هذا الاجتماع. وقد أصرّ كل من الفصيلين على أنه يُمثّل الحركة الشعبية الأم، إذ لم يعدْ الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول يسميان فصيلهما “الناصر” أو “المتّحد.” غير أن كلّاً من وفدي الحركة الشعبية وقّع منفرداً على ما تمّ تسميته “إعلان واشنطن.” وقد أشار إعلان واشنطن إلى حق شعب جنوب السودان في تقرير مصيره، واتفق الطرفان على أن يتواصل الحوار والمساعي لتوحيد صفوفهما. لكنّ التجمّع الوطني الديمقراطي لم تتمْ دعوته للتوقيع على أيٍ من وثيقتي إعلان واشنطن، وقد انتهى الأمر بالتجمّع أن يكون مشاركاً كمراقبٍ لا أكثر في اجتماع واشنطن. غير أن أعضاء وفد التجمّع لا بد أن يكونوا قد أخذوا علماً واتضح لهم بدون أدنى شكٍ توجّه الحركة الشعبية وكذلك فصائلها المنشقّة نحو تقرير المصير لشعب جنوب السودان.

وهكذا شهد عام 1991 تبنّي الحركة الشعبية الأم لمبدأ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان بمقتضى مقررات مؤتمر توريت. وشهد عام 1992 صدور إعلان فرانكفورت بين الحكومة والحركة الشعبية فصيل الناصر متضمناً لأول مرة حق تقرير المصير. وأكد إعلان واشنطن في عام 1993 توجّه الحركة الشعبية بجناحيها نحو تقرير المصير.

5

من المؤكد أن هذه التطورات قد هيأت قادة التجمّع الوطني الديمقراطي لقبول مبدأ تقرير المصير لشعب جنوب السودان. فقد شهد عام 1994 هجرةً مكثّفةً لأحزاب التجمّع نحو الاعتراف بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. اتضح ذلك جلياً في الاتفاقيات التي وقّعها على انفرادٍ مع الحركة الشعبية الأم كلٌّ من الحزب الاتحادي الديمقراطي (اتفاقية القاهرة 13 يوليو 1994)، وحزب الأمة (اتفاقية شقدوم 12 ديسمبر 1994)، قبل أن يوقعا معاً في نهاية ذاك العام على اتفاقٍ آخر يؤكد الاتفاقيتين السابقتين (اتفاق قوى المعارضة السودانية الرئيسية 27 ديسمبر 1994).

وقد مهّدت هذه الاتفاقيات لإعلان أسمرا الذي وقّع عليه كلُّ قادة التجمّع الوطني الديمقراطي بما فيهم الحركة الشعبية في 23 يونيو عام 1995 (مؤتمر القضايا المصيرية – قرار حول قضيّة تقرير المصير). وبدون أدنى شكٍ فإن إعلان أسمرا كان تتويجاً حقيقياً لجهد الحركة الشعبية في هذا المجال. فقد أثبت الإعلانُ بجلاءٍ الذكاءَ والمثابرة والحنكة السياسية التي انتزعت بها الحركة الشعبية مسألة تقرير المصير لشعب جنوب السودان من الحكومة ومن المعارضة، كما سنوضّح في المقال القادم.

 

التجمّع الوطني الديمقراطي ومسؤولية انفصال جنوب السودان (5 – 9)

د. سلمان محمد أحمد سلمان

1

شرحنا في المقالات الثلاث الأولى من هذه السلسلة من المقالات كيف أن تبنّي الحركة الشعبية لمبدأ تقرير المصير في مؤتمر توريت في شهر سبتمبرعام 1991 قد تمّ قبوله بواسطة الحكومة السودانية وأصبح المعلم الأساسي لإعلان فرانكفورت الذي وقّع عليه الدكتور علي الحاج والدكتور لام أكول في يناير عام 1992. وقد نصّ إعلان فرانكفورت على إجراء استفتاءٍ عام في جنوب السودان بعد نهاية الفترة الانتقالية لاستطلاع آراء المواطنين الجنوبيين حول نظام الحكم الذي يناسب تطلعاتهم السياسية دون استبعاد أي خيار. ناقشنا أيضاً كيف أصبح إعلان فرانكفورت المرتكز الأساسي لمبادئ مبادرة الايقاد عام 1994.

وأوضحت المقالات كيف عبّد إعلان فرانكفورت الطريق للحكومة للدخول في اتفاقيات لاحقة ومفصّلة مع الفصائل المنشقّة عن الحركة الشعبية تضمّنت كلها حق تقرير المصير. وقد شملت تلك الاتفاقيات الميثاق السياسي لعام 1996، واتفاقية الخرطوم للسلام لعام 1997، واتفاقية فشودة لعام 1997. وقد حدّدت اتفاقية الخرطوم الفترة الانتقالية بأربعة أعوام. وعكس دستور السودان لعام 1998 تلك الاتفاقيات وأكد حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.

2

بدأنا  في المقال السابق مناقشة دور التجمّع الوطني الديمقراطي وأحزابه وتنظيماته في قبول وتأكيد مبدأ تقرير المصير لشعب جنوب السودان. أوضحنا أن الحركة الشعبية انضمّت للتجمع، مع بعض التحفظات، في عام 1990، ووافق المكتب السياسي للحركة على الانضمام رسمياً في سبتمبر عام 1991.

كانت أولى اتفاقيات الحركة الشعبية مع حزبٍ شمالي بعد انقلاب 30 يونيو تلك التي وقّعتها الحركة مع حزب الأمة في شهر يناير عام 1991. تلتها اتفاقية أخرى في فبراير من نفس ذاك العام، وقد قمنا بمناقشة الاتفاقيتين في المقال السابق. وبعد صدور إعلان فرانكفورت عام 1992، وأثناء مفاوضات أبوجا عقد التجمّع لقياداته اجتماعاً في نيروبي في أبريل عام 1993 حضره وخاطبه الدكتور جون قرنق. وقد ركّز الاجتماع على مسألة دور الدين في السياسة في السودان وتأثير ذلك على الوحدة الوطنية وعلى إمكانية التوصل لسلامٍ عادلٍ ودائم. اتفق المجتمعون أن دستور السودان المؤقت الذي كانوا ينوون إصداره سيتضمّن بنوداً تؤكد أن المعاهدات الدولية والاقليمية المعنيّة بحقوق الانسان، والمساواة القائمة على المواطنة سوف تكون جزءاً أساسياً من قوانين السودان، وأن أي قانونٍ يتعارض معها سيكون باطلاً وغير دستوري. وقد صدر إعلان نيروبي متضمّناً هذه المبادئ.

لم يتطرّق اجتماع أو إعلان نيروبي إلى مسألة حق تقرير المصير لمواطني جنوب السودان رغم أن اجتماع نيروبي كان قد عُقِد بعد عامٍ ونصف من اجتماع الحركة في توريت الذي تبنّى مبدأ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.

في أكتوبر عام 1993 قام السيد هاري جونسون عضو مجلس النواب الأمريكي بدعوة فصيلي الحركة الشعبية وحكومة السودان والتجمّع الوطني الديمقراطي إلى إجتماعٍ تشاوريٍ في واشنطن. ورغم أن اللقاء فشل في التوفيق بين فصائل الحركة المتطاحنة، إلاّ أن الفصيلين الرئيسين اتفقا منفصلين على مبدأ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وقد تضمّن إعلان واشنطن ذلك المبدأ. ولا بدّ أن أعضاء وفد التجمّع قد أخذوا علماً واتضح لهم بدون أدنى شكٍ توجّه الحركة الشعبية وكذلك فصائلها المنشقّة نحو تقرير المصير لشعب جنوب السودان.

3

قفزت دول شرق افريقيا إلى داخل حلبة النزاع السوداني في مارس عام 1994 وقررت أن تملأ الفراغ الذي خلّفته نيجريا بعد فشل مفاوضات أبوجا. عرضت هذه الدول باسم منظمة الايقاد وساطتها التي قبلها الطرفان. أعدّت المنظمة في مارس عام 1994 إعلان مبادئ مبادرة الايقاد والتي تمّت مناقشتها في مايو عام 1994، وإعلانها في يوليو عام 1994. وقد نصّت الفقرة الثانية من الإعلان على حق شعب جنوب السودان في تقرير مصيره، مُشيرةً إلى إعلان فرانكفورت. تضمّن إعلان المبادئ مسألة علمانية الدولة السودانية أيضاً. وقد أوضحنا أن الدكتور غازي العتباني كان قد رفض باسم الحكومة السودانية إعلان المبادئ ذاك في سبتمبر عام 1994 رغم ارتكازه على إعلان فرانكفورت. لكنّ السودان عاد وقبل مبادئ الايقاد في عام 1997 بعد أن تمّ التوقيع على اتفاقية الخرطوم للسلام ذاك العام.

4

بعد أن قامت الايقاد بإعداد ومناقشة إعلان المبادئ في مايو عام 1994 (خلال الجولة الثانية من المفاوضات) أحسّت الحركة الشعبية أن الوقت قد حان لفتح باب التفاوض حول حقّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان مع أحزاب التجمّع الوطني الديمقراطي. وقد كان واضحاً أن استرتيجية الحركة هي أن تبدأ بالأحزاب فُرادى قبل أن يتم عرض المسألة على التجمّع كتنظيم.

اختارت الحركة الحزب الاتحادي الديمقراطي لضربة البداية. فالعلاقة الوطيدة بين التنظيمين تعود إلى نوفمبر عام 1988 عندما وقّعا معاً على اتفاقية السلام السودانية. وقد نشأت علاقة خاصة بين السيد محمد عثمان الميرغني والدكتور جون قرنق إثر تلك الاتفاقية، وتوطّدت هذه العلاقة عندما أكدت الحركة عضويتها في التجمّع عام 1991، وعندما اختار التجمّع السيد محمد عثمان الميرغني رئيساً للتجمع والدكتور جون قرنق نائباً له عام 1995.

تمّ في يوليو عام 1994 عقد اجتماعٍ مشترك بين قيادات من التنظيمين في القاهرة، وصدر في 13 يوليو من ذاك العام ما سُمّي بـ “إعلان مشترك بين الحزب الاتحادي الديمقراطي والحركة الشعبية لتحرير السودان” (وعُرف بإعلان القاهرة). ثمّن الإعلان جهود الجانبين للوصول إلى حلٍّ سلمي ودائم لمشاكل السودان يحفظ للوطن استقلاله ووحدته التي تجسّدت في اتفاقية السلام السودانية.، واشاد الجانبان بالجهود التي بُذلت في أبوجا ونيروبي وبواسطة دول الايقاد. أوضح الإعلان بعد ذلك مبادئ عامة اتفق عليها الطرفان منها وحدة السودان، وأن السلام الحقيقي لا يجوز حصره في مشكلة الجنوب لكن على أساس أن المشكلة قومية، ولا يمكن حلّها إلاّ عن طريق الحوار. تضمّنت المبادئ أيضاً أن السودان قطرٌ متعدّد الديانات والأعراق والثقافات ولا بد من الاعتراف بهذا التعدّد والتأكيد على قيام دولة ديمقراطية تكفل حرية الاعتقاد والعبادة وممارسة الشعائر الدينية لسائر المواطنين. أكد البيان البندين المتعلقين بعلاقة الدين بالسياسة اللتين تمّ تضمينهما في إعلان نيروبي بتاريخ 17 أبريل عام 1993، وأشار إلى ضرورة تطبيق نظام الحكم اللامركزي والقسمة العادلة للثروة مع إعطاء الأولوية للمناطق الأكثر تضرراً وتخلفاً. وشدّد البيان أنه في حالة الإخلال أو العدول عن أيٍّ من هذه المبادئ الأساسية والتي سيتمّ الاتفاق عليها في المؤتمر القومي الدستوري سيكون للطرف أو الأطراف المتضررة الحقَّ في تقرير مصيرها وذلك عن طريق استفتاء يجب الالتزام بنتيجته.

غير أن هذه اللغة الملتوية لمسألة تقرير المصير كانت أكثر وضوحاً عندما أكّد الإعلان اتفاق الطرفين على أن مشروع إعلان المبادئ المقدّم من دول الايقاد يُعتبر خطوةً ايجابية تُعبّر عن اهتمام دول الجوار بمشاكل السودان بشرط أن تكون الأولوية لوحدة السودان، وفي هذا الإطار فقد رحّب الطرفان بالجهود الدولية المبذولة من أجل إيجاد حلول شاملة لمشاكل السودان. ولا بدّ من التذكير هنا أن مبادئ الايقاد ركّزت على مبدأ تقرير المصير لشعب جنوب السودان وعلمانية الدولة السودانية.

وقّع على البيان الذي سُمّي “إعلان القاهرة” لأنه صدر هناك، الدكتور أحمد السيد حمد عن الحزب الاتحادي الديمقراطي والقائد يوسف كوه مكي رئيس المؤتمر القومي للحركة الشعبية لتحرير السودان. ويبدو أن اختيار القائد يوسف كوة قد تمّ بعناية لأن الوثيقة سيكون قد وقّع عليها قائدان من شمال السودان.

وهكذا انتزعت الحركة الشعبية أول اعترافٍ لحق تقرير المصير من حزبٍ شماليٍ معارض في يوليو عام 1994، وهو نفس الشهر الذي صدرت فيه مبادئ إعلان الايقاد رسمياً بعد أسبوعٍ من إعلان القاهرة. وحقّقت الحركة بذلك انجازاً أولياً سيمتد بعد وقتٍ قصير إلى بقية الأحزاب الشمالية المعارضة.

5

امتدّت المنافسة التقليدية بين حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي لتشمل التعاون مع الحركة الشعبية ومحاولة كسب ودِّها. ففي ديسمبر عام 1994، أي بعد أقل من خمسة أشهرٍ على اتفاق القاهرة زار وفدٌ من حزب الأمة مدينة شقدوم بجنوب السودان والتي كانت تحت سيطرة الحركة الشعبية. التقى وفد حزب الأمة والذي ضمّ السيدين عمر نور الدائم ومبارك الفاضل وفد الحركة الشعبية هناك بقيادة السيد سلفا كير. بعد أيامٍ من النقاش وقّع الطرفان في 12 ديسمبر عام 1994 على ما سُميّ بـ “اتفاقية شقدوم.”

أكد الطرفان التزامهما بمقتضى هذه الاتفاقية بوضع حدٍ فورى للنزاع المسلّح الحالى في السودان عن طريق تسويةٍ نهائيةٍ وعادلةٍ تقوم على إرادة أهل السودان الحرة، وبالسلام العادل والديمقراطية والوحدة الوطنية. وأشارا إلى الاتفاق الذى أُبرم بين الطرفين فى عام 1990 بغرض تحقيق الوئام والسلام بين القبائل التي تعيش في حزام التماس.

أكد الطرفان أيضاً قبولهما لحق تقرير المصير لسكان جنوب السودان على أن يمارس ذلك الحق عن طريق استفتاءٍ حر تراقبه الاسرة الدولية قبل نهاية فترة الانتقال التى تبدأ بعد إزالة الحكم الحالي فى السودان. واتفقا على أن تكون مدة الفترة الانتقالية بين عامين إلى أربعة أعوام، يُحكم السودان خلالها بعلاقة كونفيدرالية مع الجنوب، وتظل قوات الجيش الشعبي لتحرير السودان خلالها تحت قيادتها في الولاية الكونفيدرالية. وتوضّح الاتفاقية خيارات الاستفتاء بالنظام الفيدرالي والكونفيدرالي والاستقلال. وقّع على الاتفاقية الدكتور عمر نور الدائم الأمين العام لحزب الأمة والسيد سلفا كير عن الحركة الشعبية. 

وهكذا خطت الحركة الشعبية خطوةً معتبرة في اتجاه تقرير المصير لشعب جنوب السودان. فهاهو حزب الأمة الذي انسحب من إعلان كوكا دام ولم يبدِ حماساً يُذكر لاتفاقية السلام السودانية لعام 1988 يوافق بوضوحٍ ودون شروطٍ على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان بما في ذلك حق الاستقلال. ويُلاحظ أن الاتفاقية استعملت كلمة “استقلال” التي تُستعمل عادةً في حالة الشعوب التي ترزح تحت الاستعمار، ولم تستعمل كلمة “الانفصال”التي تُستعمل عادةً في حالة انشطار الدولة إلى دولتين أو أكثر.

6

كانت الخطوة التالية للحركة الشعبية هي تضمين حق تقرير المصير في وثيقةٍ قانونيةٍ واحدة تجمع حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي. وقد حدث ذلك بعد أسبوعين فقط من اتفاقية شقدوم. فقد تمّ عقد اجتماع لما سُمّي بقوى المعارضة السودانية الرئيسية يوم 27 ديسمبر عام 1994 في أسمرا. وقد شارك في الاجتماع السيد محمد عثمان الميرغني والدكتور جون قرنق والدكتور عمر نور الدائم والعميد عبد العزيز خالد قائد قوات التحالف السودانية. لم يُشارك الحزب الشيوعي السوداني في الاجتماع. ويبدو أن مشاركة قوات التحالف كقوةٍ معارضةٍ رئيسية وغياب الحزب الشيوعي قد فرضتها إرادة المضيف الاريتري. أصدر المجتمعون الأربعة ووقعوا في 27 ديسمبر 1994 على بيانٍ أسموه “إعلان اتفاق سياسي.”

يشبه البيان إلى حدٍ كبير اتفاقية القاهرة التي وقّعتها الحركةالشعبية والحزب الاتحادي الديمقراطي في يوليوعام 1994. غير أن البيان اكّد بوضوح “إجازة حق تقرير المصير لجنوب السودان على أن يُمارس بعد فترةٍ انتقالية يُتفق عليها في مؤتمر المعارضة السودانية المُوسّع.” وأشاد المجتمعون بجهود دول الايقاد لوقف الحرب وإحلال السلام والاستقرار وأعلنوا تأييدهم ومساندتهم الكاملة لإعلان مبادئ دول الايقاد.

وهكذا أزال بيان قوى المعارضة السودانية الرئيسية أي شكٍ في موافقتها على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وأكّد تأييدها لمبادئ الايقاد، وأصبح كل حزبٍ شاهداً على الحزب الآخر. صارت الخطوة المُتبقية للحركةالشعبية هي تأكيد حق تقرير المصير بواسطة اجتماعٍ عام للتجمع الوطني الديمقراطي بكل أحزابه وتنظيماته. ولكن كان واضحاً أنه بعد موافقة الحزبين الكبيرين واللذين عارضا بشدّة هذا الحق في الماضي فإن المسألة أصبحت إجرائية لا أكثر ولا أقل.

7

تمّت موافقة أحزاب وتنظيمات التجمّع الوطني الديمقراطي على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان في اجتماع اسمرا الذي أُطلق عليه مؤتمر القضايا المصيرية، وصدر في 23 يونيو عام 1995 “قرار حول قضية تقرير المصير” أوما عُرِف بـ “إعلان أسمرا.” وقد تضمّن الإعلان عدة فقراتٍ عن حق تقرير المصير منها أن حق تقرير المصير حقٌّ انسانيٌ ديمقراطيٌ أساسيٌ للشعوب يحق لأي شعب ممارسته في أي وقت. و يقرّ الإعلان بأن ممارسة حق تقرير المصير توفّر حلاً لقضية إنهاء الحرب الأهلية وتُيسّر استعادة الديمقراطية وتعزيزها، ويؤكّد أن أن شعب جنوب السودان (بحدوده القائمة في أول يناير 1956) سيمارس حقه في تقرير المصير قبل انتهاء الفترة الانتقالية، وأن الخيارات التي ستُطرح للاستفتاء في الجنوب هي الوحدة (بما في ذلك الكونفيدرالية والفيدرالية) والاستقلال. ويختتم قادة التجمّع بيان أسمرا بتأكيد اعترافهم مرةً ً ثانية بأن ممارسة حق تقرير المصير بجانب كونه حقاً ديمقراطياً وانسانياً أصيلاً للشعوب فإنه أيضاً أداة لوضع نهاية فورية للحرب الأهلية ولاتاحة فرصة فريدة وتاريخية لبناء سودانٍ جديد قائم على العدالة والديمقراطية والاختيار الحر.

وقد وقّع على إعلان أسمرا قادة الحزب الاتحادي الديمقراطي، وحزب الأمة، والحركة الشعبية لتحرير السودان، وتجمّع الأحزاب الأفريقية السودانية، والحزب الشيوعي، والقيادة الشرعية للقوات المسلحة، ومؤتمر البجة، وقوات التحالف السودانية وممثل للنقابات وبعض الشخصيات الوطنية.

وهكذا توّجت الحركة الشعبية بإعلان أسمرا نجاحاتها في انتزاع حقّ تقرير المصير من كلِّ أحزاب وتنظيمات المعارضة معاً وفي وثيقةِ واحدة لا غموض أو لبس فيها، وقّع عليها قادة هذه الأحزاب والتنظيمات أنفسهم دون وساطةٍ أو ضغوطٍ من طرفٍ ثالث. بل إن الوثيقة نفسها أشارت إلى مواطني جنوب السودان كـ “شعب جنوب السودان”، واتفقت بإن هذا الشعب “سيمارس حقه في تقرير المصير.” لم تعد المسألة إعطاء شعب الجنوب هذا الحق بل أصبحت ممارسته لهذا الحق. كما يُلاحظ أيضاً الربط في إعلان أسمرا بين حقوق الانسان والديمقراطية وشعار السودان الجديد من جهة وحق شعب جنوب السودان في تقرير المصير من الجهة الأخرى.

وقد كان هذا الإنجاز بلا شك إنجازاً كبيراً للحركة الشعبية، إذ أنه أتي بعد أربعة أعوامٍ فقط من مؤتمر توريت الذي تبنّت فيه الحركة مبدأ تقرير المصير، وبعد ثلاثة أعوامٍ ونصف من إعلان فرانكفورت الذي وافقت الحكومة بمقتضاه مع فصيل الناصر على حق تقرير المصير لمواطني جنوب السودان.

سنناقش في المقال القادم التحدّيات التي واجهت الحركة الشعبية بعد أن انتزعت حق تقرير المصير من كل أحزاب المعارضة، وبعد أن وافقت الحكومة مع فصائل الحركة المنشقّة على تقرير المصير. تمثّلت هذه التحديات في المبادرة الليبية المصرية، والمفاصلة داخل البيت الحاكم في السودان وبروز حزب المؤتمر الشعبي، وعنوان المقال “حزب المؤتمر الشعبي ومسؤولية انفصال جنوب السودان.”

سيكون المقال السابع بعنوان “شماليو الحركة الشعبية ومسؤولية انفصال جنوب السودان.” وسنختتم هذه السلسلة من المقالات بإلقاء نظرةٍ موجزةٍ على تاريخ النزاع في السودان، ودور القوى السياسية الشمالية ومسؤوليتها في انفصال جنوب السودان.

 

حزب المؤتمر الشعبي: اتفاق جنيف ومسؤولية انفصال جنوب السودان (6 – 9)

د. سلمان محمد أحمد سلمان

1

مع اقتراب أفول عقد التسعينيات من القرن الماضي كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان الأم والفصائل المنشقّة عنها قد حقّقت نجاحاً باهراً في انتزاع حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان وفي تأكيد هذا الحق في قدر مهولٍ من الاتفاقيات مع الحكومة والأحزاب المعارضة. فقد تبنّت الحركة الشعبية مبدأ تقرير المصير في مؤتمر توريت في سبتمبر عام 1991. وبعد أربعة أشهرٍ فقط من ذاك التاريخ في يناير عام 1992 وقّعت الحكومة السودانية على إعلان فرانكفورت مع الدكتور لام أكول، ووافقت بمقتضى ذاك الإعلان على إجراء استفتاءٍ عام في جنوب السودان لاستطلاع آراء المواطنين الجنوبيين حول نظام الحكم الذي يناسب تطلعاتهم السياسية دون استبعاد أي خيار.

تبنّت دول ومنظمة الايقاد ذاك الإعلان وعكسته في إعلان مبادئ الايقاد الذي صدر قي يوليو عام 1994. ودفعت مبادرة الايقاد بالكرة في التدحرج من جانبين: الحكومة والمعارضة. فقد رفضت الحكومة هذه المبادئ في سبتمبر عام 1994، لكنها واصلت حوارها تحت مظلة السلام من الداخل مع الفصائل المنشقّة على أمل توسيع هوّة الانقسام بين هذه الفصائل وبين الحركة الشعبية الأم. وفي شهر أبريل عام 1996 وقّعت الحكومة مع الدكتور رياك مشار على الميثاق السياسي الذي أكّد حق تقرير المصير لمواطني جنوب السودان. وجاءت اتفاقية الخرطوم للسلام التي تمّ التوقيع عليها في أبريل عام 1997 بعد عامٍ من التوقيع على الميثاق السياسي مؤكّدة حق تقرير المصير ومُحدّدةً الفترة الانتقالية بأربعة أعوام. لحق الدكتور لام أكول بركب اتفاقية الخرطوم عندما وقّع في سبتمبر عام 1997 على اتفاقية فشودة. وفي يونيو عام 1998 صدر دستور السودان حاملاً بين ثناياه حق تقرير المصير لمواطني جنوب السودان ومُتضمناً النص على استمرار العمل بالمرسوم الدستوري الرابع عشر (تنفيذ اتفاقية السلام ) لسنة 1997. لم يعد هناك معنى أو سبب بعد تلك التطورات لترفض الحكومة السودانية مبادئ الايقاد. وعليه فقد عدّلت الحكومة موقفها من المبادرة وأعلنت في 30 أكتوبر عام 1997 خلال جولة مفاوضات الايقاد الخامسة قبول مبادئ مبادرة الايقاد. 

2

من الجانب الآخر حملت الحركة الشعبية الأم إعلان فرانكفورت ومبادئ إعلان الايقاد (حتى قبل إعلانها رسمياً) ككروت تفاوضية مع أحزاب التجمّع الوطني الديمقراطي. كانت ضربة البداية مع الحزب الاتحادي الديمقراطي ونتج عنها التوقيع على الإعلان المشترك بين التنظيمين في 13 يوليو عام 1997 متضمناً حق تقرير المصير لجنوب السودان. تبع هذا بعد خمسة أشهر اتفاق شقدوم بين الحركة الشعبية وحزب الأمّة والذي تمّ التوقيع عليه في 12 ديسمبر عام 1994 وبه اعترافٌ واضحٌ بحق تقرير المصير. واستمرّ هذا المنهاج ونتج عنه في 27 ديسمبر عام 1994، أي بعد أسبوعين فقط، اتفاقٌ مماثل بين الحركة الشعبية والحزب الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة وقوات التحالف السودانية أُطلِق عليه إسم “إعلان اتفاق سياسي” أكدت فيه الأطراف المبادئ التي تضمّنتها الاتفاقيات السابقة. عبّدت هذه الاتفاقيات الطريق لإعلان أسمرا الذي وقّعت عليه في 23 يونيو عام 1995 كل أحزاب المعارضة (الاتحادي الديقراطي والأمة والشيوعي وقوات التحالف السودانية) وممثّل للنقابات، وآخرللقيادة الشرعية، وشخصيات وطنية. أقرّ إعلان أسمرا بلغةٍ تأكيديّةٍ واضحة أن شعب جنوب السودان “سيمارس حقه في تقرير المصير قبل انتهاء الفترة الانتقالية” وأن الخيارات التي ستُطرح للاستفتاء في الجنوب هي الوحدة والاستقلال. توّجت الحركة الشعبية نجاحاتها بإعلان أسمرا (مؤتمر القضايا المصيرية) في انتزاع حقّ تقرير المصير من كلِّ أحزاب وتنظيمات المعارضة معاً وفي وثيقةِ واحدة لا غموض أو لبس فيها.

وهكذا اكتملت جهود الحركة الشعبية الأم مع الأحزاب المعارضة في يونيو عام 1995 بصدور إعلان أسمرا، ومع الحكومة بقبول الخرطوم مبادئ الايقاد، وبصدور دستور السودان في يونيوعام 1998 متضمّناً حق تقرير المصير لجنوب السودان. وتوّجت الفصائل المنشقّة نجاحاتها  في مفاوضاتها مع الحكومة بتوقيع اتفاقية الخرطوم في 21 أبريل عام 1997.

غير أن هذه النجاحات واجهها فجأةً في عام 1999 تحديان كبيران، تمثّلا في المبادرة الليبية المصرية، والانشقاق داخل الحزب الحاكم في الخرطوم وبروز حزب المؤتمر الشعبي.

3

بدعوةٍ من الحكومة الليبية عقدت قيادات التجمّع الوطني الديمقراطي اجتماعاً في طرابلس في يوليو عام 1999. عرضت الحكومة الليبية خلال ذاك الاجتماع مبادرةً لحل المشكلة السودانية تمثّلت في وقفٍ كاملٍ لكل الأعمال العسكرية وبدء حوارٍ مباشرٍ بين الحكومة والمعارضة يهدف لحل كل المشاكل العالقة. وفي أغسطس من ذاك العام تبنّت مصر الأفكار الليبية وأصبح الاسم الرسمي للمبادرة هو “المبادرة الليبية المصرية.” كان واضحاً أن هذه المبادرة، إن تمّ لها النجاح، ستلغي بجرّة قلم كل الانجازات التي حققتها الحركة الشعبية خلال الثماني أعوام الماضية. عليه فقد قامت الحركة بالتحفّظ عليها بحجة ازدواج المبادرات. من الجانب الآخر فقد قبلتها الحكومة حال إعلانها لأنها رأت فيها مخرجاً من مبادرة الايقاد وحق تقرير المصير وعلمانية الدولة السودانية. وقد رحّبت بالمبادرة بعض فئات التجمّع الوطني الديمقراطي مما أبرز بوضوحٍ الصراعات التي كانت قد بدأت في التأجّج داخل التجمّع الذي كان قد وافق بدون تحفّظات على حق تقرير المصير في أسمرا عام 1995.

