(مهند) والاساءة للذات الرئاسية..!!

سيف الدولة حمدناالله عبدالقادر
عند نشر هذه السطور ، يكون الشاب (مهند نجم الدين خيري) قد امضى ليلته الخامسة بسجن امدرمان التليد ، بعيداً عن والدته واخوته واهله ، وكان (مهند) – وفق ما اوردته جريدة الصحافة
– قد صدر في حقه حكم بالسجن ثلاثة اشهر مع الغرامة 500 جنيه بواسطة قاضي محكمة جنايات الخرطوم شمال ، بتهمة اشتراكه في مظاهرة مناهضة للنظام وقيامه بتوزيع منشورات تتضمن ما اعتبر انه اساءة في حق رئيس الجمهورية . وقد قدرت المحكمة ان جريمة (مهند) تستحق ذات العقوبة (السجن ثلاثة اشهر) التي صدرت – في نفس اليوم – من ذات المحكمة في حق الطبيب الذي تحرش بمريضته جنسياً وهي في حالة حرجة باحدى المستشفيات الاميرية.
الواقع ان المحكمة – بهذا الحكم – هي التي اساءت للرئيس ونظامه وليس (مهند) الذي فعل ، فقد كشفت المحكمة كما تكشف اخواتها ذات (الخيم) وذات (الموبايل) انها محاكم تصدر احكامها وتنفذها باسم السلطان لا باسم الشعب ، فهي محاكم تعنى بحماية اركان السلطة وصولجان النظام ولا تأبه بحقوق العوام ، فالعدالة (الناجزة) التي استطاعت ان ترسل – خلال دقائق – (مهند) الى السجن بمثل هذا الحكم الغليظ قبل ان يجف الهتاف في حلقه ، فشلت في التصدي – طوال فترة حكم الانقاذ – لقضايا الفساد والمفسدين، ولم تفلح تلك المحاكم في القصاص من الايدي الآثمة التي ازهقت ارواح الالاف من ضحايا هذا النظام ، ولم تنجح في استرداد ثروات البلاد التي نهبت ، و لا تزال تلك الايدي طليقة لم تخضع حتى لتحقيق شكلي يذرالرماد في العيون .
بحسب علمي ، لا يوجد في قانون العقوبات السوداني منذ عهد اللورد كتشنر جريمة تسمى (اساءة الرئيس) ، وبحسب علمي ايضاً ، فان الملك فاروق ابن الخديوي محمد علي وملك مصر والسودان ، كان آخر من طبٌق تشريعاً يحوي جريمة (الطعن في الذات الملكية ) وهي الجريمة التي تعادل – وفق محاكم العصبة – جريمة اساءة الرئيس او (الطعن في الذات الرئاسية) .
قانون العقوبات السوداني – منذ نشأته – ينص في باب جريمة (اساءة الموظف العام ) وهو ذات النص الذي يسري في عهد هذه العصبة التي شيدت تاريخها السياسي بالمظاهرات (المليونية) التي كانت تخرج لاضعاف النظام الديمقراطي دون ان يطالبها احد بابراز (تصديق) ، ينص – قانون العقوبات – على عدم توفر اركان جريمة (اساءة الموظف العام) ، اذا كان ما نسب اليه من الوقائع التي تشكل اساءة صحيحة (في مجملها) وليس في تفاصيلها ، ولتوضيح ذلك – في تبسيط شديد – اذا قام شخص بنشر اخبار مفادها ان (موظفاً عاماً) تسلم رشوة مقدارها الف جنيه لتسهيل حصول (الراشي) على رخصة قيادة ، فان الخبر يكون صحيحاً في (مجمله) ، حتى لو اتضح ان الرشوة كانت (بغلاً) تسلمه الموظف العام لتسهيل حصول الراشي على تسهيلات جمركية ، وهنا نكرر – لبغرض التوضيح – لا يشكل نشر خبر (الرشوة) جريمة ما دام الخبر في اطاره العام صحيحاً .
