بابكر فيصل*
تناولت في الجزء الأول من هذا المقال وجهة النظر العنصرية التي أبداها الكاتب السوري نبيل فياض تجاه السودانيين والأفارقة على وجه العموم، حيث وصفهم بأنهم “معاقين فيزيولوجيا” ولا عقلانيين بطبعهم، بشبهة أن عرقهم الزنجي يجعلهم عاجزين عن التفكير المنطقي السليم، وأوضحت أن تلك الفرية تخالف معطيات العلم، وتنم عن جهل الكاتب العميق بالتاريخ الذي تشهد وقائعه بأن تلك الشعوب المتهمة بالعجز العقلي شادت حضارات عريقة ومزدهرة.
لم يقتصر جهل الكاتب نبيل فياض على التاريخ البعيد، بل هو كذلك أظهر عدم دراية ومعرفة حتى بالتاريخ القريب المرتبط بدخول الإسلام للسودان وبنوع التدين السائد في ذلك البلد وبلدان أفريقيا على وجه العموم.
العنصرية آفة أخلاقية بغيضة تتناقض مع مبادئ الكرامة والمساواة بين البشر
فقد استعصت بلاد النوبة (السودان) على الفتح الإسلامي بالقوة، ولم يدخلها الإسلام إلا عن طريق التجار ورجال الدين الوافدين، وهو الأمر الذي أوردته كتب السيرة الموثوقة، ومنها كتاب “السيرة والمغازي”، لأبي عبد الله محمد بن عمر (الواقدي).
روى الواقدي أن المسلمين عندما دخلوا مصر أرسلوا “عقبة بن نافع الفهري” في حملة إلى بلاد النوبة لإخضاعها، غير أن المسلمين لاقوا عناء شديدا في تلك الحملة من جراء مهارة أهل النوبة في الرمي بالسهام والنبل، حتى أنهم أصابوا كثير من المسلمين في أحداقهم، وانصرف المسلمون بجراحات كثيرة وحدق مفقوءة، وسموا “رماة الحدق”.
فعن الواقدي قال: “حدثنا ابراهيم بن جعفر عن عمر ابن الحارث عن أبى قبيل حيى بن هاني المعافرى، عن شيخ من حمير قال: “شهدت النوبة مرتين في ولاية عمر بن الخطاب، فلم أر قوما أحد في حرب منهم. لقد رأيت أحدهم يقول للمسلم: أين تحب أن أضع سهمي منك؟ فربما عبث الفتى منا فقال: في مكان كذا، فلا يخطئه، كانوا يكثرون الرمي بالنبل فما يكاد يرى من نبلهم في الأرض شيء. فخرجوا إلينا ذات يوم فصافونا ونحن نريد أن نجعلها حملة واحدة بالسيوف، فما قدرنا على معالجتهم. رمونا حتى ذهبت الأعين فعدت مئة وخمسون عينا مفقوءة، فقلنا: ما لهؤلاء خير من الصلح، إن سلبهم لقليل وإن نكابتهم لشديدة”.
لا شك أن هؤلاء القوم الأشداء الذين شهد لهم هذا الشيخ الحميري بالمناجزة والبسالة في القتال، لم يكونوا “معاقين فيزيولوجيا” كما يدعي فياض، فهم إذ يزودون عن حياض بلدهم ويتصدون للغزاة بالرمي وبالسيوف حتى يردوهم على أعقابهم خاسرين إنما يصدرون عن مهارة لا تتوفر لذوي الإعاقة الطبيعية، جسدية كانت أو عقلية.
كانت نتيجة التصدي الباسل للغزاة المسلمين، وتسرُّب الدين الجديد لبلاد السودان عبر التجار ورجال الدين بعد أن عقد المسلمون “اتفاقية البقط” مع ملوك النوبة، هي سيادة النسخة العرفانية من الإسلام المتمثلة في التصوف الذي يُعوَّل أصحابه على الباطن “الحقيقة” وليس الظاهر “الشريعة”، وهي أكثر صيغ التدين الإسلامي تسامحا ومرونة وقبولا للآخر، ولذلك فقد اختلطت بسهولة ويسر مع الموروث الديني والأعراف والتقاليد المحلية فأنتجت صيغة دينية متميزة اصطلح على تسميتها بـ “إسلام أهل السودان”.
وعلى الرغم من أن أهل السودان مسلمون سنيِّون يتحاكمون إلى المذهب المالكي، إلا أن ولائهم الأكبر ظل للعرفان الصوفي، وليس لإسلام الفقهاء التقليدي، وهو ما يُفسر بعدهم الشديد عن التزمت والتعصب والعنف الذي اتسم به إسلام الصحراء، ولهذا السبب لم تستطع جيوش الفكر السلفي الوهابي أن تغزو مجتمعهم إلا بشكل محدود في الآونة الأخيرة بسبب الدعم المادي الكبير القادم من دول النفط في الجزيرة العربية.