تواصلت الاجتماعات والنقاش حول المبادرة الليبية المصرية وواصلت الدولتان محاولة بلورة بنودها. وفي 30 يونيو عام 2001 سلّم مندوبا الدولتين مذكّرةً تحمل اسم “مبادئ وأسس الوفاق الوطني السوداني” للحكومة السودانية والحركة الشعبية وقيادة التجمّع الوطني الديمقراطي. تضمّنت المبادرة مجموعة مبادئ من بينها: تأكيد وحدة السودان، المواطنة هي الأساس في الحقوق والواجبات، الاعتراف بالتعدد العرقي والديني، ضمان مبدأ الديمقراطية التعددية واستقلال القضاء والفصل بين السلطات، إقامة نظام حكمٍ لامركزي في إطار وحدة السودان، تشكيل حكومة انتقالية تُمثّل فيها كافة القوى السياسية وتتولى تنفيذ بنود الاتفاق السياسي، وتنظّم انعقاد مؤتمر قومي لمراجعة الدستور وتحديد موعد الانتخابات العامة مع الوقف الفوري والشامل للحرب ونبذ الاقتتال بكافة أشكاله.

وهكذا وببساطةٍ تصل حد السذاجة السياسية والجهل بتطورات التفاوض بين الأطراف حاولت المبادرة الليبية المصرية وأد الانجازات التي حقّقتها الحركة الشعبية وذلك بطي ملفي حق تقرير المصير والدين والدولة، والعودة بالمفاوضات إلى وضع ما قبل عام 1988. قبلت الحكومة السودانية المبادرة فور إعلانها. وفي أغسطس عام2001 رحبت الحركة الشعبية بالمبادرة الليبية المصرية ولكنها طالبت إضافة حق تقرير المصير وفصل الدين عن الدولة وإعداد دستور انتقالي وقيام حكومة قومية. ودون شكٍ فقد مثّلت مطالب الحركة تلك سُخريةً تامةً بالمبادرة. برز الحديث عن التنسيق بين المبادرتين ولكن كان واضحاً عدم وجود أي حماسٍ للمبادرة الليبية المصرية من الولايات المتحدة أو الدول الاوروبية التي عُرِفت بأصدقاء أو شركاء الايقاد. وكان يبدو أن مصر نفسها (سواءٌ كان ذلك بضغوطٍ أمريكية وأوروبية أم لأسباب داخلية) لم تكن متحمّسةً لمبادرتها. وربما كان من بين أسباب عدم حماس مصر ترسّبات محاولة اغتيال الرئيس السابق حسني مبارك. ويبدو عدم الجدية في المبادرة واضحاً عندما يصل القارئ للفقرة التي يطالب فيها نظاما مبارك والقذافي بضمان مبدأ الديمقراطية التعدّدية واستقلال القضاء والفصل بين السلطات في السودان.

مع بداية عام 2002 كانت المبادرة الليبية المصرية تلفظ أنفاسها الأخيرة. كان واضحاً انها جاءت متأخرةً عشرة أعوام على الأقل وحاولت في سذاجةٍ بالغة القفز عبر أكبر انجازٍ للحركة الشعبية، وهو انجازٌ تمّ بحنكةٍ وذكاءٍ كبيرين ووصل طوراً متقدّماً. في ذلك الوقت كانت مبادرة الايقاد تشق طريقها إلى واجهة منتديات التفاوض بعد أن بعث فيها شركاء الايقاد الروح من خلال الضغوط السياسية والتمويل اللازم.

كانت مصر هي إحدى الدول التي وقّعت كشاهدٍ على اتفاقية السلام الشامل في 9 يناير عام 2005. وكان وزير خارجيتها السيد أحمد أبو الغيط الذي وقّع على الاتفاقية يكرّر بمناسبةٍ وبلا مناسبة أن مصر مع حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان “شريطة أن يؤدّي الاستفتاء إلى الوحدة”!!

4

كان ثاني التحديات الذي واجه إنجاز الحركة الشعبية هو الصراع داخل الحزب الحاكم مروراً بمذكرة العشرة وانتهاءً بقرارات الرابع من رمضان (ديسمبر 1999). وقد أدّى الصراع بعد ذلك إلى المفاصلة بين جناحي القصر والمنشية وانشقاق الحزب الحاكم وبروز حزب المؤتمر الوطني الشعبي. في يوليو عام 2000.

كانت الحركة الشعبية قبل هذا الانقسام قد فرغت تماماً من انتزاع حق تقرير المصير من كل أحزاب المعارضة، وكانت الحكومة قد قبلت رسمياً مبادئ الايقاد التي تتضمّن حق تقرير المصير وتنادي بالدولة السودانية العلمانية، وبدأت جولة المفاوضات الخامسة تحت وساطة الايقاد بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية بعد أن تأكّد قبول الحكومة لهذه المبادئ. ولكن أتت المبادرة الليبية المصرية لتهدد بنسف كل تلك الإنجازات وإعادة المفاوضات إلى نقطة البداية. وهاهو الحزب الحاكم في الخرطوم ينشطر إلى حزبين مما يهدّد بفتح ملف حق تقرير المصير والعودة إلى مربع رفض مبادئ الايقاد مرةً ثانية، كما حدث في سبتمبر عام 1994.

بدأت الاتصالات بين الحركة الشعبية والمؤتمر الشعبي عبر عدة أطراف بعد أسابيع قليلة من المفاصلة. كانت الحركة ترمي من لقائها بالمؤتمر الشعبي التأكّد من أن حق تقرير المصير في مأمنٍ ولن يتم فتح ملفه بواسطة قادة الحزب الجديد. فلا أحد كان يدري في ذاك الوقت أي الفصيلين من البيت الحاكم ستكون له الغلبة في نهاية الصراع. وللحركة نفسها تجارب قاسية في الانقسامات وتأثيراتها السالبة عى مجرى التفاوض. وقد تكون الحركة قد تخوّفت من غلبة المؤتمر الشعبي على أساس أن أجنحة الآباء هي عادةً أقوى من أجنحة الأبناء. من الجانب الآخر قصد المؤتمر الشعبي من لقائه الحركة الشعبية إيصال رسالة إلى الحكومة انه قادرٌ على فتح جبهاتٍ عدّة مع أعداء الخرطوم بما فيهم العدو الأكبر – الحركة الشعبية. استمرت الاتصالات عبر عدة عواصم أوروبية وأفريقية خلال الربع الأخير من عام 2000.

وأخيراً تمّ اللقاء بين الطرفين في جنيف في 17 فبراير عام 2001. مثّل الحركة الشعبية في ذلك اللقاء السيدان باقان أموم وياسر عرمان، بينما مثّل المؤتمر الشعبي السيدان المحبوب عبد السلام وعمر ابراهيم الترابي. وقّع المندوبون الأربعة في 19 فبراير عام 2001 على ما تمّت تسميته بـ “مذكرة تفاهم بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والمؤتمر الوطني الشعبي.”   

5

لا تختلف مذكرة التفاهم في مسائل الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وحقوق الانسان عن أيٍ من الاتفاقيات التي وقّعتها الحركة الشعبية مع أحزاب المعارضة الأخرى، حتى أن القارئ قد يظن أن الطرف الاخر يمكن أن يكون حزب الأمة أو الاتحادي الديمقراطي أو القيادة الشرعية أو الحزب الشيوعي، وليس حزباً كان قادته حتى قبل أشهر قلائل هم الآمرون والناهون في السودان بلا رقيبٍ أوحسيب. دعونا نقتبس بعض فقرات المذكرة بدون تعليقٍ عليها:

الفقرة الأولى: استعرض الجانبان تجارب السودان السياسية منذ الاستقلال والوضع السياسي الحالي واتفقا على أن المشاريع الآحادية الرؤى للحكم وغياب المشروع الوطني المُجْمع عليه يشكلان أساس الأزمة الوطنية التي تعمّقت ووضعت بلادنا على حافة الانهيار.

الفقرة الثانية: من أجل الوصول لاتفاق سلامٍ عادل وبناء ديمقراطية حقيقية تصون الحريات والحقوق الأساسية وتمكّن من التداول السلمي للسلطة خاصةً في وجه العدوان على الحقوق الأساسية الذي ينتهجه النظام، لابد من تصعيد وسائل المقاومة الشعبية السلمية حتى يتخلى النظام عن نهجه الشمولي ويتيح الفرصة للبديل الوطني.

الفقرة الثالثة: يؤكد الطرفان أن السودان بلدٌ متعدّدٌ سياسياً ومتنوع دينياً وثقافيا ولابد من التراضي على عقدٍ اجتماعي جديد لايسمح بالتمييز بين المواطنين على أساس الدين أو الثقافة أو العرق أو النوع أو الاقليم.

الفقرة الخامسة: يؤكد الطرفان أن النهج الانقلابي فاقم الأزمة الوطنية ولم يفلح في الوصول بالسودان للحل الوطني الشامل الدائم، وأن مبدأ المحاسبة على الفساد والجرائم التي ارتكبت أمرٌ مشروع وضروريٌ لمستقبل الحياة العامة ولا بد منه.

أما الفقرة الرابعة فقد حقّقت للحركة الشعبية ما جاءت إلى جنيف من أجله. فقد أكّد الطرفان فيها “أن حق تقرير المصير حق انساني مشروع وأن وحدة السودان يجب أن تقوم على إرادة أهله الطوعية، وقد أدان الطرفان محاولات النظام الأخيرة التنصّل عن حق تقرير المصير بعد أن التزم به في المبادرات والاتفاقيات السابقة.” وهكذا تأكّد للحركة أن المفاصلة داخل البيت الحاكم في السودان لن تؤثر على إنجازها السياسي والقانوني التاريخي، وأن الحزب السوداني الوليد قد انضم إلى ركب المعترفين بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وعليه لم يعد ذاك الوضع يستثني أي حزبٍ سياسيٍ شمالي.

6

هل كان الحزب الوليد – المؤتمر الشعبي – يأمل أن تغسل بحيرة جنيف من خلال مذكرة التفاهم الأعوام العشر الماضية من تاريخ قادته مثلما يأمل طغاة العالم الثالث أن تغسل البنوك السويسرية الأموال التي نهبوها من شعوبهم؟ قد يكون هذا هو المقابل الذي كان المؤتمر الشعبي يتوقعه أو يتمناه. ولكن يبدو أن الحركة الشعبية قد وعدت من فاوضتهم في جنيف بأكثر من هذا. فقد أشارت المادة الثامنة من مذكرة التفاهم إلى أن الحركة الشعبية “ترحب برغبة المؤتمر الوطني الشعبي في إجراء حوار بنّاء مع القوى السياسية الأخرى سعياً إلى أرضيّة مشتركة معها.” وهكذا قرّرت الحركة الشعبية أن تكون وسيطاً بين من كان ألدَّ أعدائها ومن لايزال أقرب أصدقائها، حتى قبل أن تجسّ نبض أصدقائها حول القادم الجديد وتحكي لهم قصة لقاء جنيف والتي لم يسمع أحدٌ منهم عنها شيئاً حتى تلك اللحظة. ترى هل هي عبثية المسرح السياسي السوداني أم ذكاء الحركة الشعبية أم الأثنان معاً؟

رغم أن موقف المؤتمر الشعبي في جنيف لم يختلف عن موقف المؤتمر الوطني في مسألة تقرير المصير لشعب جنوب السودان، إلاّ أن رد فعل الحكومة كان حاداً. فقد تمّ اعتقال بعض قادة الحزب، ووصف الدكتور غازي العتباني اتفاق جنيف بأنه “حلفٌ سياسي لمحاربة الدولة بوسائل غير مشروعة لأنه وُقِّع مع حركةٍ تقاتل الدولة والمجتمع منذ 18عاماً.” بعد عامٍ على هذا التصريح قاد الدكتور غازي وفد السودان التفاوضي مع الحركة الشعبية ووقّع على بروتوكول مشاكوس الذي هو أكثر خطورةً بلا شك من اتفاق جنيف.

7

قد ينظر البعض إلى اتفاق جنيف على أنه لم يؤخّر أو يقدّم في مفاوضات نيفاشا، أو يضيف إليها شيئاً. غير أن الاتفاق كان في الوقت الذي تمّ التوقيع عليه صمام الأمان وورقة تأمينٍ ثمينةٍ للحركة الشعبية. فقد كانت الحركة تخشى أن يعلن الحزب الجديد عدم التزامه بالاتفاقات التي منحت الجنوب حق تقرير المصير رغم أن عدداً من قادته وقّعوا عليها أو شاركوا فيها (الدكتور علي الحاج الذي وقّع على إعلان فرانكفورت، السيد محمد الأمين خليفة الذي لعب دوراً كبيراً في مبادرة السلام من الداخل، والدكتور حسن الترابي الذي أعدّ دستور عام 1998 مُتضمّناً حق تقرير المصير).

حملت الحركة كل اتفاقياتها مع الحكومة والأحزاب الشمالية، بما في ذلك اتفاق جنيف، معها إلى مفاوضات مشاكوس ونيفاشا في عام 2002،. وعندما رفض الوفد السوداني في بداية الأمر مسألة تقرير المصير كما كان متوقعا، ذكّره الوسطاء الأوربيون والأمريكيون والأفارقة بكل الاتفاقيات التي تضمّنت مبدأ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وحذّروا الوفد أنه لايمكن النكوص عن تلك الالتزامات. من المؤكد أن اتفاق جنيف كان أحد تلك الاتفاقات التي كانت في حقائب الوسطاء وحقائب الحركة الشعبية.

سوف يكون المقال القادم بعنوان “شماليو الحركة الشعبية ومسؤولية انفصال جنوب السودان” وسوف نختتم هذه السلسلة من المقالات بنظرةٍ متكاملة حول “القوى السياسية الشمالية ومسؤولية انفصال جنوب السودان

 

شماليو الحركة الشعبية ومسؤولية انفصال جنوب السودان (7 – 9)

د. سلمان محمد أحمد سلمان

1

زار السيد سلفا كير الولايات المتحدة الأمريكية في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر عام 2005. كانت تلك أول رحلةٍ له خارج السودان بعد أن تمّ اختياره لخلافة الدكتور جون قرنق إثر مقتل الأخير في 30 يوليو عام 2005. التقى السيد سلفا كير عصر يوم الأحد 6 نوفمبر عام 2005 بعددٍ كبيرٍ من السودانيين الجنوبيين والشماليين في قاعة الاجتماعات الكبرى بالجامعة الأمريكية بواشنطن. كان يرتدي قبعةً أنيقةً كبيرةً سوداء وبدا هادئاً وواثقاً من نفسه. حيا الجمع الكبير من الحضور الذي ملأ القاعة، وتحدّث باللغة الانجليزية بصورةٍ مرتّبة وبصوتٍ جهور. كان ذلك أول لقاءٍ جماهيريٍ له منذ توليه السلطة قبل ثلاثة أشهر.