المشير عمر البشير – لاغراض القانون – يعتبر موظفاً عاماً بدرجة رئيس جمهورية، وهو في ذلك لا يختلف عن اي موظف عام بمصلحة المرطبات ، الا في تمتعه بالحصانة الرئاسية التي تمنع ملاحقته جنائياً ،الا باتباع اجراءات معينة ليس هناك ما يدعونا للخوض فيها ، ولكن هذا الوضع ليس صحيحاً اذا وقف (الرئيس) في صندوق الادعاء ، حيث يقتضي صحيح القانون ، ان يقوم رئيس الجمهورية ، اذا ما رأى ان ثمة اساءة قد وجهت اليه بتقديم (شكوى) بنفسه ضد من الحق به الاساءة ، ولا يجوز ان يتولى جهاز الدولة (الشرطة والنيابة) تقديم الشكوى نيابة عنه.
بطبيعة الحال لم تفرد الصحيفة التي قامت بنشر خبر (اساءة الرئيس) حيزاً لبيان العبارات التي (هتف) بها مهند ، ولا تلك التي احتوتها المنشورات التي قام بتوزيعها والتي تتضمٌن – وفق عقيدة المحكمة – ما يعد اساءة في حق الرئيس ، فالواقع ان ما قال به (مهند) ورفاقه يعتبر – بلغة اهل الذكر – من الامور المعلومة بالضرورة في حق دولة الانقاذ ، ولكي تصح ادانة (مهند) التي يستحق عليها السجن ثلاثة اشهر وغرامة تعادل راتب شهرين (حينما يحصل على وظيفة) ، كان ينبغي على الاتهام ان يقدم ما يثبت كذب ما قال به (مهند) ورفاقه حول مسئولية الرئيس عن الجوع والبطالة والفقروالفساد وانعدام الحرية.
ولا بد لنا – والحديث عن الذات الرئاسية – ان نشير الى الحكم الذي اصدرته محكمة بولاق الدكرور بالسجن ستة اشهر والغرامة مائتي جنيه في حق الصحفي ابراهيم عيسى لنشره في صحيفته (الدستور) اخباراً حول صحة الرئيس حسني مبارك ، ورغم تقارب الشبه بين الحكمين ، الا ان وجه الخلاف بينما انزلته محكمة جنايات بولاق مع رديفتها بالخرطوم شمال ، ان المحكمة البولاقية استندت في حكمها على مخاطر نشر اخبار (كاذبة) حول صحة الرئيس على عجلة الاقتصاد وتدفق الاستثمار الاجنبي ، وعلى وجاهة اسباب الحكم في مظهره ، الا ان الرئيس مبارك استحى من مناداة اسمه في قاعات المحاكم فسارع باستخدام صلاحياته الرئاسية واسقط عقوبتي السجن والغرامة عن الصحفي ابراهيم عيسى.
قبل بضعة شهور كنت قد كتبت مقالاً بعنوان (التنكيل القضائي بالصحفي اباذر الامين) وذلك بمناسبة صدور حكم – من ذات المحكمة – بالسجن مدة خمس سنوات على الصحفي اباذر بسبب نشره لمقال قيل ان من شأنه – المقال – ان يقوض الدستور وينتقص من هيبة الدولة ويؤدي الى خلق الفتنة لما احتواه من (اخبار كاذبة) ، ولست هنا بصدد تكرار ما ذكرته حول بطلان التهم التي حوكم الصحفي اباذر بموجبها ، فليس هناك من يأبه – من اهل القضاء – لما نقول به ، ولا يطالنا مما نقول غير الشتائم التي تلحقنا في الاسافير . واذا كان لا بد لنا من تكرار بعض مما قلنا به في ذلك المقال ، فاننا نقول بانه لا بد ان يأتي اليوم الذي يشعر فيه القاضي الذي اصدر الحكم على (مهند) بالندم والخجل من هذا الحكم الجائر و المعيب ، يوم تزول دولة الشيطان ويزول عنه السلطان ، فكم قبله من اصحاب السلطة الذين تلحفتهم الخيبة والعار الذي لن يغسل ، وتجرعوا مرارة الندم ….جراء احكامهم الجائرة التي نسوا فيها الرحمن وتقربوا بها للسلطان … بعد ان فات الاوان.
فليلعق الرئيس الاساءات التي جلبها بيده – لا بيد “مهند” – على نفسه ، والحرية للشاب المكلوم (مهند) ، الذي سيبقى عمره اذهى وابقى من عمر جلاديه .

سيف الدولة حمدناالله
[email protected]


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *