لطالما كانت علاقة الرواية بالتاريخ علاقة شائكة ومتغيّرة، لذلك حاول الناقد العراقي عبد الله إبراهيم الحدّ من هذا التداخل باستنباط ما سماه «بالتخيل التاريخي» حتى يبعد العمل الروائي الذي ينهل من التاريخ على أن يكون وثيقة تاريخية. فالروائي يذهب إلى الماضي بطريقة تتداخل فيها شخصيات تاريخية مرجعية بشخصيات متخيلة، وهو يرى التاريخ بعيون الحاضر ورؤى المستقبل، وهذا ما يسمح له بالتنقل بسهولة بين وقائع التاريخ والتخيل، فيقدم عملا روائيا يوهم بوقائع حقيقية غالبا ما تكون متخيلة.
من هذا المدخل نستطيع قراءة رواية عبد العزيز بركة ساكن «سماهاني»
الصادرة عن دار مسكلياني، والممتدة على ثلاثمئة وثلاثين صفحة. والعنوان كما يتبين ليس باللغة العربية ف»سامهاني» تعني «المعذرة» باللغة السواحلية لغة شرق إفريقيا وبالتحديد أنغوجا (تانزانيا اليوم) حيث تدور أحداث هذه الرواية، أمّا الزمن فهو زمن الاستبداد سنة 1652 وهو تاريخ دخول الأساطيل العمانية وسلاطينها لتكون أنغوجا «جنتهم الموعودة».
وعلى عكس التاريخ الرسمي الذّي يؤكد نجاح العرب المسلمين في نشر اللغة العربية في هذه الربوع، ونشر الإسلام وازدهار التجارة وبناء القصور، سكت على جانب مهم من القهر والظلم الذي عاناه الأفارقة أصحاب الأرض، نتيجة تجارة الرق والخدمة في قصور السلاطين العرب، وانطلاقا من هذا التاريخ المنسي ومن خلال سيرة سليمان بن سليم، السلطان العماني وابنته الأميرة وخادميهما «مطيع» و»سندس» يدخلنا بركة ساكن إلى هذا الجحيم: جحيم الاستعباد والظلم ليرسم بريشته الكاريكاتيرية الساخرة لوحة فنية يجمع فيها بين التاريخي والمتخيل، مركزا على الجانب الوجداني للشخصيات. فهو لا يحاكي التاريخ وإنّما يرسم رحلة الإنسان في مسيرته نحو التحرر والحب والتسامح.
الرواية وتاريخ الاستبداد
إنّ طقوس الاستعباد والقمع متشابهة في كل الأزمان، رغم تطور الآليات، لكنها دائما تستمد قوتها من منبع واحد هو هواجس السلطة الدائمة ولذّة ممارسة السلطة مؤكدة على قولة الغزالي «إنّ لذة الجاه ألّذ من اللذة». وهذا ما كان يشعر به السلطان سليمان بن سليم، من خلال هذه الرواية، فهو يرى نفسه الإله على الأرض فيقول: «أنا السّيد الأبدي والنهائي والدائم والمسيطر والمالك»، ولذلك كان يشّرع لنفسه استعباد كلّ الأفارقة ويرى أنّهم لا يملكون حياتهم إلاّ بأمره، ويرى أن «كل الزنوج أغبياء وفيهم بلادة» وعلى خلاف قولة عمر بن الخطاب «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»، يشّرع هذا السلطان وبنصوص دينية استعباد الأفارقة: فتفنن في تعذيبهم وقمعهم، وذلك عن طريق الكيّ بالنار والضرب بالسّياط والسجن الانفرادي في السجون التي تُبنى خصيصا في كهوف القصور فلا ترى فيها لا شمسا ولا هواء. والحرمان من الأكل والشراب وأسر الناس وتشتيت العائلات وتدمير القرى وخطف النساء واغتصابهم فهو يرى «أن نكاح الأسيرات لا حرمة فيهّ». ومن هذه الحوادث اغتصابه لسيدة صغيرة بعد سبيها مع أهلها، يغتصبها السلطان بوحشية، تنزف حتى الموت تاركة ابنها رضيعا في الخلاء هذا الرضيع يُنقذ من طرف كلبة أرضعته وأعادته إلى أهله لتكون هذه الكلبة أرحم من العباد، وسمي هذا الطفل بـ»ابن الكلبة» وهو شخصية سيكون لها شأن وتدخل كبير في مصائر الشخصيات الرئيسية.