قال إنه التقى الرئيس الامريكي جورج بوش قبل يومين، وقد أهداه القبعة السوداء التي كان يرتديها، وأن الرئيس بوش قال له في بداية اللقاء أنه (أي سلفا كير) يحمل عدّة القاب، وسأله عن اللقب الذي يود أن يُخاطب به: “هل تريدني أن أشير اليك بلقب النائب الأول لرئيس جمهورية السودان، أم رئيس حكومة جنوب السودان، أم رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان؟” صمت السيد سلفا كير لعدة ثواني (كأنه أراد من الحاضرين أن يفكّروا في الأجابة قبل أن يدلي هو بها) ثم أردف قائلاُ “لقد طلبت من الرئيس بوش أن يناديني بلقب رئيس حكومة جنوب السودان، فتلك هي الوظيفة وذلك هو اللقب الذي أفضّله.” لا بدّ أن تلك الإجابة قد أسعدت عدداً كبيراً من الجنوبيين الذين قرروا أن الانفصال سيكون خيارهم في نهاية الفترة الانتقالية. لكن الشماليين الذين أتوا ليسمعوا حديثاً عن السودان الجديد والوحدة الجاذبة (وقد كنت واحداً منهم) أحسوا بإحباطٍ شديد وهيأوا أنفسهم لمزيدٍ من مثل تلك الإفادات.

تحدث السيد سلفا كير عن اتفاقية السلام الشامل والبروتوكولات التي تضمّنتها، وأمضى بعد ذلك جلَّ الوقت يعدّد الخلافات التي تفجّرت بين الحركة الشعبية وحزب المؤتمر الوطني منذ بداية الفترة الانتقالية في يوليو عام 2005. شدّد على أن رفض المؤتمر الوطني لقرار خبراء مفوضيّة حدود ابيي والذي تمّ تقديمه لرئاسة الجمهورية (رئيس الجمهورية ونائبيه) في 14 يوليو عام 2005 هو أول خرقٍ لاتفاقية السلام، وأكّد أن الحركة تعتبر ذلك بدايةً سيئة للفترة الانتقالية. تعرّض بالشرح لبروتوكول أبيي وأوضح لماذا تصرّ الحركة على ترسيم منطقة أبيي حسب قرار الخبراء. تحدّث بعد ذلك عن الخلافات حول توزيع حقائب الوزارة بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وأوضح أن رفض المؤتمر الوطني تخصيص وزارة المالية أو وزارة النفط للحركة يعني ببساطة أن المؤتمر يريد أن يُخفي الأرقام الحقيقية لعائدات النفط ويواصل سيطرته على بترول الجنوب وخداعه للحركة الشعبية ومواطني جنوب السودان.

السؤال الأول للسيد سلفا كير وجّهه شابٌ جنوبيٌ كان الغضب بادياً من صوته وحركات يديه. سأل ذاك الشاب: لماذا قبلت الحركة الشعبية التنازل عن نصف عائد بترول الجنوب للشمال في الوقت الذي يحتاج فيه الجنوب لكل دولارٍ لبناء مدارسه ومستشفياته وطرقه ومنازله التي دمّرها الشمال بلا رحمة خلال الحرب؟ أجابه السيد سلفا كير بهدوء “لقد كانت تلك صففة مع حزب المؤتمر الوطني. إنها صفقة النفط مقابل حق تقرير المصير. لقد اشترينا حق تقرير المصير بنصف نفطنا لمدة ستة أعوام. إذا كنتَ تريد أن يذهب كل عائد نفط الجنوب للجنوب فعليك أن تعود إلى جوبا غدًا وتبدأ العمل ليقود استفتاء تقرير المصير إلى الاستقلال. سيعطينا الاستقلال كلَّ نفطنا.”

حبس الشماليون الذين بقوا في القاعة حتى تلك اللحظة أنفاسهم وابتدأوا في تهيئة أنفسهم لمزيدٍ من القنابل الحارقة. أتت الطعنة الثالثة من خلال سؤالٍ عن الحدود بين الشمال والجنوب ومتى سوف يبدأ ترسيمها. أجاب السيد سلفا كير بأن الشمال ظلّ يزحف بحدوده جنوباً منذ عام 1955 وأنّه ضمّ عشرات الآلاف من الكيلومترات من أراضي الجنوب للشمال، وأضاف في سخريةٍ جارحة “إذا استمر هذا الوضع لعشر سنواتٍ أخرى فستكون الحدود بين الشمال والجنوب هي حدود السودان مع كينيا ويوغندا الآن.”

2

عند مغادرتي قاعة المحاضرة توقّفت وسألت أحد الأصدقاء من شماليي الحركة الشعبية إن كان قطاع الشمال لا يزال يعتقد أن الحركة الشعبية تؤمن وتعمل من أجل السودان الجديد الموحّد؟ أجابني بأن مقتل الدكتور جون قرنق قد أضعف الجناح الوحدوي داخل الحركة لكن هذا لا يعني نهاية شعار السودان الجديد. سألته عن قراءته لإفادات السيد سلفا كير: عن تقضيله للقب رئيس حكومة جنوب السودان ولإجابته لسؤالي النفط والحدود. أجابني بأنه ردّ فعلٍ طبيعي لتصرفات المؤتمر الوطني التي تهدّد وحدة البلاد، وليست موجهة ضد شعار السودان الجديد الموحّد.

بالنسبة لي ولمجموعة أخرى من الشماليين فإن ذلك اللقاء قد بدّد أي شكٍ في توجّه الحركة الشعبية نحو الانفصال. لم يكن السيد سلفا كير يحتاج أن يكون أكثر وضوحاً أو أقل دبلوماسيةً ليكشف للحاضرين، شماليين وجنوبيين، عما يدور في ذهن قادة الحركة الشعبية. أصبح الحديث عن السودان الجديد والوحدة الجاذبة بعد تلك الإفادات نكراناً لا معنى له.

يحاول شماليو الحركة أن يعزوا التغيير في موقف الحركة من الوحدة إلى التوجّه نحو الانفصال إلى مفاوضات السلام ومقتل الدكتور جون قرنق. فقد كتب الدكتور الواثق كمير في هذا السياق “أن الممارسة السياسية الفعلية للحركة بعد التوقيع على اتفاقية السلام الشامل، خاصة بعد رحيل زعيمها التاريخي في أواخر يوليو 2005، حملت العديد من المؤشرات الدالة على تراجُع الحركة عن مشروعها الذي ظلت تبشّر به لأكثر من عقدين من الزمان، بل وتخليها عن النضال من أجل هدفها الرئيس لتحقيق وحدة البلاد على أسُسٍ جديدة، وتفضيلها للانفصال وإقامة دولة الجنوب المستقلة.” بينما يرى آخرون أن الحركة ظلت وحدوية حتى مقتل دكتور قرنق، وأن التراجع عن الوحدة بدأ فقط بعد ذلك التاريخ.

لكن القراءة المتأنّية لتاريخ الحركة الشعبية توضّح بجلاء أن التراجع عن خط الوحدة بدأ في حقيقة الأمر في عام 1991 إثر سقوط أديس أبابا في يد قوات الجبهة الديمقراطية الثورية في شهر مايو من ذاك العام، وانهيار نظام منقستو هايلي مريم وفراره إلى زمبابوي. وقد تمّت ترجمة ذلك التراجع عن الوحدة في مقررات مؤتمر توريت الذي عُقِد في سبتمبر عام 1991، أي بعد أربعة أشهرٍ فقط من سقوط نظام منقستو.  

3

صدر مانيفستو الحركة الشعبية في شهر يوليو عام 1983، أي بعد شهرين من إنشاء الحركة الشعبية في مايو عام 1983. وركّز المانيفستو على أن المشكلة التي تواجه السودان وطنية وليست مشكلة جنوب السودان، وأن الحل يكمن في السودان الجديد المُوحّد. وتُشير الفقرة الثالثة من المانيفستو والتي تتحدّث عن الوحدة الطوعيّة إلى أن السودان الجديد ينبني على أرضيةٍ سياسية واجتماعية واقتصادية مشتركة مؤسّسةٍ على مبدأ المواطنة الذي يساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات. وتدعوالمادة نفسها إلى نبذ السودان القديم القائم على التفرقة العنصرية والدينية وقصر النظر التاريخي، وإلى فصل الدين عن الدولة واحترام المبادئ التي تدعو إليها المواثيق الدولية لحقوق الانسان.

وقد أنشأت الحركة الشعبية منذ قيامها في مايو عام 1983 تحالفاً وطيداً مع نظام منقستو هايلي مريم، وأصبحت أديس أبابا مصدراً رئيسياً للعون العسكري والمادّي للحركة، وصارت أراضي اثيوبيا المتاخمة للحدود مع ولاية أعالي النيل في جنوب السودان ميداناً للتدريب والاجتماعات للحركة الشعبية ومعسكراً للاجئين. ولا شكّ أن التأييد العسكري والمادّي والسياسي الكبير الذي قدّمه السودان للثوار الاريتريين منذ الستينيات هو السبب الرئيسي لاحتضان اثيوبيا للحركة الشعبية، فهذه فرصة السيد منقستو هايلي مريم  ليرد الصاع صاعين للسودان. قد يكون السبب الآخر هو التقارب في الفكر السياسي بين النظام الاثيوبي والحركة الشعبية.

لهذه الأسباب يعتقد الكثيرون أن شعار السودان الجديد المُوحّد فرضته وأملته العلاقة مع نظام منقستو. إذ لايعقل أن تتوقع الحركة الشعبية عوناً متكاملاً من اثيوبيا التي كانت تحارب الحركات الاريترية المنادية بالانفصال إذا كانت الحركة نفسها تطالب بالانفصال أو حتى حقّ تقرير المصير.

نتج عن سقوط نظام منقستو هايلي مريم في مايو عام 1991 دويٌّ هائلٌ داخل الحركة الشعبية. فجأةً توقفت الإمدادات العسكرية والمادية، وكان على الحركة إغلاق معسكرات التدريب الواقعة داخل اثيوبيا والبحث عن حلفاء جدد لن تتوفر في أيٍ منهم الميزات الاثيوبية.

يجد اعتقاد أن شعار السودان المُوحّد فرضته العلاقة مع نظام منقستو تعضيداً قويّاً من نتائج الاجتماع الذي دعت له الحركة الشعبية لمكتبها السياسي في 6 سبتمبر عام 1991. كان الغرض الرئيسي من ذلك الاجتماع بحث الوضع الجديد الناتج عن سقوط منقستو ووقف النظام الجديد في أديس أبابا لكافة أنواع العون العسكري والمادّي للحركة الشعبية وأوامره لها بمغادرة الأراضي الاثيوبية. من الجانب الآخر تمرّد فريقٌ من الحركة الشعبية وأعلن الانقلاب على الدكتور قرنق في أغسطس عام 1991. ورغم فشل الانقلاب فقد نتج عن هذا التمرد بروز فصيل الناصر (أو الفصيل المتّحد) بقيادة الدكتور لام أكول والدكتور رياك مشار. وقد تبنّى هذا الفصيل شعاراتٍ عدّة منها تقرير المصير والانفصال في مواجهة شعار السودان الجديد الموحّد الذي كان يدعو له مانيفستو الحركة الشعبية الأم.

4

في السادس من شهر سبتمبر عام 1991، أي بعد أقل من أسبوعين من الانقسام وأربعة أشهر من سقوط نظام منقستو، التأم اجتماع المكتب السياسي للحركة الشعبية بمدينة توريت التي كانت تحت سيطرتها. وأصدرت الحركة عدّة قرارات أهمها القرار رقم (3) الذي نصّت الفقرة الثانية منه على الآتي:

“النظام المركزي للحكم في السودان والذي يستند على دعائم العروبة والإسلام مع إتاحة الحق بإقامة نظمٍ لحكمٍ محليٍ ذاتي أو دولٍ فيدرالية في الجنوب (أو أي أقاليم أخرى) تمّت تجربته ولكنه فشل فشلاً ذريعاً، لذلك تأرجح السودان بين الحرب والسلام منذ الاستقلال، وأخذت الحرب 25 من 36 عاماً من هذه الفترة. في أية مبادرةٍ للسلام مستقبلاً سيكون موقف الحركة الشعبية من نظام الحكم هو وقف الحرب باعتماد نظامٍ موحّدٍ وعلمانيٍ وديمقراطي، أو نظامٍ كونفيدرالي أو تجمعٍ لدولٍ ذات سيادة أو تقرير المصير.”

وهكذا بين ليلةٍ وضحاها انتقلت الحركة الشعبية لتحرير السودان من شعار السودان الجديد الموحّد إلى المطالبة بنظامٍ كونفيدرالي أو تجمعٍ لدولٍ ذات سيادة أو تقرير المصير. كان هذا هو أول شرخٍ لمبدأ السودان الجديد ابن الثمانية أعوام، وهو دون أدنى شكٍّ شرخٌ كبير.

5

لم يجد هذا القرار التفكير المتأنّي من شماليي الحركة كما كان يجب أن يحدث. لم يتوقفوا عنده ويسألوا أنفسهم عن أسبابه ومدلولاته وكيف يمكن النظر إليه في ضوء مبدأ السودان الجديد والذي كان الركيزة الأساسية لمانيفستو الحركة. فحركات التحرير لا تطالب بحقِّ تقرير المصير من أجل إرضاء طموحاتٍ نظرية، أو لغرضٍ أكاديمي. إنها تطالب بحقِّ تقرير المصير من أجل أن يقودها إلى غايتها النهائية وهي الانفصال.

السبب الرئيسي في اعتقادي أنه كان هناك نكرانٌ من جانب شماليي الحركة لهذا التطور الخطير، لهذا السبب لم يقم قطاع الشمال في الحركة بنقاش هذا التطور أو حتى التحدّث عنه. فضّل القطاع التشبّث بالفقرات الرنّانة من المانيفستو التي تتحدّث عن السودان الجديد الموحّد.

ضِفْ إلى هذا أن قيادة الحركة الشعبية نفسها لم تكن مرتاحةً في السنوات الأولى لإثارة مسألة تقرير المصير مع حلفائها الشماليين. فقد عقد التجمّع الوطني الديمقراطي اجتماعاً موسّعاً لقياداته في نيروبي يوم السبت 17 أبريل عام 1993. وقد حضر الاجتماع ممثلون للحركة الشعبية وحزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي والحزب الشيوعي السوداني والاتحاد السوداني للأحزاب الأفريقية والمؤتمر السوداني الأفريقي والقيادة الشرعية للقوات المسلحة. تحدث الدكتور جون قرنق في بداية الاجتماع بإسهابٍ مؤكداً التزام الحركة الشعبية بوحدة السودان والتي يجب أن تُبْنى على الديمقراطية والتعددية الدينية والعرقية والثقافية، والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الانسان، والتي هي، كما ذكر، تُمثِّل مقوّمات السودان الجديد. كما أكّد التزام الحركة الشعبية بميثاق وبرنامج العمل للتجمع الوطني الديمقراطي رغم دخولها في مفاوضات أبوجا. كما ناشد دكتور قرنق المجتمعين بضرورة مناقشة القضايا المطروحة بأمانةٍ وصدق تأخذ في الاعتبار المنعطف التاريخي الحَرِج الذي يمر به السودان والمأساة الكبيرة التي يعاني منها شعبه نتيجة الحرب التي قامت الجبهة القومية الاسلامية بتصعيدها.

