عسر الانتقال و أحجية “الدولة العميقة”
عادل إسماعيل
نشأت الحكومة الانتقالية في السودان عقب ثورة كثيرة الكلفة لجهة الأرواح التي أزهقت فيها ، و العذابات التي رافقتها . كما دخل عنصران جديدان على الملعب السياسي ، و لأول مرة بكثافة ، و هما الأطراف جنبا إلى جنب مع المركز ، و النساء جنبا إلى جنب مع الرجال .
و لكن تشكيل الحكومة جاء ضعيفا بالرغم من تأخره ، الذي أتاح فرصة كبيرة للتفكير في الاستعانة بعناصر صلبة تدرك قضايا التغيير و التفكير الصحيح للتعبير عن هذا الإدراك . و كان يمكن تدارك ذلك عند تعيين وكلاء مؤهلين سياسيا لهذه المرحلة ، و لكن أيضا غلبت عليها عقلية الهتاف و المعارضة ، بدلا عن أن توفر الطاقات ، للمضي قدما في إيجاد حلول للمشاكل الكثيرة التي ما تزال تكبل أقدام الشعب السوداني التواق للانطلاق ، و أن تطور عقلا حاكما يدرك التوازنات المطلوبة في هذه المرحلة الصعبة ، و في هذا الوضع الشاذ الذي و جدنا أنفسنا فيه .
لم أكن مستغربا للتيه الذي تهيم الحكومة ، بشكل عام ، بوجهها فيه ، و ذلك لغياب مشروع مدروس لأدارة الانتقال بمدته الطويلة لحين أيام الانتخاب في 2022 . و في حقيقة الأمر ، لم تكن أي من القوى المشاركة في ثورة ديسمبر 2019 تحمل برامجا للتغيير ، ربما باستثناء “حملة سودان المستقبل” ، فهي القوة السياسية الوحيدة التي كانت تطرح أفكارا لما بعد “بس” التي تشكلت من الشعار الأشهر للثورة “تسقط بس” . حتى أن الدكتور حمدوك ، نفسه ، أشتكى من غياب برنامج التغيير قبل أن تدفع به قوى “الحرية و التغيير” ، التي تصدت لقيادة التغيير ، لاحقا.
فجر الثورة وعيان مختلفان: وعي شبابي قادم من أحلام المستقبل ، و وعي طبقة وسطى جديدة قادم من آلام الماضي ، حيث ألتقى الوعيان في رفضهما للحاضر ، و لذلك حق علينا أن وصفناها ذات مقال بأن ثورة ديسمبر إنما هي المزيد من كل شي فحسب . و غني عن القول ، إن هذين الوعيين نشأا خارج مواعين الفكر السياسي الكلاسيكي في السودان ، الذي ترجمته الأحزاب و الكيانات السياسية الموجودة . و لأنها ، أي الثورة ، لم تنطلق من مشروع سياسي موجود ، لم يكن لها مشروع سياسي يعبر عنها . و في حقيقة الأمر ، لم يكن مطلوبا منها أن تقدم برنامجا للانتقال السياسي . و إنما كان على القوى السياسية صب هذا التوق للتغيير و الاصرار على العيش بكرامة ، في برامج سياسية تجعل الانتقال سلسا و آمنا .
كما لم يكن مستغربا على القوى السياسية فقرها في هذا الاتجاه ، و ذلك لأنها كانت تعتاش من وجود الإسلامين في السلطة “الإنقاذ” ، بمعنى أن وجود سلطة “الإنقاذ” كان هو المبرر الأوحد لوجودها !! و لذلك حينما سقطت سلطة “الإنقاذ” ، وجدت نفسها تتلفت يمنة و يسرة ، لا تدري ماذا تفعل .ثم وجدت ضالتها لمواصلة صراعها مع “الإنقاذ” في دولتها العميقة التي صنعتها ، الأخيرة ، إبان حكمها الضلالي في السودان . فجعلوا يصدرون قوانين و إجراءات حمقاء ابتداء من قانون تفكيك التمكين إلى مصادرة الصحف التي تركوا مالكيها يغادرون البلاد ، بما جنوه من تمكين ، و تشطروا على بردعتها .