مثلما استعصى السودان على السلفية الوهابية، فهو كذلك لم يستسلم لفكر جماعة الإخوان المسلمين الذي تسلل إليه من مصر في النصف الثاني من القرن العشرين، وبرغم نجاح الجماعة في الوصول للسلطة عبر الانقلاب العسكري في حزيران/يونيو 1989 إلا أنها لم تتمكن من إحداث تغيير كبير في تدين أهل البلاد، حيث ظلت الفكر الإخواني محاصرا ومحصورا في فئات محدودة تواجه اليوم أكبر ثورة عرفها الشعب السوداني منذ أن نال استقلاله من المستعمر البريطاني في عام 1956.
ومن ناحية أخرى، فقد عرف السودان تنوعا دينيا كبيرا انعكس في التعايش السلمي بين المسيحيين والمسلمين وأصحاب الديانات الأفريقية الإحيائية، ولم يعكر صفو هذا التعايش سوى فترة الحكم الاستبدادي الأخيرة التي انفرد فيها الإخوان المسلمين بحكم البلاد، وقاموا بسن قوانين تضيق على المسلمين وغير المسلمين على حد سواء، وهو الأمر الذي واجهه الشعب السوداني برفض شديد.
لم يقتصر رفض الفكر السلفي والإخواني على السودان، بل امتد لمختلف دول القارة من أقصى غربها إلى أقصى شرقها، حيث تبدت المقاومة الشرسة من قبل الشعوب الأفريقية للتنظيمات المتطرفة من شاكلة القاعدة وبوكو حرام والشباب الصومالي، فهي إذ تتناقض مع الإسلام الصوفي المتسامح الذي يسود في تلك الدول تشكل تهديدا كبيرا للسلم الاجتماعي والتعايش الديني بين مختلف مكونات المجتمعات الإفريقية.
هذه الحقائق الماثلة على الأرض، أي رفض النسخ الإسلامية المنغلقة علاوة على التنوع والتعايش بين الأديان المختلفة في دول أفريقيا، تُبطل بصورة حاسمة النبوءة التي قال بها فياض من أن الإسلام السني ـ الأشعري المنغلق سيجد له مكانة في أرض أفريقيا، بل أنه بحسب ادعائه سيصبح “دين الزنوج القومي”، وهو الأمر الذي تعارضه الوقائع من وحي الرفض الكبير لتلك النسخ من الإسلام في القارة السوداء.
لم يقتصر رفض الفكر السلفي والإخواني على السودان، بل امتد لمختلف دول القارة
المفارقة المثيرة للدهشة في هذا الإطار هي أن السودانيين الذين يزدريهم فياض ويصفهم بـ”المعاقين فيزيولوجيا”، هم أنفسهم ذات الشعب الذي بسط ذراعيه وفتح أراضيه لاستقبال عشرات الآلاف من المواطنين السوريين الفارين من جحيم الحرب الأهلية، حيث شاركهم المأكل والمشرب والمسكن دون من أو أذى رغم عسر الأوضاع وضنك العيش الذي تسببت فيه ثلاث عقود من حكم الإخوان المسلمين لذلك البلد الأمين.
العنصرية آفة أخلاقية بغيضة تتناقض مع مبادئ الكرامة والمساواة بين البشر، وتنتقص من حقوق الإنسان، وفوق هذا وذاك فإنها خاطئة علميا، ويترتب عليها مخاطر سياسية واجتماعية كبيرة تهدد التعايش السلمي بين الأفراد والشعوب والدول، والأمر كذلك فإنه يجدر بالمثقفين، خصوصا الذين ينسبون أنفسهم لمبادئ الديموقراطية والعلمانية والليبرالية، أن يقفوا في مقدمة الصفوف التي تدين هذا السلوك وألا يروجوا له بأي شكل من الأشكال.
نبيل فياض: العلماني العنصري (1)
بابكر فيصل/
نبيل فياض كاتب سوري متخصص في تاريخ الأديان، نشرت له العديد من الأبحاث والكتب المتعلقة بالديانتين الإسلامية واليهودية، وهو أيضا أحد المؤسسين لحركة عدل (علمانيون ديمقراطيون ليبراليون).
في مقدمة كتابه “يوم انحدر الجمل من السقيفة” والتي جاءت تحت عنوان “صحوة أم صحوة “موت”!؟” تحدث فياض عن مستقبل ما أسماه “الإسلام السني ـ الأشعري” في القرن الحادي والعشرين وفي ظل سيادة العولمة، متوقعا أن تلك النسخة من الإسلام لن تدوم وستنتهي مع انتهاء النفط وسيطرة البدو على العقل في المنطقة.