رغم مطالبة الدكتور جون قرنق المجتمعين بالأمانة والصدق في مناقشة القضايا المطروحة، إلاّ أن دكتور قرنق لم يتطرق في خطابه الذي استغرقت قراءته ومناقشته جلَّ يوم الاجتماع إلى قرار المكتب السياسي للحركة الشعبية تبنِّي مبدأ تقرير المصير قبل عامٍ ونصف من اجتماع نيروبي. على العكس، فقد ركّز دكتور قرنق على وحدة السودان. لم يتجرأ أحدٌ من قادة التجمع بسؤاله عن قرارات مؤتمر توريت وتبنّي تقرير المصير. وبالطبع لم يُثِرْ أيٌ من شماليي الحركة المسألة. وهكذا صدر إعلان نيروبي الذي غطى صفحتين كاملتين مُركّزاً فقط على وحدة السودان.

6

كانت إحدى تداعيات إعلان فرانكفورت لعام 1992 والذي اشتمل على مبدأ تقرير المصير هو تبنّي نفس المبدأ في مبادرة الايقاد عام 1994. وقد اعتمدت الحركة الشعبية على إعلان الايقاد عندما شرعت في مفاوضاتها المكثّفة مع الأحزاب الشمالية لانتزاع حق تقرير المصير، وشملت كل الاتفاقيات التي تمّ توقيعها مع أحزاب المعارضة الشمالية حق تقرير المصير. كانت تلك الاتفاقيات مع الحزب الاتحادي الديمقراطي (اتفاقية القاهرة 13 يوليو 1994)، حزب الأمة (اتفاقية شقدوم 12 ديسمبر 1994)، حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي وقوات التحالف السودانية (اتفاق قوى المعارضة السودانية الرئيسية 27 ديسمبر 1994)، وكل أحزاب التجمع الديمقراطي (مؤتمر القضايا المصيرية – إعلان أسمرا 23 يونيو 1995). لم تُشِر الحركة الشعبية في أيٍ من هذه الوثائق إلى مقررات مؤتمر توريت الذي انطلقت منه شرارة حق تقرير المصير التي أدّت إلى انفصال جنوب السودان ولكنها أشارت باستمرار إلى مبادئ مبادرة الايقاد.

لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الحركة الشعبية كانت قد عقدت مؤتمرها القومي الأول في مدينة شقدوم بجنوب السودان في أبريل عام 1994، بعد عامين ونصف من اجتماع المكتب السياسي في توريت في سبتمبر عام 1991. وقد اتّخذ المؤتمر عدّة قرارات هامة، وأقرّ عدّة تعديلاتٍ وإضافاتٍ إلى مانيفستو الحركة أهمّها الفقرة الثانية التي تقرأ “تلتزم الحركة الشعبية بالنضال بتحقيق حق تقرير المصير في السودان الجديد للشعوب المضطهدة، وذلك بعد تقويض النظام القائم.” تتميز هذه الفقرة بارتباكٍ وتناقضٍ حادين. فما الحاجة إلى تقرير المصير إذا كان النظام القائم قد سقط وحلّ محله السودان الجديد؟

أقرّ المؤتمر أيضاً مبدأ قيام نظامين كونفيدراليين بين الشمال والجنوب خلال الفترة الانتقالية، وأن تكون مدة هذه الفترة الانتقالية عامين يُجرى بعدها استفتاء تقرير المصير في الجنوب. ويثير هذا القرار السؤال عن كيف يمكن مواصلة الحديث عن السودان الجديد المُوحّد في ظل نظامٍ كونفيدراليٍ انتقالي يعقبه استفتاء تقرير المصير؟

لم يفشل شماليو الحركة في إثارة ومناقشة قرارات مؤتمري توريت وشقدوم الخاصة بحق تقرير المصير والكونفيدرالية فقط، بل فشلوا أيضاً في التساؤل عن الأسباب التي دعت الحركة إلى بذل ذاك الجهد الخارق في انتزاع حق تقرير المصير من أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي، بدلاً من التركيز على السودان الجديد المُوحّد. كذلك تغاضى شماليو الحركة عن التناقض الحاد في قرارات مؤتمر شقدوم، واشتمال القرارات على النظام الكونفيدرالي خلال الفترة الانتقالية قبل إجراء الاستفتاء. وتغاضوا أيضاً عن بروتوكول مشاكوس الذي تمّ التوقيع عليه في 20 يوليو عام 2002، والذي تضمّن ليس فقط حق تقرير المصير لجنوب السودان، بل نصّ أيضاً على تطبيق الشريعة الاسلامية في الشمال، مُسجِّلاً بذلك طعنةً نجلاء لشعار السودان الجديد. لقد رسّخ بروتوكول ماشاكوس وأطّر اتفاق “الشريعة في الشمال مقابل حق تقرير المصير في الجنوب” فماذا تبقّى من السودان الجديد العلماني الموحّد بعد مشاكوس؟

لا بُدّ من التذكير أيضاً أن الحركة الشعبية حصلت على 28% من المناصب التنفيذية والتشريعية في الحكومة المركزية في الخرطوم بمقتضى اتفاقية السلام الشامل لعام 2005. لكن كان كل ما ناله شماليو الحركة من المواقع التنفيذية هي وزير دولة  في وزارة خدمية، ومستشار بلا أعباء وسط جيشٍ من المستشارين بالقصر الجمهوري. ألم تكن تلك رسالةً واضحة لشماليي الحركة؟ (يجب التنويه هنا إلى أن قطاع الشمال من الحركة الشعبية لم يكن يشمل ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق ومنطقة ابيي).

كم من الوقت قضى النائب الأول السيد سلفا كير في الخرطوم خلال الأعوام الستة للفترة الانتقالية؟ وكم من الولايات والمدن في الشمال زارها السيد سلفا كير خلال تلك الفترة؟ إنه لم يزُرْ حتى دارفور التي كانت تعيش حرباً مثل الجنوب، ولم يُشرِّف أية مناسبةٍ قومية في الخرطوم. 

7

نخلص من هذا العرض الموجز إلى أن شعار السودان الجديد المُوحّد فرضته ضرورة الاعتماد على النظام الاثيوبي الذي لم يكن ليتعامل مع الحركة الشعبية ويقدّم لها كل ذلك العون العسكري والمادّي المهول إن رفعت شعار الانفصال أو حتى تقرير المصير. كما نخلص أيضاً إلى أن توجّه الحركة نحو الانفصال لم يبدأ بمفاوضات السلام أو بمقتل دكتور جون قرنق، وإنما جاء كنتيجةٍ طبيعيةٍ وحتميةٍ لسقوط نظام منقستو هايلي مريم في عام 1991. يعضّد هذا الادعاء تبنّي الحركة مبدأ تقرير المصير، بعد أربعة أشهرٍ فقط من سقوط نظام منقستو، في مؤتمر توريت والذي أكّدت توجّهاته قراراتُ مؤتمر شقدوم، بل وزادت عليه بالنظام الكونفيدرالي.

تجاهل شماليو الحركة الشعبية هذه التطورات وعاشوا في حالة نكرانٍ تامٍ لها، بل ظلوا يواصلون دفاعهم المستميت عن شعار الحركة الخاص بالسودان الجديد الموحّد حتى بعد أن صدرت قرارات مؤتمر توريت ومؤتمر شقدوم، وحتى بعد توقيع الحركة لعددٍ من الاتفاقيات تتضمّن حق تقرير المصير، وكذلك بروتوكول مشاكوس، وبعد أن استمعوا للسيد سلفا كير في أول خطابٍ له للسودانيين والعالم بعد ثلاثة أشهرٍ فقط من مقتل دكتور قرنق وتوليه قيادة الحركة الشعبية. كان ذلك الخطاب في رأيي إعلاناً واضحاً لبرنامج وأسبقيات الحركة الشعبية خلال الفترة الانتقالية، وقد كان دون أدنى شكٍ المسمار الأخير في نعش السودان الجديد.

ولقد تواصل هذا النكران خلال سنوات الفترة الانتقالية وحتى قبل أسابيع قليلة من الاستفتاء الذي صوّت فيه قرابة 99% من شعب جنوب السودان للانفصال. أليست نتيجة الاستفتاء هذه دليلاً قاطعاً على أن شماليي الحركة فشلوا أن يعتقوا أنفسهم من أوهام الثمانينيات عند ما كان السودان الجديد الموحّد هو نقطة الارتكاز الأساسية والوحيدة لمانيفستو الحركة الشعبية، وقرّروا ألا يروا أيَّ طرفٍ من المتغيرات التي طرأت على برنامج وأسبقيات الحركة الشعبية منذ عام 1991؟.

8

نختتم هذا المقال بسؤالٍ قد لا تكون الإجابة عليه سهلةً: هل كان الدكتور جون قرنق حقاً وحدوياً؟ سوف استعير إجابة الدكتور الواثق كمير، فقد قال: “في رأيي أن د. جون قرنق، من واقع معرفتي اللصيقة به، كان يسعى للوحدة وكأنه يعيش أبداً، بينما يعمل للانفصال وكأنه يموت غداً!” في حقيقة الأمر فقد قُتل الدكتور جون قرنق قبل الغد.

مقالنا الثامن في هذه السلسلة من المقالات سيكون عن “التدخّل الاقليمي والدولي ومسؤولية انفصال جنوب السودان.” وسيكون المقال التاسع والأخير خاتمة بعنوان “القوى السياسية الشمالية ومسؤولية انفصال جنوب السودان.”

 

التدخّل الاقليمي والدولي ومسؤولية انفصال جنوب السودان (8 – 9)

د. سلمان محمد أحمد سلمان

1

كنتُ قد قرّرتُ أن تتكوّن هذه السلسلة من ثماني مقالات تنتهي اليوم بالخاتمة بعنوان “القوى السياسية الشمالية ومسؤولية انفصال جنوب السودان.” غيرّ أن مجموعة من القراء والأصدقاء على رأسهم الصحفي المخضرم الأستاذ محمد علي صالح والصحفي الحصيف الأستاذ صلاح شعيب رأيا ضرورة كتابة مقالٍ منفصلٍ عن تدخل دول الجوار والدول العظمى ودورهم في انفصال جنوب السودان. بل ذهب الأمر بالأستاذ محمد علي أن كتب لي رسالةً مطوّلة أوضح فيها الأسباب التي يعتقد أنها تستلزم كتابة هذا المقال. عليه فقد قبلت شاكراً هذا المقترح وقررت إضافة هذا المقال. وسوف نختتم هذه السلسلة بالمقال القادم والذي سيكون التاسع والأخير.

2

لا بدّ في البداية من تأكيد بعض الحقائق الأساسية التي تتعلق بتدخّل بعض الدول في شؤون الدول الأخرى:

أولاً: إن الدول سواءٌ كانت دولاً عظمى أو دول عالمٍ ثالث تتدخّل في مشاكل الدول الأخرى عند ما تفشل هذه الدول في حلِّ مشاكلها تلك، وتسمح لهذه المشاكل وهذا الفشل بالتسرّب عبر حدودها. فعندما ننظر من حولنا لا نجد أن الايقاد قد تدخّلت في شؤون أية دولةٍ من دول الايقاد السبع الأخرى (الصومال، اريتريا، اثيوبيا، جيبوتي، كينيا، يوغندا وجنوب السودان) لسببٍ بسيط هو أن هذه الدول لم تسمح لمشاكلها بالتعقيد وعبور الحدود حتى تضطر الدول الأخرى للتدخّل، أو تدعوها هي نفسها لذلك. أما في حالة السودان فإن مشكلة الجنوب  كانت قد صارت مشكلةً مزمنة، وصار النزاع أطول نزاعٍ مسلّحٍ في أفريقيا، وتسرّب إلى دول الجوار، وقام السودان بدعوة هذه الدول للمساهمة في حل النزاع.

ثانياً: نتج عن مشكلة جنوب السودان مشاكل لعددٍ من دول الجوار. فقد نزح عددٌ كبيرٌمن السودانيين الجنوبيين إلى كينيا ويوغندا والكونغو الديمقراطية وتنزانيا، وأضافوا مشاكل اقتصادية وسياسية وأمنية واجتماعية لهذه الدول. وهذا بالطبع أعطى هذه الدول الحقّ في التدخل في شؤون السودان بسبب أن مشاكل لاجئيه أصبحت إضافةً جديدةً لمشاكلهم.

ثالثاً: تصبح مشكلة المدنيين في مناطق الحرب في كثيرٍ من الأحيان مشكلةً انسانيةً دولية. فالحرب الدائرة تؤثّر بالضرورة على المدنيين العزّل، وتضطرّهم أن يهربوا ويصبحوا لاجئين في دول الجوار والتي تجد صعوبةً في توفير الأساسيات لمواطنيها، دعك من لاجئين يزداد عددهم كل يوم. وهنا يتدخّل المجتمع الدولي والقوى العظمى، فتوفّر هذه القوى بعض الاحتياجات الأساسية لهؤلاء اللاجئين من طعامٍ وماءٍ ومأوى وعلاج. وتُقرّر هذه الدول أن هذا العون يعطيها الحق في التدخل في شؤون الدول التي خلقت ظروفها الداخلية هذا الوضع الانساني الكارثي. فإذا كانت القوى العظمى تصرف سنوياً ما يقرب من ثلاثة مليار دولار لإطعام وإيواء وأمن لاجئي دارفور، أفلا يعطي هذا الوضع هذه القوى حق التدخل في مشكلة دارفور؟

رابعاً: لم تعد حقوق الانسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والمدنية شأناً داخلياً للدولة منذ أن صدر الإعلان الدولي لحقوق الانسان عام 1948. وقد تمّت ترجمة ذاك الإعلان عام 1976 إلى معاهدتين دوليتين هما العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وفد فصّلت هاتان الوثيقتان معايير لهذه الحقوق قبلتها تقريباً كل دول العالم، وتمّ إنشاء عدّة هيئات دولية لمتابعة تنفيذ هذين العهدين ومناقشة التقارير الدورية التي التزمت هذه الدول بتقديمها عن وضع حقوق الانسان فيها. وتطوّر الأمر إلى إنشاء مجلس حقوق الانسان بصلاحيات واسعة، وكذلك المحكمة الجنائية الدولية التي تمتد صلاحياتها إلى رؤساء الدول، وتشمل جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية. عليه فإن مسائل حقوق الانسان لم تعد أمراً داخلياً للدولة، بل أصبحت همّاً دولياً وصارت هناك تبِعاتٌ حادة للخروقات، خصوصاً إذا تداخلت هذه الخروقات مع النزاعات المسلّحة وحقوق الأقلّيات. 

خامساً: ينتج التدخل الدولي في النزاعات الداخلية في حالات كثيرة من طلب الدولة نفسها لهذا التدخل، بصورةً أو أخرى، أو بالترحيب بالتدخل عندما تعرضه دولةٌ أو مجموعة دولٍ. ويبدأ هذا التدخل في شكل طلب وساطة دول الجوار أو الدول الكبرى للمساعدة في حلّ النزاع، ثم يتعقّد ويأخذ أشكالاً أخرى من بينها الضغوط السياسية والاقتصادية بهدف إرغام الدولة على قبول نتائج الوساطة التي طلبتها هي في المقام الأول.