إذ لم يكن هناك داع لإصدار قانون أصلا ، فأنت أتت بك ثورة لتغير ما تراه ضروريا للتغيير ، حتى و لو لم يكن لديك برنامج سوى اقتلاع الإسلاميين من السلطة ، التي غاصوا في مؤسساتها حتى قعرها وظلماتها و أزقتها ، بالشكل الذي لا تستطيع معه الإطاحة بهم دفعة واحدة . كما أن الإطاحة بهم دفعة واحدة ، تجعلهم يتوحدون ضدك بعدما صاروا في أضعف حالاتهم على الإطلاق ، فكأنما أنت تنفخ فيهم رجاء البقاء بعد أن أكلهم اليأس و الاحباط . علاوة على ذلك ، فإنك لا تملك كادرا يملأ كل هذه الفراغات ، فقد أثبت تشكيل الحكومة و أداؤها فقرها الشديد في هذا الأمر ، مثلما جاء مؤخرا في الأخبار ، أن أحد ألمسئولين ، و هو وكيل وزاررة الإعلام ، قد كلف بشغل منصب آخر ، إضافة لمنصبه هذا ، و هو إدارة الإذاعة و التلفزيون . فإن كنت تعدم وجود طاقم يضطلع بإدارة الانتقال ، فكيف بالصف الثاني و الثالث و الرابع حتى قعرها وظلماتها و أزقتها ؟؟
كنا قد أشرنا في مقال سابق إلى الطريقة المثلى و الآمنة لتفكيك تمكين سلطة “الإنقاذ” . و نود ، هنا ، توضيح هذه الطريقة السهلة و الآمنة ، مرة أخرى ، حتى لا نهدر وقتا و جهدا في تفكيك التمكين ، بهذه الطريقة العشوائية .
نحن نصف تمكين “الإنقاذ” بالدولة العميقة و ذلك لأنها “تعمقت” في المؤسسات التي تدير شئون الدولة ، مدنيا و عسكريا و دبلوماسيا ، و هذا صحيح . و عليه ، فإن إزالة التمكين لا تتم بالغوص معها في ظلمات و أزقة هذه المؤسسات ، ليس لأن الإسلاميين يجيدون الصراع في الظلام ، بحكم تربيتهم السياسية ، فحسب . بل إنك تستفيد من الجو الرافض لهم ، و ذلك بالمزيد من إضعافهم و شقهم شقا لا يلتئمون بعده قبل ألف عام .
أول و آخر شيئ يفككهم ، إنما هو إخراجهم من “العمق” إلى السطح . و يكون ذلك بإخراجهم درجة درجة ، حتى آخر متمكن . و ذلك بإعفاء صفهم الأول ، ثم تكليف صفهم الثاني في المؤسسة المعنية . نعم صفهم الثاني ، الذين هم إسلاميون متمكنون مثلهم . ونكون بذلك أخرجناهم درجة من “عمقهم” . ثم بعد بضعة أشهر ، نعفي هذا الصف الثاني الذي صار صفا أول ، ثم تكليف صفهم الثالث الذي صار ثانيا . و نكون بذلك أخرجناهم درجة أخرى من “عمقهم” . ويستمر هذا النمط في إخراجهم درجة درجة ، و يتزامن ذلك مع فتح ملفات الفساد المتعلقة بالمعفيين المعنيين ، و يشمل ذلك التمثيل الدبلوماسي بالطبع ، مع استيعاب كوادر جديدة و تدريبها لشغل الوظائف التي يتيحها برنامج التغيير .
هذه طريقة مرتبة و آمنه و تدريجية ، تربك الإسلاميين . فبعد انهيار مشروعهم ، أصبحوا أصحاب مشاريع فردية قوامها الأمن الوظيفي و الاحتفاظ بما جنوه . فكلما ترفع الحكومة صفا منهم درجة ، تظاهر بالأمانة و الولاء لها ، حتى تجر أقدامه ملفات الفساد للصف الذي سبقه . و هكذا يكون شق صفهم شقا محكما و مفيدا ، و بذلك يكون التخلص من نفوذهم مرة واحدة للأبد . كما يجب أن تدار ملفات الفساد هذه بحنكة فهي سلاح ماض لنزع الغطاء الأخلاقي من مشروعهم السياسي الأسلامي ، وذلك أوفق من الاستقواء الأحمق عليهم بالقانون أو بالسلطان الذي يوهمهم بأنهم مهمون و لهم قضية .
بقيت هناك قضيتان حساستان ، و قضية رئسية ، نحب أن نعلق عليها بما نعتقد أنه يجعل الانتقال سلسا و أقل آلاما . و الانتقال دائما صعب ، و دورنا الأزلي و الأبدي إنما هو تقليل كلفته و زمنه الذي يقتضيه . و هذا هو سبب مناداتنا اتخاد طريق الانتخاب ، لهذا الانتقال ، فبل اندلاع الثورة في ديسمبر 2019 .
فأما القضة الرئيسية ، إنما هي إحلال السلام . وهي تمضي بشيئ من السبهللية مثل اختلاق مسارات عديدة بما فيها ما أطلقوا عليه مسار الوسط . و كلها تطويلات لا داعي لها ، فلتنتقل المفاوضات للخرطوم و تنقل على الهواء مباشرة ليعرف الناس ما يجري فيها طالما إنها تعطل حياتهم ، و تدعي أطرافها أنها تعبر عنا .
