مخطئ من يظن أن شباب الثورة الذين يمثلون قطاعات الشعب الواسعة التي تجمعت بمئات الألوف من مناطق السودان المختلفة هم أتباع لكيان من الكيانات المهنية أو الحزبية القائمة، أي أنهم يقبلون من قيادتهم ما يقبل عضو الحزب الملتزم بقول رئيسهم. ينطبق هذا على تجمع المهنيين السودانيين الذي قاد الحراك ونظمه بدقة فائقة وعلى القوى الذي التحقت بإعلان الحرية والتغيير مثل قوى نداء السودان وتحالف قوى الإجماع الوطني وغيرهم. لقد تجمع الغضب وتراكم على نفوس هؤلاء الشباب عبر سنوات عديدة من عمر الإنقاذ مثل المذابح التي حدثت في دارفور، وقتل المتظاهرين في بورت سودان ومناهضي سد كجبار في الولاية الشمالية وجامعة الجزيرة ومظاهرات الفاشر ونيالا وطلاب الخدمة الوطنية في معسكر العيلفون وفي انتفاضة 2013 الباسلة، واشعال الحرب مرة أخرى في جبال النوبة والنيل الأزرق لتحصد المئات من المواطنين وغيرها من الحوادث الكثر. ثم جاءت الضائقة الاقتصادية التي تسببت فيها ضياع إيرادات النفط التي تقدر بحوالي 70 مليار دولار بين عامي 1999 و 2011، والنهب المؤسسي لموارد الدولة لمصلحة الحزب وكبار المسؤولين في الحكومة وأعوانهم والمؤلفة قلوبهم من مرتزقة السياسة، ووقعت كارثة فصل الجنوب بسبب سياسات الحكومة الفردية المتخاذلة أمام الضغوط الأمريكية، وانهارت مؤسسات الدولة ومشروعاتها الكبرى نتيجة النهب والفساد، والاختلال الذي أصاب علاقات السودان الخارجية بسبب السياسات غير المبدئية وغير المؤسسية، وانتهاك حقوق الإنسان في كل أنحاء البلاد بدرجة غير مسبوقة رغم النص عليها في الدستور الانتقالي، والاضطراب الذي أصاب التعليم العالي وجعله سوقا رائجة لأهل المقدرة والثراء أن يتعلم أبناؤهم بالحصول على درجات متدنية ويحرم الفقراء المتميزين. كل هذه الجرائم والخطايا المتراكمة كانت خلف غضب الشباب على هذا النظام الفاسد، لأن النتيجة التي ظهرت واضحة أمامهم كالشمس ألا مستقبل البتة لهم تحت ظل هذا النظام الفاشل، فلا تعليم ولا وظائف ولا عمل ولا تنمية ترجى، ولا مقدرة لمساعدة الأسرة الفقيرة التي تنتظر تخرج أبنائها، ولا أمل لهم في زواج أو استقرار في هذا البلد الحفرة. ومهما كانت فرص الخروج مع خطورتها لا تحل معظم أعداد الشباب القابعة في البيوت أو أطراف الشوارع تمارس نشاطات عبثية ومحتقرة.