كما صوّر لنا بركة ساكن تلك الحفلات الوحشية التّي يحضر فيها السلطان بنفسه تقام لخصي الزنوج، ومنها ما عاناه مطيع الذى كان زعيم قومه وقد تعرض للسبي أوّلا مُقادا بالسّلاسل ثم للخصي مع ابنه الأصغر «نانو» الذي سيسمى لاحقا بـ»سندس» حيث تم خصيهما بوحشية، الأب أوّلا بحضور الابن، ثم الابن بحضور الأب الغائب عن الوعي، على إثرها يصاب سندس بالبكم فيعيش فترة طويلة في صمت عميق، الأب سيصبح خادم السلطان «المطيع» و»سندس» خادما للأميرة ابنة السلطان الوحيدة فلا عيب أن يتكشف أسير زنجي مخصّي على أميرة عربية مسلمة. غير انّ بركة ساكن في هذه الرواية لا يقتصر على هذا النوع من الاستبداد ثنائية السيد والعبد، وإنما يتطرق أيضا إلى نوع آخر من الاستبداد وهو الاستبداد الاجتماعي في علاقة بثنائية الرجل بالمرأة. وينقد استعباد المرأة في المجتمع الذكوري من خلال علاقة السلطان بابنته، أو علاقة زوج الأميرة بها. فالمرأة لا مكانة لها في مجتمع يرى أنّها مشروع فضيحة يقول السلطان «البنت ليست سوى فضيحة» فيرفض أن تُوّلى العرش وتصبح سلطانة، ويبقى يُمّنى نفسه بإنجاب ولد حتى يورثه السلطنة. كما أنّه لا يعطى المرأة الحق في إبداء رأيها في الزواج أو الحب حتى إن كانت أميرة، فهو الذي يُزوجها ويختار لها زوجا. كما أن الأميرة ككلّ البنات في تلك المنظومة الظالمة تتعرض للختان وحرمانها من اللذة الجنسية، وليس لها الحق في الاعتراض على زواج زوجها بأخريات، فإن له الحق فيما ملكت أيمانه.
ولا يجد بركة ساكن حرجا في انتقاد عبودية الإنسان لله، ففي معرض حديثه عن الحياة الإفريقية منتقدا مسيرة الإنسان، الذي عليه أن يثبت وجوده ولا يعتمد على الأوهام، حيث أن «الذين يفضلون البقاء حيث الرب وتحت رعايته هؤلاء هم اليائسون الذين لا يرجون خيرا من الحياة الخائفون من الشر»، ولذلك سيجعل كل هذه الشخصيات تتمرد كل على طريقته. وكما يقول أدوارد خراط «هناك في مقابل القمع دائما صرخة الحرية المحرضة تخفت أحيانا وتجلجل أحيانا أخرى، ولكنها لا تموت ولا تنطفئ».
السخرية كفعل مقاومة
وللتخفيف من حدّة هذا الألم المنتشر عبر أرجاء الرّواية، يتخذ بركة ساكن كعادته السخرية كأداة فنّية ويتحول إلى رسام كاريكاتيري يرسم نقدا لاذعا للشخصيات فالأدب السّاخر هو أرقى ألوان الفكاهة، خاصة المصبوغ منه بالصبغة السياسية، لذا فهو أداة للتهكم والتقريع ووسيلة من وسائل التحدي والتعرية، وكانت السخرية في هذا المتن الروائي عبر رسم البورتريهات وعبر اللغة وعبر مصائر الشخصيات. وقد رسم بركة ساكن صورة كاريكاتيرية للسلطان فيها نقد لاذع وتهكم كبير، بداية من الاسم الذي كان يرفقه الكاتب دائما بلقب السلطان الذي «باركه الرب مُؤخرا» لاكتشاف السلطان أنّه من سلالة النبي سليمان ولكنّه كان اكتشافا متأخرا.
أمّا من الناحية الفيزيولوجية فقد صوّره ضخم الجثة، لا يعرف في الحياة غير الأكل وجني المال ومضاجعة النساء، فقد كانت له تسعة وتسعون جارية لا يعرف أسماءهن يساعده عبده «مطيع» في كل تفاصيل حياته من أوّل جلوسه على الوعاء الضخم للتبرز، الذّي لم يكن في «مخيلة صانعيه أن هناك مؤخرة في حجم ارداف السلطان» كما أن حجمه الكبير وبطنه الضخمة لم تكن تساعده في مضاجعة نسائه فكان «مطيع» يساعده في ذلك أيضا».