عندما نضع نبيل فياض في مكانة واحدة مع الفاشيين والنازيين فإننا لا نتجنى عليه
قال فياض: “ولا نشك للحظة أن عموم السنة الأشعريين سينتهون إما إلى مذهب إسلامي آخر أو كعلمانيين أو إلحاديين. قد تظل هنالك جزر سنية أشعرية معزولة في هذا المكان أو ذاك، لكن تلك المناطق ستكون محددة بالشعوب المعاقة فيزيولوجيا عن صيرورة التفكير، وهكذا تتحد الإعاقة الفيزيولوجية بالإعاقة الدوغمائية ليتولد بالتالي أصلب العقائد سكونية فكريا وأعصاها على الصيرورة حركيا، وخير أنموذج على ذلك إسلام السودان الحالي. بكلمة واحدة: سيصبح الإسلام في القرن القادم، على الأرجح، دين الزنوج القومي!”.
يبدو جليا من الاقتباس أعلاه من المقدمة التي خطها يراع فياض أنه يعتبر أن السودانيين أو الأفارقة على وجه العموم (الزنوج) يندرجون تحت مظلة الشعوب “المعاقة فيزيولوجيا”، بمعنى أنها تفتقد بالطبيعة الخَلقية للقدرات العقلية التي تمكنها من التفكير المنطقي السليم، وبالتالي فهي ستكون الملاذ الوحيد للإسلام السني ـ الأشعري الذي وفقا لما يُستنتج من كلامه لا يتناسب إلا مع طبيعة الشعوب المتخلفة عقليا والجامدة فكريا.
السلوك العنصري ينطوي على اعتقاد مستبطن أو مكشوف بأن هناك صفات وعناصر عضوية موروثة بطبائع الناس وقدراتهم بسبب انتمائهم لجماعة أو شعب أو عرق ما، ويأتي في مقدمة تلك الصفات الطبيعية ـ بحسب رأي العنصريين ـ محدودية القدرات العقلية والذهنية وما يرتبط بها من سمات سلوكية سالبة، وهو الأمر الذي تترتب عليه العديد من النتائج التي تبرر التمييز ضد تلك الجماعات والشعوب والأعراق.
مما يستغرب له أن كاتبا يحمل صفات (علماني ديمقراطي ليبرالي) يكتب بهذه اللغة العنصرية الفظة في إطار نقده لأفكار دينية يرى أنها لم تولد سوى الإقصاء والانغلاق والجمود، وهذه مفارقة تستعصي على الفهم والإدراك، ذلك لأن نظرته العنصرية الاستعلائية تجاه “الزنوج” لا تتماشى مع ثالوث الصفات التي يدعي أنها تنطبق عليه، فالشخص العلماني الديمقراطي الليبرالي هو بالضرورة ليس متزمتا أو إقصائيا أو عنصريا.
النظرة العنصرية تجاه الأفارقة والسود ليست جديدة، فقد ظلت موجودة طوال التاريخ وما زالت آثارها باقية حتى اليوم، وقد عبَّر عنها ابن خلدون في “المقدمة” بالقول: “قد رأينا من خلق السودان على العموم الخفة والطيش وكثرة الطرب فتجدهم مولعين بالرقص على كل توقيع موصوفين بالحمق في كل قطر” وعزا سبب ذلك السلوك “لانتشار الروح الحيواني وتفشيه”.
أما نبيل فياض فقد حذا حذو جالينوس ويعقوب بن إسحاق الكندي اللذان أرجعا صفات “الخفة والطيش” لضعف أدمغة الأفارقة وما نشأ عنه من ضعف عقولهم، وهذا هو نفس المبرر الذي وقف وراء حملات الاستعمار الأوروبي لإفريقيا في القرن التاسع عشر والتي حملت شعارا براقا زائفا هو “عبء الرجل الأبيض”، وهو الشعار الذي أخفى أطماع البيض في نهب ثروات القارة السوداء تحت حجة المسؤولية الأخلاقية للأوربيين في إخراج الأفارقة البدائيين من ظلام الكهوف والتخلف إلى أنوار الحضارة والعمران.
قد قامت براهين علمية كافية على أن الفوارق النوعية بين الشعوب في الفاعلية أو طرائق التفكير أو أساليب التعامل أو مهارات الحياة لا تعود إلى اختلاف بيولوجي جيني “عرقي” وإنما تُعزى للعديد من التمايزات في البنى الاجتماعية والبيئات الثقافية والأنظمة السياسية التي تسببت فيها عوامل تاريخية وجغرافية ودينية ليس من بينها اختلاف الأعراق.