وهذا هو بالضبط ما حدث في حالة السودان كما سنناقش في الأجزاء التالية من هذا المقال.

3

بدأت حكوماتُ السودان المتعاقبة الاستعانةَ بدول الجوار والمنظّمات الاقليمية والدولية للوصول إلى اتفاقٍ مع الحركات المسلحة والأحزاب الجنوبية منذ عام 1965. فبعد أسابيع قلائل من انتصار ثورة أكتوبر إقترح السيد ويليام دينق في رسالةٍ بعث بها إلى السيد سر الختم الخليفة رئيس وزراء الحكومة الانتقالية عقد مؤتمر مائدة مستديرة لمناقشة مشكلة جنوب السودان. رحّبت الحكومة بالمقترح وبدأ النقاش بين الطرفين في التفاصيل. أصرّت الأحزاب الجنوبية على أن يُعقد المؤتمر خارج السودان وأن يحضره مراقبون دوليون. رأت الحكومة عقد المؤتمر بالخرطوم مُشيرةً إلى التغييرات السياسية الإيجابية في البلاد، ورفضت حضور مراقبين على أساس أن هذا مؤتمرٌ سودانيٌ بحت. بعد نقاشٍ ومكاتباتٍ مطوّلة تراجعت الحكومة عن رفض حضور المراقبين مقابل موافقة الأحزاب الجنوبية عقد المؤتمر في الخرطوم. وهكذا توصّل الطرفان إلى هذا الحل الوسط، وتمّت دعوة كلٍ من كينيا ويوغندا وتنزانيا ونيجيريا ومصر وغانا والجزائر لإرسال مراقبين إلى مؤتمر المائدة المستديرة. وقد حضر المراقبون من هذه البلدان، وتفاوت مستوى تمثيلهم بين وزراء وسفراء. وكان ذلك بالطبع انعكاساً لمدى الأهمية التي أولتها كلٌ من هذه الدول لذلك المؤتمر ولمشكلة النزاع السوداني. 

4

وهكذا انفتح باب استعانة السودان بالدول الأخرى لحل مشكلة الجنوب، وبدأت هذه الاستعانة بطلبٍ من الحكومة نفسها. عليه لم تكن هناك صعوبة أن تنعقد المفاوضات بين حكومة السيد جعفر نميري وحركة تحرير جنوب السودان بقيادة السيد جوزيف لاقو في أديس أبابا في فبراير عام 1972، وسُميت الاتفاقية التي وقّعها الطرفان في مارس من ذاك العام “اتفاقية أديس أبابا.” وقد وقّع على اتفاقية أديس أبابا (بجانب الحكومة وحركة تحرير جنوب السودان) ممثلون لامبراطور اثيوبيا، ومجلس الكنائس العالمي ومجلس الكنائس الأفريقي ومجلس الكنائس السوداني. وهكذا امتد دور دول الجوار من مراقبين إلى شهودٍ على الاتفاقية، ودخلت الكنيسة العالمية والأفريقية حلبة النزاع السوداني بموافقة، إن لم نقل بدعوة، الحكومة السودانية.

بدأ الدور الاثيوبي ينمو ويتعاظم بعد انهيار اتفاقية أديس أبابا وقيام الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1983.فقد أنشأت الحركة الشعبية منذ قيامها في مايو من ذاك العام تحالفاً وطيداً مع نظام منقستو هايلي مريم، وأصبحت أديس أبابا مصدراً رئيسياً للعون العسكري والمادي للحركة، وصارت أراضي اثيوبيا المتاخمة للحدود مع ولاية أعالي النيل في جنوب السودان ميداناً للتدريب والاجتماعات للحركة الشعبية ومعسكراتٍ للاجئين.

ولكن علينا أن نتذكر أن ذاك العون الاثيوبي المهول للحركة الشعبية كان محاولةً من الحكومة الاثيوبية لرد الصاع صاعين للسودان. فالسودان كان منذ قيام الثورة الاريترية في ستينيات القرن الماضي هو المصدر الأول للعون العسكري والمادي والسياسي والمعنوي للثوار الاريتريين. وقد أصبح السودان البلد الثاني للاريتريين بعد موطنهم الأصلي. الملاحظ أن كل المثقفين والسياسيين والشعب السوداني كانوا يرون أنهم بوقوفهم مع الثورة الاريترية إنما يقفون مع الحق والإنصاف، وضد الظلم والقمع، وهذا بالطبع موقفٌ صحيحٌ وسليم وتقدّمي. ولكن الغريب في الأمر أن معظم، إن لم نقل كل هؤلاء، المثقفين والسياسيين كانوا يرون أن ما يحدث في جنوب السودان هو تمرّدٌ على القانون والنظام، تغذّيه وتموله الصهيونية والامبريالية العالمية. قليلون جداً الذين رأوا في الأثنين معاً ثورتين متشابهتين ضد الظلم والقمع والإقصاء والاستعلاء.

بعد سقوط نظام نميري في السودان التقى مندوبون للأحزاب والتنظيمات السودانية التي قادت انتفاضة أبريل مع قيادات الحركة الشعبية. تمّ هذا اللقاء في كوكا دام في اثيوبيا وسُميّ الإعلان الذي صدر في 24 مارس عام 1986 بـ “إعلان كوكا دام.” تبع هذا اللقاء ورشة عمل شارك فيها مجموعة من المثقفين الشماليين وعددٌ من مثقفي وقادة الحركة الشعبية، وعُقدت هذه الورشة في شهر فبراير عام 1989 في مدينة أمبو الاثيوبية أيضاً. وكان رئيس الوزراء السيد الصادق المهدي قد التقى رئيس الحركة الشعبية الدكتور جون قرنق في أديس أبابا أيضاً في 30 يونيوعام 1988. ثم التقى السيد محمد عثمان الميرغني مع الدكتور قرنق ووقعا على مبادرة السلام السودانية في أديس أبابا في 16 نوفمبر عام 1988. وهكذا أصبحت اثيوبيا هي نقطة اللقاء والتفاوض بين الشمال، حكومةً وأحزاب ومنظمات مجتمع مدني، وبين الجنوب مُمثلاً في الحركة الشعبية. تمّ ذلك مع علم الحكومة السودانية التام بالعون غير المحدود الذي تقدمه اثيوبيا للحركة الشعبية. ولا بدّ بالطبع أن يفضي هذا الوضع إلى تقوية قناعة اثيوبيا بدورها المتعاظم في المشكلة السودانية.

5

انفتح الباب على مصراعيه أمام الاجتماعات والمفاوضات بين الحكومة والحركة الشعبية خارج السودان مباشرةً بعد انقلاب 30 يونيو عام 1989، وتوالت المبادرات الواحدة بعد الأخرى وفي حالات كثيرة الواحدة مع الأخرى في نفس الوقت. وأصبحت مشاكل السودان مسألةً مفتوحةً للتدخل ليس فقط لدول الجوار وإنما لكل دولةٍ ترغب في تعيين مبعوثٍ خاص أو تكليف أحد دبلوماسييها للقيام بهذه المهمّة. وكان ذلك بترحابٍ تام من الحكومة، إن لم نقل بطلبٍ منها في كثيرٍ من الحالات.

سافر أول وفدٍ من الحكومة الجديدة في أغسطس من عام 1989 لمقابلة أعضاء الحركة الشعبية في أديس أبابا، ولكن اللقاء لم ينتج عنه أي اتفاق. تبع هذا وساطة الرئيس السابق جيمي كارتر التي رحّبت بها الحكومة السودانية واجتمع الطرفان في نيروبي في أواخر نوفمبر وأوائل ديسمبر عام 1989، لكن الوساطة وفشلت. توالت الاجتماعات السرّية والعلنية في هاتين المدينتين وفي عنتبي خلال عامي 1990 و1991. وفي أكتوبر عام 1991 التقى في مدينة نيروبي الدكتور علي الحاج مُمثلاً للحكومة بالسيد جون لوك مُمثلاً لفصيل الناصر الذي كان يقوده الدكتور لام أكول والدكتور رياك ماشار. وفي يناير عام 1992 انتقلت اللقاءات والاجتماعات إلى أوروبا حيث التقى ذاك الشهر الدكتور علي الحاج مع الدكتور لام أكول في المانيا وأصدرا معاً إعلان فرانكفورت الذي أخرج مارد تقرير المصير من القمقم. ورغم أن حكومة المانيا لم تقترح أوتقُدْ أية وساطة، إلاّ انها سهّلت لقاء الطرفين هناك. وقد عبّد ذلك اللقاء الطريق لالمانيا لتلعب دورأ كبيراً فيما بعد في صياغة الدستور الانتقالي للسودان لعام 2005.

خلال عامي 1992 و1993 انتقلت الاجتماعات والتفاوض إلى غرب أفريقيا واستلمت نيجيريا ملف السودان بطلبٍ من الحكومة السودانية. كانت الحكومة السودانية تعتقد أن نيجيريا التي واجهت مشكلة انفصال بيافرا وهزمتها سوف تنحاز إليها وتعينها. كان هناك أيضاّ التشابه بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي/غير المسلم في كلا الدولتين. ولكن الحماس النيجيري سرعان ما خمد بعد سلسلةٍ من الاجتماعات التي لم ينتج عنها اتفاق. قرّرت نيجيريا بعد مغادرة السيد ابراهيم بابنجيدا كرسي الرئاسة أن المشكلة السودانية معقّدة وأن الإرادة السياسية غائبة، فغسلت يديها وتمنت للطرفين التوفيق.

6

في هذا الأثناء قفزت الولايات المتحدة إلى حلبة الصراع السودانية. وإذا كان الرئيس السابق السيد جيمي كارتر قد قدّم وساطته عام 1989 تحت مظلّة مركزه، فإن مبادرة السيد هاري جونسون ولقاء واشنطن في أكتوبر عام 1993 حملت الصبغة الأمريكية الرسمية. ورغم فشل المبادرة في توحيد فصائل الحركة الشعبية المتنازعة، إلاّ أنها جمعت تلك الفصائل في الاتفاق على مبدأ تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وقد حضر لقاء واشنطن وفدٌ كبيرٌ من التجمّع، ومثّلت الحكومة نفسها بمندوبٍ من مركز الدراسات الاستراتيجية. ولكن إعلان واشنطن لم يخرج عن دائرة إعلان فرانكفورت في تأكيده لمبدأ تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وأخذت الحكومة والمعارضة علماً بأن حق تقرير المصير قد اصبح حقيقةً معروفةً ومقبولةً على مستوى العالم وليست سراً مدفوناً في غرفةٍ ما في أحد فنادق مدينة فرانكفورت الالمانية.

7

في 4 سبتمبر عام 1993 قامت الحكومة السودانية بطلب وساطة منظمة الايقاد لحل مشكلة جنوب السودان، ووافقت المنظمة على الوساطة بين الطرفين. كانت الحكومة السودانية تعتقد أنه بإمكانها أن توجِّه وتتحكّم في دور المنظمة بحكم علاقة الحكومة الوطيدة وقتها بالنظامين الجديدين في أديس أبابا وأسمرا. ولا بُدّ من التذكير أن الخرطوم كانت قد أعلنت أنها ساعدت الثوار في البلدين في الوصول إلى السلطة.

الايقاد منظمة تم إنشاؤها عام 1986 بواسطة دول شرق افريقيا (اثيوبيا وجيبوتي وكينيا ويوغندا والسودان والصومال) لمواجهة التصحر والجفاف في الاقليم. وقد عدّلت هذه المنظمة أهدافها لِتُركّز على التنمية، وقد انضمّت لها اريتريا عام 1993، ثم دولة جنوب السودان في العام الماضي. وليس لهذه المنظمة دورٌ أو إنجازٌ يُذكر منذ قيامها سوى اتفاقية السلام الشامل السودانية والتي جرّها للعمل فيها ما سُمّي بمجموعة شركاء الايقاد من الدول الغربية والتي دفعت جلّ تكاليف المفاوضات من فنادق وطعام وشراب وسفر ومطبوعات. وأصبحت الايقاد هي الواجهة التي عملت من خلالها هذه الدول بقيادة الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا والنرويج (المجموعة الثلاثية أو الترويكا).

أعدّت المنظمة ما عُرف  بـ “مبادئ مبادرة الايقاد” في مارس عام 1994 وتمت مناقشتها في مايو وإصدارها رسمياً في يوليو عام 1994. وتضمّنت تلك المبادئ مبدأ تقرير المصير وأشارت الديباجة إلى إعلان فرانكفورت عام 1992 الذي تضمّن حق تقرير المصير أيضاً. ورغم أن حكومة السودان هي التي كانت قد طلبت وساطة الايقاد وهي التي وافقت على تقرير المصير في إعلان فرانكفورت، فقد رفضت الحكومة في سبتمبر عام 1994 مبادئ الايقاد.

ولكن بعد أن وقّعت الحكومة على الميثاق السياسي مع الفصائل المنشقّة عن الحركة الشعبية في أبريل عام 1996، ثم اتفاقية الخرطوم في أبريل عام 1997 ووافقت بمقتضاها على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، لم يعدهناك سبب لرفض.مبادئ الايقاد. وعليه فقد عادت الحكومة وقبلت تلك المبادئ في عام 1997. ولكنّ المفاوضات بين الجانبين تعثّرت ثم توقفت عام 1999 بسبب المشاكل والانقسامات الداخلية التي كان حزب المؤتمر الوطني الحاكم يواجهها.

8

في يناير عام 2002 اجتمعت دول منظمة الايقاد في الخرطوم، وتمّت مناقشة فكرة إحياء مبادرة الايقاد بعد أن وافق السودان عليها وبعد أن هدأت النزاعات بعض الشيئ داخل البيت الحاكم. رحّب السودان بالفكرة ووافق عليها، ووافقت عليها أيضاً الحركة الشعبية. بدأت المفاوضات في ناكورا في كينيا في مايو عام 2002، ثم انتقلت إلى مشاكوس في 17 يونيو عام 2002. وشارك في المفاوضات شركاء الايقاد ممثلين بالولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج (مجموعة الثلاثة أو الترويكا) مع مجموعة كبيرة من الفنيين والقانونيين من عدّة دول من بينها جنوب افريقيا وسويسرا. وقد لعب الجنرال الكيني لازاروس سومبييو والوزيرة النرويجية السيدة هيلدي جونسون دوراً فاعلاً خلال المفاوضات كوسيطين.

انتقلت المفاوضات من فكرة “دولة واحدة بنظامين” إلى مسألة الدين والدولة ونظام الحكم في السودان وتعثّرت كثيراً في هذين الأمرين. وضعت الحركة الشعبية على مائدة التفاوض مبدأ تقرير المصير وأصرّت على الاتفاق عليه قبل معالجة الأمور الأخرى. رفض الوفد السوداني في بداية الأمر مسألة تقرير المصير ولكنّ الوسطاء الأوربيين والأمريكيين والأفارقة ذكّروا الوفد السوداني بإعلان فرانكفورت والميثاق السياسي واتفاق الخرطوم ودستور السودان لعام 1998 والتي تضمنت كلها مبدأ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وحذّروا الوفد أنه لايمكن النكوص عن تلك الالتزامات.