علاوة على ضرورة تسريع وتيرتها ، و الاستمرار في الضغط على المفاوضين ، و ذلك بمواصلة الزيارات ، ذات الصدى الطيب ، التي يقوم بها رئيس الوزراء إلى معسكرات النازحين و معاقل الحركات المسلحة . فتلك الزيارات ، من شأنها ، إزالة غموض الوضع بأن المفاوضين هم الوحيدون الذين يعلمون أحوال النازحين و مآسيهم ، و من ثم يحتكرون البكاء بمآقي النازحين و يلطون الخدود بأيدي النازحين . فتلك الزيارات تكشف أحد أهم الكروت في المفاوضات و تضيئ أحد أركانها المظلمة .
و أما القضيتان الحساستان ، فهما تقرير لجنة نبيل أديب و رفع الدعم .
و في حقيقة الأمر ، كان وزير المالية ، منذ جلوسه على مقعد وزارة المالية ، مصدرا للسخرية و الاحباط . فلقد جيئ به بوصفه خبيرا اقتصاديا . فقد صرح مرة أنه يحتاج ثمانية ميليار دولارا أمريكيا ، و مرة أخرى خمسة ميليار . فأين هي الخبرة الاقتصادية في ذلك ؟؟ أوليس أي شخص عادي يمكنه قول هذا الكلام ، بأن يوفروا له هذا المبلغ لإجراء إصلاحات اقتصادية ؟؟ ثم لماذا هذا التخبط في قيام مؤتمر اقتصادي بعد إجازة الميزانية ؟؟ لماذا لم يسبق ذلك المؤتمر التخطيط لوضع ميزانية لا تقوم على رفع الدعم عن سلع أساسية و لا ينعقد أكثر من نصفها على وعود المانحين !!
أقترح في هذا المقام عقد مساومة مع ناهبي المال العام من قطط “الإنقاذ” السمان ، بحسب تعبير رئيسهم المطاح به ، و ذلك بإرجاع ما نهبوه مقابل عدم ملاحقتهم قضائيا . و ذلك طريق أسهل و أسرع من مطاردة حساباتهم في بنوك تعتقد أن سرية معاملات عملائها دين يجب الإخلاص له .
و حين تنجز الحكومة الخطوات أعلاه ، تكون قد حررت السودان من أسر التقلبات في العلاقات االدولية و ابتزاز المانحين سواء أكانو بيوتات مال أو دول .
و على الحكومة أن تعرف أن سيطرتها على الوضع في الداخل و تحسينه ، يملي على الخارج أن تعامله بتعاون و احترام ، كما يمد الشعب السوداني بأسباب الصبر عليها . فعلى سبيل المثال ، إن الشعب السوداني ليس مقتنعا بأن سوء توزيع المواد التموينية أو تواجد القمامة و الأوساخ في الشوارع كانت بسبب وضع السودان في قائمة الإرهاب الأمريكية . إذن ، دعوا الشعب السوداني يلمس أنكم تعملون من أجله !!
و أما تقرير لجنة نبيل أديب ، فهو موضوع قاتل و بالغ الحساسية و ذلك للتقدير المستحق الذي يناله هؤلاء الشهداء النبلاء الشجعان . فقد فاق نبلهم و شجاعتهم و تصميمهم كل التصورات ، فكتبوا على صدورهم العارية “حباب الطلقة” و “لو متنا ، أعملوا مننا ترس” . فهؤلاء النبلاء وهبوا حياتهمم ليعيش الشعب السوداني حياة سهلة و كريمة . و إنصافهم ليس في قتل من قتلهم ، و إنما في إخراج الشعب السوداني ، الذين هم ضحوا من أجله ، من وهدته و تحقيق الأمن و الاستقرار له .
و كما هو معلوم ، فإن المكون العسكري في المجلس السيادي ، الذي أرتضته الوثيقة الدستورية ، بكل عيوبها ، هو المسئول عن جريمة فض الاعتصام ، من أمام مبنى القيادة العامة ، أواخر شهر رمضان الماضي ، سواء أكان مارس القتل أو كان متقاعسا عن حماية المعتصمين . و لذلك هو متورط تورطا كبيرا و لا أشك في ذلك . و لكن وجوده و وحدته ضروريان لتحقيق الأمن و الاستقرار في هذه الرحلة على الأقل ، و هو ما ضحى من أجلة شهداؤنا الكرام . و عليه ، أدعوا لتطفيف تقرير نبيل أديب بالشكل الذي يحافظ على وحدة المكون العسكري في هذا الوقت و يمنع الصدام بين مكوناته بما يشمل قوات الدعم السريع . نعم لتطفيف تقرير نبيل أديب ، و لا لمزيد من الدماء و الدموع . أعلم أنه خيار صعب و تحمله صعب و لكنه وضع معقد ، و تحديات كبيرة ، و حكومة ضعيفة ، و مع ذلك لا نملك في الوقت الحالي سوى الصبر عليها و دعمها حتى يمضي الانتقال بأقل كلفة و أقل زمن يقتضيه .