محجوب حسين
مراجعات الأول تقودني إلى عبارة شائعة لا أعرف أين أدرجها، هل في خانة الأمثال أم الحِكم أم العِبر؟ وهي سائدة بين سكان غرب السودان، وبالأخص إقليم دارفور السوداني، العبارة تقول ‘فاس إلما وراها ناس′، وبإعمال تحليل مضمونها نجدها عبارة توحي برمزية تاريخية دينية صوفية، شكلت وجدان أهل غرب السودان مع المغرب لعهود قديمة خلت عبر مدينة ‘فاس′ المغربية العتيقة، التي تعتبر ضمن أقدم مدن العالم في مرحلة من التاريخ، فضلا عن أنها تعتبر ضمن تاريخ الغرب الإسلامي منارة مركزية للثقافة والفكر والآداب، وفضاء لإشعاع ديني روحي صوفي انطلقت منه طريقة ‘التيجانية’ الصوفية لسيدي الشيخ أحمد التيجاني المولود والمتوفى في فاس، يذكر أن هذه الطريقة يتبعها غالبية مسلمي غرب أفريقيا وغرب السودان، في خصوصيته التي تضمن له امتداده الجغرافي عبر الصحراء الكبرى مع الجزائر وليبيا والمغرب وبلاد شنقيط والسنغال، ونتيجة لهذه العلاقات الدينية المتجذرة، وفي فترة من التاريخ جاء هذا الوفاء لمدينة فاس ‘إلما وراها ناس′ كما يقولون ، بمعنى ليس وراء مدينة ‘فاس′ بشر آخرون، وبشر آخرون لا تعني البشر بقدر ما تعني ألا حضارة أخرى غير الحضارة الإسلامية، التي وصلت قمتها وبلغت حدها النهائي هناك، أي في ‘فاس′ مرقد الشيخ، وهو تيقن صوفي بامتياز يربط بين ‘الشيخ’ المؤسس ومريديه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل ويؤكد على دور ومكانة مدينة ‘فاس′ الدينية في الضمير الجمعي للشعب السوداني، من خلال التاريخي والروحي، هذا غير الهجرات التي تقصد الكعبة المشرفة في الحجاز. نشير في هذا الصدد، وما دام الحديث عن فاس والمغرب أن رئيس الوزراء المغربي الحالي السيد عبد الإله بنكيران، رغم مولده ونشأته في ‘الرباط’ العاصمة، إلا أنه ينتمي لأسرة فاسية الأصل، فهو بذلك رباطي بحكم الميلاد، إلا أنه فاسي الهوى. عبدالإله بنكيران أيضا رئيس حركة ‘العدل والتنمية’ المغربية التي حازت أغلبية برلمانية في الانتخابات المغربية التي اقيمت قبل عامين، ما أفسح له المجال كزعيم للمعارضة ‘الإسلاموية’ في مجلس النواب أن ينال ثقة الملك المغربي، ليرأس ويشكل أول حكومة يقودها إسلامي في التاريخ السياسي الحديث للمملكة .
أذكر وقبل حوالي خمسة عشر عاما أنني أجريت حوارا صحافيا معه لصالح صحيفة ‘ الحياة النيابية’ التي تعنى بالشؤون البرلمانية والحزبية، وكان ذلك بمنزله الكائن بحي الليمون الواقع قبالة شارع الحسن الثاني في العاصمة المغربية الرباط، غطى الحوار قضايا سياسية مغربية ساخنة في المشهد المغربي وعرج بعد ذلك إلى قضايا فكرية وبعض الإشكاليات محل الجدل في الفكر الحركي الإسلاموي، اهمها قضايا الديمقراطية والدولة المدنية والحريات وحقوق الإنسان، والإرهاب والمواطنة والعدل والمساواة، كقيم إنسانية وحضارية وكونية محل اتفاق، بغض النظر عن المرجعيات على كثرتها، قال أثناء الدردشة قبل الحوار وفي ما معناه أن أقرب وأقصر طريق للمشروع الإسلامي هو التكيف مع طريق الديمقراطية، وأهم شرط فيها الملاءمة التي تتفق وشروط الواقع في كمه ونوعه، من دون تجاوز مهما كانت الصعوبات التي ينبغي الصبرعليها لتحقيق الأهداف، كما يرى في جزيئية ثانية ان البناء يجب ان يبدأ من تحت إلى فوق، وليس العكس، او أن يتمدد الفكر الإسلامي بشكل أفقي، وعلى شيوخ الحركة الإسلامية في هذه الحالة النزول إلى الأرض لبناء شرعية مكتملة هي وحدها التي ُتؤمن الفوز الإسلامي، ليسألني فجأة بقوله ‘كيف حال الشيخ الترابي وجون قرنق؟!’، قلت له، إن الترابي ومجموعته العسكرية والإسلاموية مشغولون بالتمكين في الأرض السودانية عبر الانتهاكات الكبرى لحقوق الإنسان – في سنوات الإنقاذ الأولى- أما جون قرنق فما زال ثائرا، لم يعقب ولكنه أشار إلى رفضه ‘التمكين’ لتكريس السيطرة والحكم، وهي شرعية ناقصة تنزع من الآخرين حريتهم، ويدعو إلى تمكين الأمة كاملة لا فئة على فئة، لان في ذلك خسرانا وفرقة بين الأمة المسلمة الواحدة وانحرافا عن الدين. وقناعته أن الاغلبية صاحبة حق والأقلية صاحبة حق وكلاهما يكملان بعضهما بعضا.