وفي الحقيقة لم تختصر الصورة الكاريكاتيرية على السلطان، بل تعداه إلى نقد الأفارقة أو سكّان «أنغوجا» وإن سعوا إلى التحرر، وكانت لهم أخلاق الشهامة إلاّ انّهم بقوا حبيسي أوهامهم وأساطيرهم وللسحر الأسود والتعاويذ، فليس لأنغوجا اليوم ثقافة ولا كتب تصدر بالسواحلية، بقيت ثقافتهم بدائية لم ترتق إلى ثقافة منتجة وبناءة فـ»المحاربون الأفارقة لا يعرفون شيئا يسمى كتابا».
أما قمة السخرية فهي التي انتصر فيها بركة ساكن على عكس التاريخ للعدالة، فكانت في مصائر الشخصيات ونهاياتهم، فمن السخرية أن يجعل الأميرة تعشق عبدها المخصي وتهرب معه يوم ثار الزنوج على السلطان في 1964 ومن السخرية أيضا أن يُخصى السلطان بالطريقة الوحشية نفسها التي عامل بها الأفارقة، ويبقى يعد ذلك سلطانا صوريا تحت الحكم البريطاني، ومن السخرية أن ينتقم «ابن الكلبة» لأمه فيغتصب الأميرة ويقتلها. ولذلك نقول إن السخرية أبعد ما تكون عن الإضحاك، وإنّما هي كما يقول محمد الماغوط «ذروة الألم».
«سامهاني» «انتصار الهامش على المركز
عادة ما تنتصر الرواية في صيغها الحديثة للهامشي والمقصي والمستضعفين، وفي أحد حواراته يقول بركة ساكن «أنا أنحاز إلى الشارع « أي إلى كل الذين لا صوت لهم ولذلك نتفهم أن يكون عنوان روايتة بالسواحلية، وهو انتصار لهذا الشعب ولمسيرته التحررية ولهويته. والسواحلية لغة غير معقدة فهي خليط من اللغات المحلية وبعض الإنكليزية والكثير من العربية التى اعتادها الإنسان الإفريقي من أكثر من ألفي قرن، وكل الشخصيات في الرواية تتكلم السواحلية فهو انتصار لهدا الهامش الذي عاش القهر والاستبداد. كما أن بركة ساكن من خلال العنوان، الذي يعنى المعذرة أو سامحنى باللغة العربية يرسخ لثقافة الاعتذار، فعلى الحكومات التي قامت بجرائم ضد الإنسانية كالذي وقع لسكان «أنغوجا» أن تعتذر على هذا الاستبداد الذّي ارتكبته في حق شعوب معزولة ومستضعفة.
ولأنّ الرواية عكس التاريخ، هي تروى ما ينبغي أن يكون وليس ما كان، أسس بركة ساكن لهذه الثقافة بجعل شخصياته تعتذر لبعضها، فـ«سامهاني» تعاد ثلاث مرات في الرواية: تقولها الأميرة العربية المسلمة باسم ابيها لسندس غلامها المخصي، تعتذر له عما فعله والدها له ولشعبه. وفي المرة الثانية يقولها «ابن الكلبة» للأميرة لأنه انتقم من الشخص غير المناسب، ويقولها سندس للأميرة عندما وجدها مقتولة لأنه فرط فيها ولم يحمها باعتبارها كانت تمثل حريته. كما أن الكاتب اراد أن يؤسس لقيمة التسامح وعدم مقابلة الشر بالشر.
ولذلك فإنّ رواية «سامهاني» لعبد العزيز بركة ساكن تجاوزت التاريخ والماضي لتؤسس للحاضر وللمستقبل، وكانت طريفة من حيث البناء، حيث أن النهاية لم تكن لا في البداية ولا في النهاية، وإنما في الوسط حيث أن مصائر الشخصيات عرفت منذ الفصول الأولى، لأن بركة ساكن لم يكن تهمه النهاية بقدر ما كان مهتما برسم مسيرة الإنسان في هذه الحياة، هي رحلة الإرادة للشعوب التي تعيش تحت الاستبداد التي جسدها الكاتب في رحلة السواحلية من أجل تحررهم، هي رحلة الفرد الروحية نحو إكمال الذات واكتساب المعنى، كما كانت رحلة «سندس» العجيبة لاسترجاع أعضائه المبتورة وإكمال روحه المنقوصة، هي رحلة الكاتب نحو مقاومة الاستبداد بالكتابة، هي أيضا رحلة القارئ لفهم التاريخ ولذلك نقول مع صنع الله ابراهيم «المؤرخ الجيد هو الروائي».
٭ ناقدة تونسية
نقلا عن القدس العربي