إن اعتقاد فياض بوجود شعوب “معاقة فيزيولوجيا” عن صيرورة التفكير بطبيعتها (الشعوب الأفريقية في هذه الحالة) مما يجعلها غير مؤهلة لإعمال عقولها من أجل الارتقاء في سلم الحضارة، يضعه في صف واحد مع أصحاب نظرية “النقاء العرقي” من النازيين والفاشيين الذين يدَّعون أن العرقين الجرماني والروماني يتمتعان باصطفائية طبيعية خاصة ومتميزة عن جميع الشعوب (بما فيها الشعب السوري) التي تقع في منزلة أدنى منهما.
ونحن عندما نضع نبيل فياض في مكانة واحدة مع الفاشيين والنازيين فإننا لا نتجنى عليه، فهو إذ يؤمن أن البشر غير متساوين بالطبيعة إنما يتشارك مع أولئك في نفس الرؤية للحياة، فها هو الفوهرر أدولف هتلر يؤكد أن “قاعدة وجهة النظر الوطنية ـ الاشتراكية حول الحياة هي رؤية انعدام الشبه بين البشر!”.
ومن ناحية أخرى، فإن نظرة فياض للسودانيين والأفارقة تنم عن جهل عميق ليس فقط بحقائق العلم التي تنفي تفاوت البشر في القدرات العقلية بطبيعتهم، بل بوقائع التاريخ التي تؤكد أن تلك الشعوب المتهمة بالقصور العقلي والضمور الفكري قد شيدت حضارات عظيمة سادت لفترات تاريخية طويلة سبقت العديد من الشعوب الأخرى.
أهرامات في صحراء مروي، شمالي الخرطوم، بنيت في عهد مملكة “كوش” قبل حوالي 4000 عام
أهرامات في صحراء مروي، شمالي الخرطوم، بنيت في عهد مملكة “كوش” قبل حوالي 4000 عام
إذ شيّد السودانيون حضارة “كوش”، وهي كلمة إغريقية تعني بلاد ذوي الوجوه السوداء أو المحروقة بالشمس، بممالكها الثلاث (كرمة ونبتة ومروي) قبل حوالي 4000 عام، وهي الحضارة التي وصلت أوج هيمنتها بين القرنين الثامن والرابع قبل الميلاد، لتصبح إمبراطورية شاسعة يصل نفوذها إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط شمالا، وأعماق إفريقيا جنوبا، وهو ما أتاح لها مساحة هائلة، ساهمت في تبادل المعارف من فنون وهندسة ولغات وأديان. وما تزال آثار تلك الحضارة المتمثلة في المباني والأهرامات والمعابد قائمة حتى اليوم.
وتسجل التوراة بعض الأحداث التي تمجد تاريخ ملوك كوش الذين حكموا مصر وحاربوا الآشوريين في مصر وفلسطين. ومنهم ترهاقا العظيم الذي وردت الإشارة إليه بالاسم مرتين في التوراة. مرة في سفر الملوك الثاني ومرة بسفر أشيعاء.
نظرة فياض للسودانيين والأفارقة تنم عن جهل عميق ليس فقط بحقائق العلم
وقد اشتهرت مملكة مروي بالاستثمار في صناعة الحديد والمشاركة الفعالة في التجارة العالمية مع الهند والصين، وهو ما جعلها تستقطب عمال التعدين من كل أنحاء العالم، ولهذا السبب أطلق عليها المؤرخون اسم بيرمنغهام إفريقيا بسبب إنتاجها الهائل للحديد وتصديره خاما ومصنعا.
ومثلما كانت “زنوبيا” السورية “حاكمة وطنية ـ حضارية أشادت عاصمة أسطورية عجزت عن إزالتها كل عوامل البغي والتصحر، وكونت جيشا كاد أن يسحق روما بعظمتها وسطوتها”، فإن ملكات سودانيات عظيمات اعتلين عرش الدولة المروية واستطعن أن يحكمن لفترات طويلة، وعلى رأسهن الملكة “أماني ريناس” التي حكمت مروي لخمسة وعشرين وعاما حققت خلالها انتصارات عديدة على الرومان.
صحيح أن تلك الحضارة السودانية قد اندثرت ولكن هذا الأمر ليس استثناء في تاريخ الشعوب، فالحضارات تمر بمراحل نمو وازدهار ثم تراجع وانهيار، وهو ما حدث بالنسبة للحضارة المصرية واليونانية والبابلية والعربية وغيرها، مما يعني أن التراجع الحضاري لا يدل على وجود إعاقة عقلية موروثة لدى الشعب المعين، ولكنها سنّة التاريخ الماضية في كل الأزمان.
*باحث مختص بشؤون حل النزاعات. محلل مهتم بالجماعات الإسلامية، وله دراسات متعددة في هذا المجال. حاصل على درجتي ماجستير من جامعتي الخرطوم بالسودان و دنفر في الولايات المتحدة الأميركية.