واكتشف الشباب لدهشتهم أن النظام المستبد ليس فاشلا فقط ولكنه يكره نجاح الآخرين الذين لا ينتمون إليه فلاحق وحاصر مبادرات الشباب الناجحة والمفيدة للمجتمع مثل نشاط منظمة نفير في مساعدة ضحايا السيول والفيضانات التي عجزت الحكومة عن التصدي لها، وتبرعات شباب شارع الحوادث للفقراء من المرضى وتقديم منظمة مجددون ومنظمة صدقات الإفطار لعشرات الآلاف من التلاميذ الفقر وغيرهم كثيرون. إذن كيف يعيش الشباب الجادون المستنيرون من ذوي القيم المثالية والطموحات العالية تحت ظل هذا النظام العابث الفاشل؟ وإلى متى؟ ظهور تجمع المهنيين السودانيين جاء في وقته المناسب لهؤلاء الشباب ليلتفوا من حوله دون جهد كبير فهو لا يحمل شبهة الارتباط بالنظام ولم يحترف السياسية التقليدية التي يحتقرونها ولا يحترمون قادتها من اليسار إلى اليمين، ولا يبدو أن لهم مطامع معينة يخافونها، ثم إنهم شباب مثلهم يعانون مثل ما يعانون ويحلمون مثل يحلمون ويرون الأمور بمنظور شبابي قريب منهم، ثم إنهم يريدون إسقاط هذا النظام جملة وتفصيلا. لذلك كان الارتباط بهم منطقيا وطبيعيا دون مفاوضات ونقاشات ، ثم كان القبول بتوجيهاتهم تلقائيا وسريعا ودقيقا بكل ما جلبته عليهم تلك التوجيهات من ضرب وتعذيب واعتقال وضرب بالرصاص الحي من زبانية النظام الباطش. فقد جمعت بينهم القضية المشتركة وقدر من ثقة لا يجدونها عند الآخرين. فتبعية هؤلاء الشباب المحتشد لقوى الحرية والتغيير واضحة المعالم لا تحتمل التبديل والتسويف فهي تهدف لإسقاط النظام البائد وتسليم الحكم للمدنيين وتصفية تراث النظام الشمولي وإعداد البلاد لممارسة ديمقراطية تعددية ناضجة تتهيأ لها الظروف المناسبة. ولا مساومة في ذلك البتة، وقد حصلت مراجعات وملاحظات بواسطة هؤلاء الشباب لقياداتهم عندما طرحت عليهم مقترحات تخالف ما اتفقوا عليه، وعندما تكلم خطيبهم أمام المعتصمين بصورة مرتجلة لا تعكس فحوى البيان المطلوب منه.
إن القوى الأولى في الساحة السياسية السودانية اليوم هي هؤلاء الشباب المتدافعون للاعتصام في مدن السودان المختلفة ومركزهم ساحة قيادة القوات المسلحة، والقوى الثانية هي قيادات إعلان الحرية والتغيير التي يقودها تجمع المهنيين السودانيين الذي قبل عن قناعة مبكرة بالعمل لتحقيق الأهداف التي يريدها الشباب، والقوى الثالثة هي الجيش السوداني التي تتمثل حاليا في المجلس العسكري وذلك لرمزية المؤسسة العسكرية في الدفاع عن البلد وحماية المواطنين، ولأن قيادته انحازت في اللحظات الأخيرة إلى معسكر الثورة بعد أن طلب منها الرئيس المخلوع أن تفعل ما لا يمكن القيام به في قلب الخرطوم، فإن فعلت كانت سبة الدهر للجيش السوداني ذو الماضي العريق. فقيادة الجيش ليست أصيلة في طلب تغيير النظام ولكنها أعانت عليه بجرأة تحمد لها. وسبق لها أن استجابت في مواطن أخرى لما طلب منها من فعائل منكرة في الجنوب ودارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، بل وقبلت بحشد مليشيات قبلية غير منضبطة يتم تسليحها وتدريبها من قبل الدولة حتى تتصدى بروح انتقامية لأولئك المتمردين المختلفين عرقيا والذين يطالبون بحقهم المشروع في اقتسام السلطة والثروة، وفعلوا ما فعلوا من فظائع تحت إمرة قيادات عسكرية عليا تطلبها الآن محكمة الجنايات الدولية. وعلى كل فالجيش مؤسسة محورية في كيان أي دولة كانت ولا ينبغي لأحد أن يستهين بها أو يقلل من شأنها لكن ذلك لا يعطيها الحق في فرض فيتو على أهداف الثوار الشباب ولا على قياداتهم التي ارتضوها. وليعلم الجميع أن هؤلاء الشباب متعلمون ومستنيرون (ومفتحون يعرفون ما يدور حولهم وراء الكواليس) ولا يستطيع أحد أن يلتف من حولهم أو يخدعهم، لقد (تدردروا) كثيرا في سنوات الإنقاذ المظلمة. صحيح أنهم يحلمون كثيرا فوق واقعهم المنكوب، وهو أمر ليس محمودا في السياسة العملية لكنه محمود في الثورات القوية التي تتوق لتغيير جذري، والتاريخ البشري يشهد بأن معظم التغييرات العظيمة التي أودت بالأوضاع الظالمة المتردية جاءت من المفكرين الحالمين الذين يطلبون الأعالي وتنفذها القوى الحية في المجتمع ثم يتبعها من بعد ذلك التابعون. يروي الامام البخاري عن الرسول ص أنه قال: لو تعلقت همة أحدكم بالثريا لنالها. وأظن أن لهؤلاء الشباب همة تريد أن تنال الثريا وسينالونها عاجلا أو آجلا بسلميتهم التي زلزلت أركان النظام البائد وعرّته أمام العالمين! وميزة هؤلاء الحالمون أن مقدرتهم على التضحية لا حدود لها وصبرهم لا ينضب حتى يحققوا ما يريدون.