لم يجد الوفد الحكومي إثر هذا وسيلةً للتراجع عن مبدأ تقرير المصير لشعب جنوب السودان، فاضطر للموافقة عليه. ولكنّ الوفدين اختلفا في مدة الفترة الانتقالية التي تسبق إجراء الاستفتاء. فقد أصرّ الوفد الحكومي على أن تكون الفترة عشر سنوات بينما أصرّت الحركة على مدة عامين فقط. قام الوسطاء (مثلما يفعل كل الوسطاء في هذه الحالات) بجمع الرقمين واستخراج المتوسط وهو الرقم ست سنوات التي تضمّنها بروتوكول مشاكوس.

صاغ الوسطاء في 19 يوليو 2002 ما أسموه بـ “الوثيقة الإطارية للتفاوض” والتي تضمّنت حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان بما في ذلك حق الانفصال بعد فترةٍ انتقالية مدتها ست سنوات، مع الإبقاء على تطبيق الشريعة في شمال السودان. وقد أوضح الوسطاء أن الوثيقة هي مختصر لاتفاقية الخرطوم للسلام. ومنحَ الوسطاءُ الوفدين مدة ساعةٍ لقبول أو رفض الوثيقة، مع التهديد بإنهاء الوساطة إذا رفض الطرفان أو أحدهما الوثيقة. قبِل الطرفان هذا الإجراء. وبعد أربع ساعاتٍ من النقاش خرج الطرفان باتفاقٍ تمّت صياغته النهائية والتوقيع عليه في 20 يوليو عام 2002 تحت مُسمّى “بروتوكول مشاكوس.”

وقد قام الدكتور غازي العتباني والسيد سلفا كير بالتوقيع على بروتوكول مشاكوس في مساء يوم 20 يوليو 2002 بالقصر الرئاسي في نيروبي بحضور الرئيس الكيني السيد دانيال أراب موي وعددٍ من أعضاء السلك الدبلوماسي والوسطاء. وقد أصدر مجلس الأمن بياناً رحّب فيه بالاتفاق، وفعلت ذات الشئ مجموعةٌ من الحكومات من بينها الامريكية والبريطانية والنرويجية والايطالية.

9

لقد قنّن وأطّر بروتوكول مشاكوس مبدأ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان وأنهى حقبةً من الارتباك والاضطراب والتناقض داخل الحكومة الحالية. وقد قاد بروتوكول مشاكوس لعام 2002 إلى اتفاقية السلام الشامل، والتي قادت بدورها إلى انفصال جنوب السودان عام 2011.

تُرى هل كانت هناك حقاً أيادى خفية ومؤامرة على وحدة السودان قادتها قوى اقليمية ودولية؟

لقد أوضح هذا العرض الموجز والمقالات السابقة أن حق تقرير المصير الذي تمّ تضمينه لأول مرة في إعلان فرانكفورت نبع من داخل مبادرة الحزب الحاكم في الخرطوم، بلا تدخلٍ أو ضغوطٍ من قوى اقليمية أو دولية. كل ما فعلته هذه الدول هو التمسّك والإصرار على إعلان فرانكفورت والمطالبة بتطبيقه. وقد جاءت وساطة الايقاد بناءاً على طلب السودان كما أكّد الدكتور علي الحاج لجريدة الانتباهة: “أقول إن دخول الإيقاد لم يكن تآمراً من جهة خارجية أو قوى دولية، كان دخولها برغبتنا وتقديراتنا وحساباتنا نحن وليس غيرنا ” كما ذكر أيضاً “دخول الإيقاد في ملف السلام صنعناه نحن وتورطنا فيه بأيدينا منذ بداية تأسيس هذه الهيئة مطلع التسعينيات” (مع علي الحاج في مهجره، الجزء الثاني، جريدة الانتباهة، الثلاثاء 05 حزيران/يونيو 2012).

لقد تراكمت الأخطاء والتجاوزات التي ارتكبتها الحكومات السودانية المتعاقبة في الجنوب منذ عام 1954 وأدّت في نهاية الأمر إلى مطالبة الجنوبيين بحق تقرير المصير، والذي قبلته حكومة الانقاذ بإعلان فرانكفورت وأكّدته في مبادرة السلام من الداخل، وأدّى ذلك إلى انفصال جنوب السودان. لقد رفضت تلك الحكومات بإصرارٍ وصل حد الغطرسة طلب الأحزاب والحركات الجنوبية منذ عام 1954 بالنظام الفيدرالي. ولكن عادت نفس الأحزاب ونفس القيادات لتوافق على تقرير المصير في تسعينيات القرن الماضي، وتشارك في احتفالات انفصال الجنوب في يوليو عام 2011.  

سنتعرّض لهذه الأخطاء وتراكماتها في المقال القادم “القوى السياسية الشمالية ومسؤولية انفصال جنوب السودان”، والذي سيكون خاتمة هذه المقالات.

القوى السياسيّة الشماليّة ومسؤوليّة انفصال جنوب السودان (9 – 9) – خاتمة

 

1

 

أوضحت المقالات الثماني الماضية أن الحركة الشعبية لتحرير السودان استخدمت قدراً كبيراً من الذكاء والحنكة في تعاملها مع الحكومة وأحزاب المعارضة، وانتزعت بجدارةٍ بالغة حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان من الاثنين معاً من خلال نهجٍ تدريجي. وسوف يسجّل التاريخ أن عقد التسعينيات من القرن الماضي كان بحقٍ وحقيقة هوعقد كسر حواجز حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.

بدأ ذاك الجهد بعد أربعة أشهر من سقوط نظام منقستو هايلى مريم في مايو عام 1991. اجتمعت الحركة في توريت في سبتمبر من ذاك العام وأقرّت مبدأ حق تقرير المصير لجنوب السودان. كان ذلك تعديلاً جوهريا لمبدأ السودان الموحّد الذي كان الركيزة الأساسية لمانيفستو الحركة الصادر في يوليو عام 1983.

لسببٍ أو آخر قرّرت الحكومة السير في ذاك الطريق الوعر، فوافق الدكتور علي الحاج على مبدأ تقرير المصير لجنوب السودان ووقّع في يناير عام 1992 على إعلان فرانكفورت مع الدكتور لام أكول. كان الدكتور أكول قد انشقّ عن الحركة الشعبية وكوّن فصيل الناصر في أغسطس عام 1991. اعتقدت الحكومة أنها بهذا الإعلان ستوسّع شقة الخلافات بين هذه الفصائل وتقوّي الأجنحة المنشقّة، ولم تكن تتوقّع أن يخرج مارد تقرير المصير من القمقم، وأنه لن يستطيع أحدٌ إعادته إلى مكانه .

التقطت منظّمة الايقاد حق تقرير المصير الذي أقرّته اتفاقية فرانكفورت، وعكسته في إعلان مبادئ الإيقاد في عام 1994. وعندما رفضت الحكومة إعلان مبادئ الايقاد ذكّرتها المنظّمة بإعلان فرانكفورت. لا بدّ أن الحكومة قد أحسّت وقتها بالوضع الحرج الذي وضعت فيه نفسها. بالإضافة إلى ذلك فقد اضطرها الوضع العسكري الحرج في جنوب السودان إلى تبنّي مبادرة السلام من الداخل. وقد قادت تلك المبادرة إلى التوافق مع الفصائل المنشقّة بقيادة الدكتور رياك مشار على الميثاق السياسي في 10 أبريل عام 1996، ثم اتفاقية الخرطوم في 21 أبريل عام 1997. وانضم الدكتور لام أكول إلى اتفاقية الخرطوم من خلال اتفاقية فشودة في 20 سبتمبر عام 1997. وقد أكّدت كل هذه الاتفاقيات مبدأ تقرير المصير، وتمّ تأطير وتقنين هذا المبدأ في دستور السودان لعام 1998 والذي تمّ إصداره في 30 يونيو من ذاك العام.

من الجانب الآخر فقد التقطت الحركةالشعبية الأم مبادئ مبادرة الايقاد واستخدمتها في مفاوضاتها مع أحزاب التجمّع الوطني الديمقراطي لانتزاع حق تقرير المصير. وقّعت الحركة مع الحزب الاتحادي الديمقراطي اتفاقية القاهرة في 13 يوليو 1994، ومع حزب الأمة اتفاقية شقدوم في 12 ديسمبر 1994، ثم اتفاق قوى المعارضة السودانية الرئيسية في 27 ديسمبر 1994 مع هذين الحزبين وقوات التحالف السودانية. وقد مهّدت هذه الاتفاقيات لإعلان أسمرا الذي وقّع عليه كلُّ قادة التجمّع الوطني الديمقراطي بما فيهم الحركة الشعبية في 23 يونيو عام 1995 (مؤتمر القضايا المصيرية – قرار حول قضيّة تقرير المصير). وقد صبّت كل تلك الروافد من الحكومة والمعارضة في بروتوكول مشاكوس الذي عكس وأكّد مبدأ تقرير المصير لشعب جنوب السودان.

 

2

 

بعد انهيار مبادرة السلام من الداخل ورجوع الدكتور رياك مشار إلى قواته في الجنوب تبيّن للحكومة أن إمكانية السلام الحقيقي تكمن فقط في التفاوض مع الحركة الشعبية الأم، فهي التي تملك الجيش والعتاد والسند من مواطني الجنوب والاعتراف من الكثير من دول الجوار والدول الكبرى، وهي التي تسيطر على جزءٍ كبيرٍ من أراضي الجنوب. وقد قادت هذه القناعة الحكومة إلى العودة إلى وساطة الايقاد التي تمّ إعادة الحيوية لها تحت رعاية السيد دانيل اراب موي رئيس جمهورية كينيا.

التقى الطرفان تحت رعاية مجموعة من الوسطاء الذين عُرِفوا بأصدقاء أو شركاء الايقاد (الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج – المجموعة الثلاثية أو الترويكا) في ناكورا في كينيا في شهر مايو عام 2002، ثم انتقلا إلى مشاكوس في شهر يونيو من ذاك العام. وبعد مفاوضاتٍ دامت شهراً وقّع الطرفان على بروتوكول مشاكوس في 20 يوليو عام 2002.

يتكوّن بروتوكول مشاكوس من ديباجة وخمسة أجزاء:

تُقِرُّ الديباجة أن النزاع فى السودان هو أطول نزاع مستمرٍ فى إفريقيا، وأنه قد سبّب خسائر مريعة فى الأرواح ودمّر البنى التحتية للبلاد، وأهدر الموارد الاقتصادية، وتسبّب فى معاناةٍ لم يسبق لها مثيل، ولا سيما فيما يتعلق بشعب جنوب السودان، وتؤكّد أيضاً أوجه الظلم والتباين التاريخية فى التنمية بين مختلف المناطق فى السودان التى تحتاج إلى الإصلاح. وتُقِر الديباجة أيضاً بأن عملية السلام التي تقوم بها الهيئة الحكومية المشتركة للتنمية “ايقاد” والتي أُعيدت لها الحيوية تحت رعاية الرئيس الكينى دانيال اراب موى، تتيح السبل لتسوية النزاع والتوصّل إلى سلامٍ عادل ومستدام.

يتناول الجزء الأول مبادئ عامة تؤكّد أن وحدة السودان، التى تقوم على أساس الإرادة الحرة لشعبه والحكم الديمقراطي، والمساءلة، والمساواة، والاحترام، والعدالة لجميع مواطنى السودان، ستظل هي الأولوية بالنسبة للطرفين، وأنه من الممكن ردّ مظالم شعب جنوب السودان وتلبية طموحاته ضمن هذا الإطار. ويُقِر هذا الجزء مبدأين هامين:

أولهما أن شعب جنوب السودان له الحق فى رقابة وحكم شؤون اقليمه والمشاركة بصورة عادلـة فى الحكومة القومية،

وثانيهما، وهو الأهم، أن شعب جنوب السودان له الحق فى تقرير المصير وذلك، ضمن أمور أخرى، عن طريق استفتاء لتحديد وضعهم مستقبلاً. وهكذا تحقّق بعد أحد عشر عامٍا حلم مؤتمر توريت عام 1991.

يحدّد الجزء الثاني مهام الفترة قبل الانتقالية والتي سيتم فيها إنشاء المؤسسات والآليات المنصوص عليها فى اتفاقية السلام، ووضع إطارٍ دستورى لاتفاقية السلام. وتبدأ الفترة الانتقالية بعد نهاية تلك الفترة وتمتد إلى ست سنوات، تعمل خلالها المؤسسات والآليات التى أُنشئت خلال فترة ما قبل الفترة الانتقالية طبقا للترتيبات والمبادىء المحدّدة فى اتفاقية السلام. وتُشكّل خلال الفترة الانتقالية مفوضية التقويم والتقدير لمتابعة تنفيذ اتفاقية السلام. وتتكون المفوضية من تمثيلٍ متساوٍ لحكومة السودان والحركة الشعبية وما لا يزيد عن ممثلين اثنين لكلٍ من الدول الأعضاء فى اللجنة الفرعية للايقاد بشأن السودان (جيبوتى، اريتريا، اثيوبيا، كينيا وأوغندا)، والدول المراقبة (ايطاليا، النرويج، المملكة المتحدة، والولايات المتحدة الامريكية). ويتضمّن هذا الجزء الترتيبات الخاصة بالاستفتاء والتي تقرأ: “

“عند نهاية الفترة الانتقالية التى مدتها ستة (6) سنوات، يكون هناك استفتاء لشعب جنوب السودان تحت رقابة دولية، يتم تنظيمه بصورة مشتركة بواسطة حكومة السودان والحركة الشعبية/الجيش الشعبى لتحرير السودان لكى: يؤكد وحدة السودان عن طريق التصويت لاعتماد نظام الحكم الذى تمّ وضعه بموجب اتفاقية السلام، أو التصويت للانفصال.”

يتناول الجزء الثالث مسألة الدين والدولة، ويُقر بأن السودان بلدٌ متعدّد الثقافات والجنسيات والأعراق والديانات واللغات، ويطالب بألا تُستخدم الديانة كعامل للفرقة، وأن الأهلية للمناصب العامة، بما فى ذلك رئاسة الجمهورية، والخدمة العامة والتمتع بجميع الحقوق والواجبات، تكون على أساس المواطنة وليس على أساس الدين أو المعتقدات أو العادات.

يضع الجزء الرابع الخطوط العريضة لهيكل الحكم وصلاحيات الحكومة القومية وأسس وضع الدستور. ويتضمن هذا الجزء مبدأ قبول تطبيق الشريعة الاسلامية في شمال السودان حيث تنصُّ الفقرة الثانية من المادة الثالثة على الآتي:

 

أولاً: “التشريعات التي تُسنُّ على الصعيد القومي والتي تتأثر بها الولايات خارج جنوب السودان مصدرها الشريعة والتوافق الشعبي.”

ثانياً: “التشريعات التى تُسنُّ على الصعيد القومى، المطبّقة على الولايات الجنوبية و/ أو الاقليم الجنوبى يكون مصدرها التوافق الشعبى، وقيم وعــادات شعب السودان ( بما فى ذلك تقاليدهم ومعتقداتهم الدينية، احتراماً للتنوع فى السودان).”