هذه القناعات التي تحمل أبعادا فلسفية في الرؤية والفكر للمشروع الإسلاموي المتصالح مع شروط الزمكان في المغرب العربي هي التي أوصلت حركة ‘العدالة والتنمية ‘ للأغلبية، ومنها إلى سدة السلطة. في حين ان الناظر للحقل السياسي المغربي وأدوات عمله واشتغاله وقتها، لا يعطي حركة ذات مرجعيات إسلامية ناشئة جديدة تتزعمها شخصية مثيرة للجدل السياسي، إبان تلك الفترة ليس بعد خمسة عشر عاما، بل خمسمئة عام- لانهم جميعا خارج العملية السياسية تماما- هذا الصعود الصاروخي في نظام سياسي مغربي، فيه كتلتا اليسار التقدمي الديمقراطي والوسط اليميني قويتان وديناميكيتان في لعبة سياسية مضبوطة عرفت بالتناوب في تسعينيات القرن الماضي وقطبه يسار مغربي عميق ومتجذر اجتماعيا وفكريا وتاريخيا، من دون أن ننسى أن المجال الديني، وهو محل تلاعب الإسلامويين في كل العالم، إلا أنه مرتب ومنظم في النظام المغربي ومحتكر لدى سلطة الملك ‘امير المؤمنين’ بشكل لا يتيح التلاعب والمتاجرة، ويحفظ للبلاد وحدتها وهويتها الحضارية، وهي مسألة لها أبعادها في التراث السياسي والديني والعرفي المغربي، وتلك هي خصوصية يمتاز بها المغرب عن غيره من الدول، خصوصا في المشرق العربي .
اما مقاربة هذه المراجعات مع مفارقات حكام الخرطوم أو قل إسلامويه، كما يزعمون، الذي صوره مبدع كاركاتير سوداني يصور فيه المشهد السوداني بسوق شعبي لعصابة تشتغل في’النشل’، وليس في تدبير شؤون الناس وسماها بـ’نشالي’ الخرطوم والنشل يعني السرقة علانية وفي وضح النهار، لأن مشروع الحركة الإسلامية في السودان ثبت أمرين أساسيين وهذا محل اتفاق جمعي سوداني، أولهما حراسة مكسب السلطة لحماية ايديولوجيا ‘التمكين’ الحاكمة بالدم والرصاص، وبجرد عشوائي نجد الأرواح التي أزهقت، والجالس على كرسي الحكم البشير، لا تقل عن ثمانمئة روح سودانية، فالشرعية هنا هي شرعية القتل لحماية التمكين الاقتصادي، الذي أساسه كما وصفه رسام الكاركاتير ‘النشل’ للسلطة والاقتصاد تحت غطاء تبريرات الإسلام السياسي، فأصبحت هي القوى المنتجة وحددت منهجها لعلاقات الإنتاج التحتية، والتمكين ليس لكل فئات المجتمع والأمة، كما يقول بنكيران، وإنما لفائدة قوم السلطان الضال والعاملين معه في سوق أيديولوجيا التضليل. أما الديمقراطية هنا فليست أقرب وأقصر طريق، بل هي الضلال بعينه، فيما قيم العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان والمؤسسات، ليست جزءا من ثقافتهم السياسية ولا همهم الدنيوي، إنهم يسعون لكسب الآخرة بمجازرهم على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني، ما صعب على مفكري الحركة الإسلامية السودانية الذين غادروا المنصات، تبرير صناعتهم في محصلة حكم الإسلام السياسي في السودان، خلال ربع قرن، فكانت نكبة لهذا التيار لم يستطيعوا تبريره ولا معالجته فباتوا في ورطة تاريخية، وننتظر منهم إعلان عدم صلاحية حركة الإسلام السياسي في الأرض السودانية.
المقاربة هنا لا تتعلق بالنظامين المغربي والسوداني لطبيعية اختلاف التطور التاريخي بين كل منهما، ولكن بين ملاحظة الممارسة التي أنتجتها أدبيات الفكر الواحد، أي بين إسلامويي المغرب وإسلامويي السودان، أو بعبارة أوسع بين المشرق والمغرب العربي، حيث أن عقلانية وموضوعية ومواكبة تيار الإسلام الحركي في المغرب العربي هي التي أوصلت بنكيران للسلطة، إذا اتخذناه عينة، وتفوقه الواضح كما نرى في تونس على تيار الإسلام الحركي في المشرق العربي الذي لا يستطيع الملائمة إلا مع نفسه، لأن ثقافة الكتب الصفراء تمنع ذلك، فكان السقوط المدوي لمرجعية الأخوان في مصر بعيدا عن فكر المؤامرة العربية، وفي ليبيا القريبة من فكر المشرق كعينة ممتازة رغم كونها في إطار جغرافي ضمن دول المغرب العربي، فيها تحولت الدولة الليبية إلى دولة فاشــــــلة تماما وستصبـــح طالبـــان عربية تهدد أمن كل المنطقة العربية والأوروبية، في ظل توافر مصدر مهم للمال، وهي نتائج في مجموعها دعمت الأسد في سوريا ووفرت له غطاء حتى لا تتكرر الكارثة بكارثة اخرى أو تنتج الكارثة كارثة أخرى، إن إسلامويي المشرق محتاجون ليتعلموا الفكر العقلاني لإسلامويي المغرب العربي، من دون إحساس بتراجعهم أو قل انحطاط تجربتهم التي مهما دافعوا عنها فهي وفي نظر الكثيرين خاوية بمعامل الممارسة على الأرض ما دمنا لسنا قوما ميتافيزيقيين، والخواء في هذه الحالة لا يملأ إلا بما هو غير عقلاني، فقالوا لنملأ جيوبنا ونبني عمارتنا في الخارج والداخل ونُعلم أولادنا ونكنز الذهب والفضة ونقتل كل من يأتي لتغييرنا، وهو تمكين نشالي الخرطوم .
‘ كاتب سوداني مقيم في لندن