هناك تخوف مشروع لدى الشباب أن هناك صفقات إقليمية يدور رحاها مع بعض السياسيين وبعض كبار الضباط وبعض قيادات الحركات على حساب أهداف الثورة العليا، تكاد تلك المخاوف تبلغ درجة الاتهام وتسمي بعض أولئك حقا أو ظنا، والحديث حول هذا الموضوع أصبح مباحا ومكشوفا في الشارع السوداني ولا ينبغي لقيادة الجيش السوداني أن تكون طرفا في هذا التلاحم المشبوه رغم الضغوط المكثفة التي تتعرض لها من اللاعبين الإقليميين المتنفذين. ومن تلك المخاوف بطء استجابة المجلس العسكري للاستجابة “للوثيقة الدستورية” التي تقدمت بها قوى الحرية والتغيير ومحاولة ادخال تغييرات أساسية عليها. وقد رد الدكتور نبيل أديب عبد الله على تعديلات المجلس العسكري بأنها غير مبررة وغير مطلوبة لأن الوثيقة المقدمة عبارة عن إعلان دستوري مهمته الأساسية مخاطبة الفراغ الدستوري القائم بشكل جزئي ومستعجل، وذلك بوضع هياكل مدنية للحكم قادرة على استلام السلطة وممارستها في حدود الصلاحيات المحددة لها والمتعارف عليها في مجتمع ديمقراطي، فهي ليست دستورا انتقاليا لأن ذلك يحتاج لجهد كبير ولمشاورات واسعة بين كل أهل السودان تحتاج لوقت طويل. كما أن هناك عدة قوانين سارية المفعول تغطي بعض الملاحظات التي أثيرت في التعديلات مثل المحكمة الدستورية وصلاحيات النائب العام وغيرها، وليس هناك ما يمنع استكمال ما يظهر من نواقص عبر تشريعات المجلس التشريعي المقترح. ولكل ذلك أرجو أن يستجيب المجلس العسكري الانتقالي بأسرع ما تيسر للوثيقة الدستورية حتى تمضي السفينة في أمن وسلام لمرساها المرتجى في تحقيق النظام الديمقراطي المدني دون المزيد من القلاقل والاضطرابات. ولا ينبغي للمجلس العسكري أن ينسى أن هناك قوى إقليمية ودولية مؤثرة وغالبة تطالب السودان بالتحول إلى نظام مدني ديمقراطي في أقصر وقت مثل الاتحاد الافريقي الذي يهدد بتعليق عضوية السودان إذا أصبح المجلس العسكري هو الحاكم الفعلي أو تباطأ في تسليم السلطة إلى المدنيين، وهناك الولايات المتحدة التي لن تنظر في رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في ظل حكم عسكري، وهناك الأمم المتحدة والدول الغربية قاطبة، فالقضية ليست محصورة في دول الخليج ومصر حماة الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي. كما أرجو من قيادة إعلان الحرية والتغيير أن لا تتعجل باستعمال وسائل أكثر عنفا مثل الاضراب السياسي والعصيان المدني لأن ذلك سيطيل أمد الصراع وقد يتعرض الصف الموحد لانشقاقات من هنا وهناك، وأن تبدأ بخطوة جريئة مع شبابها المتوحد خلفها وذلك بأن تكشف لهم أوراقها كاملة تحديد فيها هياكل الدولة وصلاحياتها وأسماء المرشحين لها وبرامجها المخططة للحكومة، وأن تأخذ موافقة جماعية غالبة على هذه المقترحات وتطلب من الشباب الدفاع عن هذه المقترحات أمام المجلس العسكري وبقية القوى السياسية ليعرف كل أحد قدره وسط الجماهير الثائرة. ولا بأس أن تدعو المجلس العسكري والقادة السياسيين لحضور إفطار في ساحة الاعتصام وينخرطوا في نقاش عقلاني حول القضايا الرئيسة بصورة حضارية منظمة محروسة بضباط من الجيش والشرطة حتى لا تتكرر حادثة قاعة الصداقة المؤسفة.