وهكذا وافقت الحركة الشعبية على تطبيق الشريعة الاسلامية في الشمال، وهو ما كانت ترفضه منذ عام 1983، تحت شعار السودان الجديد. وعليه فقد دقّ بروتوكول مشاكوس آخر مسمارٍ على نعش السودان الجديد العلماني الموحّد. ومن الواضح أن هذا التنازل كان المقابل لحق تقرير المصير للجنوب لتصبح المعادلة: الشريعة في الشمال مقابل تقرير المصير في الجنوب. 

عنوان الجزء الخامس من البروتوكول هو “حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.” ويكرّر هذا الجزء المواد الخاصة بحقّ تقرير المصير التي وردت في الأجزاء السابقة من البروتوكول نفسه. وهذا إجراءٌ غريب لأن هذا التكرار لا يضيف أيّةَ قيمةٍ قانونية، ولكن يبدو أنه يعكس عدم ثقة الحركة في الجانب الحكومي.

 

3

 

وهكذا توّجت الحركة الشعبية نجاحاتها في انتزاع حق تقرير المصير من الحكومة والمعارضة من خلال بروتوكول مشاكوس. وقد قام الدكتور غازي العتباني والسيد سلفا كير بالتوقيع على بروتوكول مشاكوس في مساء يوم 20 يوليو 2002 بالقصر الرئاسي في نيروبي بحضور الرئيس الكيني السيد دانيال اراب موي وعددٍ من أعضاء السلك الدبلوماسي والوسطاء. وقد أصدر مجلس الأمن بياناً رحّب فيه بالاتفاق، وفعلت ذات الشئ مجموعةٌ من الحكومات من بينها الامريكية والبريطانية والنرويجية والايطالية. كما تناولت الصحف ووكالات الأنباء العالمية خبر الاتفاق وأشادت بإنجاز الوفدين. وكانت هناك إشادة خاصة بالدكتور غازي والسيد سلفا كير وتمّ وصفهما بواسطة القادة الغربيين والصحف الغربية بأنهما رجلا دولة يتميزان بالحكمة والمسؤولية. عليه فقد شهد العالم، كل العالم، على بروتوكول مشاكوس، كما شهد بعد عامين ونصف بعد ذلك على اتفاقية السلام الشامل.

 

4

 

مع توقيع بروتوكول مشاكوس بدأت المرحلة الأولى من طي حقبةٍ طويلةٍ من الحرب بين الشمال والجنوب، ملأى بالمرارات والموت والدمار ونقض العهود وإهدار فرص السلام، تعود بدايتها إلى عام 1955. ففي أغسطس من ذاك العام تمرّدت كتيبة الاستوائية بمدينة توريت إثر قرار نقل أفرادها إلى الشمال، وقُتل حوالي 370 شمالياً و75 جنوبياً في تلك الاضطرابات، وانطلقت شرارة الحرب الأهلية الأولى التي استمرت سبعة عشر عاماً حتى عام 1972. غذّت هذه الحرب إخفاقاتٌ كبيرة من الشمال تمثّلت في نتائج السودنة التي أعطت الجنوبيين ست وظائف فقط من ثمانمائة وظيفة، وفي تمثيل الجنوبيين في حكومة السيد اسماعيل الأزهري الأولى بثلاثة وزراء دولة جنوبيين بلا أعباء. غذّت هذه الحربَ أيضاً ردةُ الفعل غير المسؤولة وغير المناسبة لتمرد توريت حيث تمّت محاكمات ميدانية عاجلة حكمت بالإعدام والسجن لفتراتٍ طويلة على عددٍ كبير من الجنوبيين، مما ساهم في هروب الآلاف منهم ليكوّنوا نواة حركة التمرد.

ولكن الفشل الأكبر لقيادات الشمال السياسية كان الرفض القاطع لمطلب النظام الفيدرالي الذي اتفق عليه الجنوبيون عام 1954. وقد أجاز البرلمان في الخرطوم في 19 ديسمبر عام 1955 قراراً تضمّن إعطاء مطلب النظام الفيدرالي الاعتبار الكافي. وكان ذاك جزءاً من اتفاقٍ صوّت بموجبه الجنوبيون في البرلمان على استقلال السودان. تراجع السياسيون الشماليون عن وعدهم ورفضوا قبول النظام الفيدرالي وكانت الهتافات تتعالى “لا نظام فيدرالي لأمةٍ واحدة (نو فيدريشن فور ون نيشن)” هل كنا فعلاً أمةً واحدة؟ وكأن ذلك لم يكفِ فقد بدأ قادة الأحزاب في الإعداد عام 1958 للدستور الاسلامي.

استلم عبود ولواءاته السلطة بناءاً على أوامر رئيس الوزراء السيد عبد الله خليل في 17 نوفمبر عام 1958، وقاموا بشن حربٍ قاسية على الجنوب قضوا فيها على الأخضر واليابس. لم يكن هناك جنوبيٌ واحد في المجلس العسكري الحاكم، وظل السيد سانتينو دينق الوزير الجنوبي الوحيد في حكومة عبود على مدى ستة أعوام، ولوزارة الثروة الحيوانية.

 

5

 

رغم أن من أوائل أهداف ثورة أكتوبر عام 1964 كان حلَّ مشكلة الجنوب، إلاّ أن الساسة الشماليين سرعان ما عادوا إلى صراعاتهم ولا مبالاتهم تجاه مشكلة الجنوب التي درجوا عليها في فترة الحكم المدني الأول. وفشل مؤتمر المائدة المستديرة رغم جهود السيد ويليام دينق لأن السياسيين الشماليين رفضوا رفضاً قاطعاً مرةً ثانية نظام الحكم الفيدرالي الذي واصل الجنوبيون المطالبة به. الغريب في الأمر أن بعضاً من الساسة الشماليين الذين رفضوا النظام الفيدرالي عام 1965 عادوا ووافقوا على حق تقرير المصير لجنوب السودان في التسعينيات، وشاركوا في احتفالات الاستقلال في جوبا في 9 يوليو عام 2011.

صعّدت الحكومة المدنيّة الثانية الحرب في الجنوب، ووافقت الجمعية التأسيسية بالإجماع في يونيو عام 1965 على مقترح الحكومة باعتبار الحرب في الجنوب تمرداً على القانون والنظام، وأعطت الجمعيةُ الحكومةَ كل الصلاحيات والميزانية لدحر التمرد. يجب التنويه هنا إلى أنه لم تتم الانتخابات في الجنوب حتى ذاك الوقت بسبب الحرب، وبالتالي لم يكن هناك جنوبيون بالجمعية، وعليه فقد كان التصويت على طلب الحكومة بالإجماع (لم يكن بالطبع ممكناً أو مقبولاً أن يترشّح جنوبيٌ في الشمال، دعك من أن يفوز).

شهدت هذه الفترة المجزرتين المشهورتين في جوبا وواو والتي قُتل فيهما مئات المدنيين الجنوبيين، كما شهدت أيضاً اغتيال السيد ويليام دينق أثناء زيارته الجنوب. وبدأ العمل مرةً ثانية عام 1986 في إعداد الدستور الاسلامي للسودان.

انهارت حقبة الحكم المدني الثانية تحت وطأة أخطائها وفشلها، وقفز العسكر على السلطة مرةً ثانية في 25 مايو عام 1969. جاءت اتفاقية أديس أبابا بفرصةٍ ذهبية عام 1972، فقد قبل الجنوبيون الحكم الذاتي والذي هو أقل من النظام الفيدرالي، ولكن عاد نميري وحلفاؤه الجدد في بداية الثمانينيات لينسفوا ذاك الاتفاق عبر التدخل في أعمال حكومة الجنوب وحلها هي ومؤسساتها، وعبر تقسيم الجنوب وفرض قوانين سبتمبر عام 1983، وتحويل مياه الجنوب عبر قناة جونقلي، وكذلك بتروله إلى الشمال. أهدر نظام نميري وحلفاؤه الجدد تلك الفرصة الذهبية، وضاع معها قدرٌ كبيرٌ من حسن النية والثقة بين الشمال والجنوب.

جاءت انتفاضة ابريل عام 1985 وبدّد الساسة الشماليون مرةً أخرى، وبقدرٍ كبيرٍ من عدم المبالاة، فرصة إعلان كوكا دام، ثم فرصة مبادرة السلام السودانية التي وقّعها السيد محمد عثمان الميرغني والدكتور جون قرنق في 16 نوفمبر عام 1988، والتي نادت فقط بتجميدٍ لقوانين سبتمبر (وليس بإلغائها) وعقدِ مؤتمرٍ دستوري قبل 31 ديسمبر 1988.

وجاء انقلاب يونيو عام 1989 بعد الفشل الذريع لفترة الحكم المدني الثالثة، وتحوّل الصراع في الجنوب إلى حربٍ جهادية تتغذّى من عرس الشهيد والوعود بدخول قتلى الحرب من الجيش ومليشياته الجنّة. وتنبّه العالم إلى فظاعاتها وظلمها، وتدخّلت دول الجوار بناءاً على طلب الحكومة، ثم جاءت أمريكا ودول غرب أوروبا ومجلس الأمن الدولي لتضغط الحكومة لقبول ما وافقت عليه الحكومة نفسها، وتمّ تدريجياً تدويل القضية السودانية.

لقد أضاع الساسة الشماليون فرصاً عديدة لإنهاء الحرب الأهلية، وأهدروا كل فرص السلام، ونكثوا عن كل وعودهم للجنوب، فكانت النتيجة لتلك الأفعال غير المسؤولة هي نهاية الثقة. رفع الجنوبيون سقف مطالبهم ودفعوا بشعار حق تقرير المصير ونجحوا في انتزاعه بذكاءٍ وحنكةٍ وجدارة، وأدّى ذلك بدوره إلى انشطار البلاد وبروز دولتين محمّلتين بكل أثقال الحرب من بؤسٍ وفقرٍ وتخلّفٍ وانقسامات.

 

6

 

كان التجمّع الوطني الديمقراطي وأحزابه وتنظيماته تراقب مفاوضات مشاكوس من أسمرا والقاهرة مثلهم مثل بقية المراقبين الآخرين بلا حولةٍ أو قوّة. عندما طلب أعضاء التجمّع تمثيلهم في المفاوضات اعترضت الحكومة السودانية بشدّة، ولم تتحمس الحركة الشعبية للاقتراح. وخلال المفاوضات كنا نسمع تصريحاتٍ غريبة عن أن الحركة تُفاوض باسم التجمّع، وأن التجمّع أو أحد أحزابه هو في حقيقة الأمر “الشريك الخفي” في تلك المفاوضات.

في 7 أغسطس عام 2002، أي بعد أسبوعين من التوقيع على بروتوكول مشاكوس، اجتمعت هيئة التجمّع الوطني الديمقراطي في أسمرا وأعلنت تأييدها لبروتوكول مشاكوس. بما أن هذه الأحزاب والتنظيمات كانت جميعها قد وافقت على مبدأ حق تقرير المصير لجنوب السودان فقد كان واضحاً أن هذه الأحزاب لا خيار لها غير التأييد. لا بد أن ممثلي هذه الأحزاب قد أحسّوا بالأسى والإحباط والخيبة وهم يرون حليفهم القديم والذي كانوا يؤمّلون أن تُسْقِطَ قواتُه النظامَ في الخرطوم وتعيدَ لهم الحكم في السودان على طبقٍ من ذهب قد أصبح شريكاً للنظام في الخرطوم، وأصبحت له مصلحةٌ كبرى في بقاء حزب المؤتمر الوطني في السلطة لمدة ستة أعوام كاملةٍ أخرى حتى يتم الانفصال بسلاسةٍ عبر بوابة تقرير المصير التي ساهم التجمّع نفسه في بنائها. بالنسبة للتجمع فقد انتهت سنوات الأمل وحلّ محلها حصاد الخيبة، وأصبح الصديق القديم شريكاً لمن كان عدواً مشتركاً.

لا بد أن قادة الأحزاب الشمالية قد أحسوا أيضاً بالأسى وهم يراجعون مواقفهم وأوراقهم القديمة عندما رفضوا بعنادٍ وغطرسةٍ نظام الحكم الفيدرالي الذي كان الجنوبيون يُطالبون به، وكان غاية ما يتطلعون إليه منذ عام 1955، وأكّدوه عام 1965. وهاهم قادة هذه الأحزاب أنفسهم يوافقون على تقرير المصير ويشاهدون بأعينهم كيف خرجت الكرة من ملعبهم وأصبحوا متفرجين لا أكثر في عملية انشطار السودان.

كما أن الحقيقة المريرة الخاصة بانشطار السودان لا بدّ أن تكون قد تراءت للحكومة السودانية والحزب الحاكم إثر التوقيع على بروتوكول مشاكوس، ولا بد أنهم تساءلوا في حسرةٍ وأسى كيف تدحرجت كرة إعلان فرانكفورت لتقود بعد عشرة أعوام إلى بروتوكول مشاكوس ثم الانفصال؟

من ياتُرى في الحزب الحاكم والحكومة أعطى الدكتور علي الحاج الضوء الأخضر ليوافقَ ويُوقّعَ على تقرير المصير في فرانكفورت عام 1992، ويُخرِج الماردَ من قمقمه؟ وهل هو قرارٌ فردي أم لمجموعة أفراد، أم قرار احدى مؤسسات الحزب أو الحكومة؟

 

7

 

تحدّث الأب سترنينو لاهوري العضو عن دائرة توريت بجنوب السودان أمام البرلمان السوداني في 23 يونيو عام 1958، وذكر في تلك الكلمة:

“إن الجنوب لا يكنُّ أبداً نوايا سيئة نحو الشمال. إن الجنوب يطالب فقط بإدارة شؤونه المحلية في إطار السودان الموحّد. كما أنه ليست لدى الجنوب نيّة للانفصال عن الشمال لإنه لو كان ذلك هو الحال فليس هناك قوة على الأرض تستطيع منع الجنوب من المطالبة بالانفصال. فالجنوب يطالب بإقامة علاقة فيدرالية مع الشمال، وهذا بلا ريب حقٌ يستحقه الجنوب بمقتضى حق تقرير المصير الذي يمنحه المنطق والديمقراطية للشعب الحر. وسينفصل الجنوب في أي وقتٍ بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة متى أراد الشمال ذلك من خلال سيطرة الشمال على الجنوب سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.” 

لم تكنْ تلك كلمات متمردٍ مدسوسٍ كما كان السيد اسماعيل الأزهري يُسمّي المحاربين الجنوبيين، أو كلمات إرهابيٍ انفصالي كما كان يسميهيم السيد محمد أحمد محجوب، أو كلمات أحد الخارجين على القانون والنظام كما أطلقت عليهم الجمعية التأسيسية بالإجماع عام 1965. كانت تلك نبوءة مثقفٍ وسياسيٍ ورجل دينٍ جنوبيٍ يؤمن بوحدة السودان، لكنه كان يملك أيضاً قدراً كبيراً من بعد النظر.

بعد ثلاثةٍ وخمسين عاماً تحقّقت تلك النبوءة.

يالها من نبوءة !!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *