بقلم \ ناجى احمد الصديق المحامى
لم يكن من السهولة بمكان الوصول الى إجابات شافية لمعضلات العدالة فى مرحلة انتقال السلطة lمن الشمولية الى الديمقراطية حيث تطفو على السطح قضايا جوهرية أخلاقيا وقانونيا وسياسيا، وغالبا ما تتنازع الرغبة الأخلاقية بمعاقبة المذنب مع معطيات الواقع السياسي الذى يفرض ارساء دعائم الوحدة الوطنية من جهة مع المتطلبات القانونية للدولة الديمقراطية من جهة ثانية ولذلك يبقى الظفر بالمعركة على السلطة ايسر بكثير من إقامة العدل . من هذا المنطلق يجب على النظام الجديد فى السودان البحث عن صيغة يتلاءم بها مع مجموع الناس الذين سحقهم النظام السابق على مدى ثلاثون عاما وليس أفضل صيغة من تلك التى تسمى العدالة الانتقالية وهى تعنى من بين معانيها الكثيرة التركيز على مزيج من الإنصاف المحدود بضوابط قانونية والاعتراف الرسمي بالحقيقة حيث تبشر سياسات الحق والعدل بان تكون بديلا لنقيضين لا يجتمعان ابدا ، العقاب العنيف وسلوان الماضى ، فتقدم مقاربة العدالة الانتقالية شيئا من العدالة المتوازنة التى تقوم مقام العدالة الوحشية او الغياب التام للعدل .
فى مختلف الإحداث التى مرت على العالم من جنوب أفريقيا الى ارويا الشرقية لا تزال الأنظمة تبحث عن حلولا لمشكلات اقامة العدل اثناء عمليات التحول الى الديمقراطية وفى هذا السياق يبرز نموذج العدالة الانتقالية كإحدى أليات تسوية الغبن التى وقعت فى الماضى.
توضح لنا عقيدة الديمقراطية خمس أدوات رئيسية لمناقشة القضايا المتعلقة بالعدالة الانتقالية وهى
1\ العقد الاجتماعي : وهو اتفاق الافراد داخل الدولة للتخلى عن الحالة الطبيعية الفطرية
(تقابل هنا الحالة التى كان عليها المجتمع فى السودان قبل الثورة) والدخول الى مجتمع ترسى فيه القوانيين التى تحكمهم ويتجلى الإسهام الرئيسى للعقد الاجتماعي فى الديمقراطية بتقديم نموذج للتغيير السياسي السلمى اذا يرسم هذا العقد خاتمة للحالة التى كان عليها المجتمع قبل الثورة ويبدأ فى استشراف عهد جديد بناء على ذلك التوافق بين مكوناته المختلفة وهو امر تقوم به المؤسسات الاجتماعية فى النظام الجديد عبر التبشير باشرا قات المستقبل الجديد ونبذ حالات الماضي البغيض ، فمتى ما تواثقت مكونات المجتمع المختلفة على نبذ الماضى واستشراف المستقيل عبر إرساء القوانيين المختلفة هبت الامة وسارت الى الأمام ومتى ما تقوقعت داخل مواضعات الماضى وغطت عينيها عن آفاق المستقبل تراجعت الى الخلف . اذن فلابد من قيام ذلك التواثق بين مكونات المجتمع بعيدا عن التجاذبات السياسية والاختلافات المذهبية ، لان ذلك التواثق مركوز على مجرد التعايش داخل الدولة بالتزام المجتمع بالتشريعات والقوانيين البتى تنظم مختلف الاحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها
ثانيا\ سيادة حكم القانون : تفرض سيادة القانون كثيرا من القيود على أليات الانتقال من الشمولية الى الديمقراطية فسيادة القانون تسمح للدولة التصالح مع ماضيها وذلك بالالتزام بالاجراءت القانونية فى محاسبة النظام القديم ، والمساواة فى المعاملة معه ،وهو ما يؤدى الى استبعاد الجزاء الدامى الذى ظهر فى كثير من حقب التاريخ . ولهذا فان بعض الديمقراطيات الناشئة تلمست استراتيجيه للتصالح مع الماضى وذلك باللجوء الى العدالة الترميمية للضحايا السابقين عوضا للسعى لمعاقبة الجناة ، كإعادة تأهيل الضحايا وتعويضهم ماديا عما قاسوه ، ومع ذلك فان المحاكمات الجنائية تعتبر بديل افضل عن الجزاء العنيف بالرغم مما يحيط به من صعوبات محورها الالتزام بسيادة حكم القانون ولا يجب فى كل الاحوال ان تنحط المحاكمات فى دولة ديمقرطية الى مستوى الانتقام السياسى ولكن عددا محدود من المحاكمات السياسية يمكن ان يحقق اغراضا سياسية وأخلاقية بالغة الاثر منها تعزيز شرعية النظام وتلبية مطالب الضحايا باقامة العدالة الجزائية
ثالثا استخدام القانون
تم تصنيف مقاربات العدالة الانتقالية على التفريق بين استخدام القانون الجنائي او القانون المدنى فى تطبيقهما على الضحية والجلاد فيما يتعلق بالجرائم التى حدثت فى النظام السابق وتجدر الإشارة هنا الى ان هذه المقاربات للعدالة الانتقالية تحمل بين ثناياها تشكيلة واسعة من الأدوات القانونية المناسبة لتسوية حالات الجور التى وقعت فى الماضى ولكن هذه الصيغة مقيدة بضمانات اجرائية لسيادة حكم القانون من جهة وضرورة التوصل الى تسوية سياسية فى النظام الديمقراطي الصاعد من جهة ثانية .
رابعا المصارحة والشفافية
لابد من التحقيق فى جرائم النظام السابق بواسطة لجان نيابية او مجموعات تقصى حقائق وهذا التحقيق ليس لإغراض المحاكمة والعقاب وانما من اجل الوقوف على حقيقة ما جرى فى النظام السابق ، والتوافق على على وقائع التاريخ المشترك يعد شرطا جوهريا للحرية وذلك لان الانظمة الشمولية تسعى جاهدة لإغلاق الحريات بكل أشكالها وتحرم تلك الاجهزة الحوار المفتوح حول المعلومات المتعلقة بالفساد وانتهاك حقوق الانسان على نطاق واسع ولا سبيل لاثبات حقيقة ذلك الظلم الا بمناقشتها علنا بين ابناء الشعب . عليه فان الكشف عن جرائم النظام السابق يؤدى الى شفافية التعامل معها بقدر حجمها ,كما تؤدى من ناحية اخرى مصارحة الشعب بحقيقة تلك الجرائم ، لان بناء الدولة يجب ان يقوم على تعرية الحقائق كاملة ليعلم كل افراد الشعب الحجم الحقيقى لمجموع الاخطاء التى كانت تخفى منه وتاثير ذلك المجموع على سير الحياة فى وطنهم
خامسا العدل والمسؤولية السياسية
تمتاز الديمقراطية بسمعة حسنة لاقامة دولة العدل ، فالديمقراطية تحمى الافراد من تعديات سلطات الدولة وتضمن سيادة حكم القانون والمساواة بين افرد الدولة . وقد يجد بعض المسئولين عن جرائم وقعت فى الماضى بعض الثغرات فى النظام القضائي فى عهد الديمقراطية فسيادة حكم القانون ربما تفرض الكثير من القيود على عملية المحاكم – كما اشرنا من قبل – وربما تساعد بعض القوانيين الوطنية فى براءة بعض المسؤليين خاصة فى جرائم حقوق الانسان والقانون الدولى الانسانى ولكن يرى بعض الفقهاء ان القانون الدولى ربما يقدم بعض الحلول لمثل تلك المشكلات ، فمن الممكن – مثلا- ان تعتمد الدولة فى طور الانتقال السياسى على المبادئ الدولية المتعلقة ببعض انتهاكات حقوق الانسان حيث تمتاز القواعد القانونية الدولية بالثبات مهما تحولت وتبدلت القوانيين الوطنية فى الدولة وبالرغم من مجال القانون هذا ما يزال قيد التطوير الا انه قد يصبح أداة مهمة تساعد الأنظمة على الاضطلاع بالمسئولية السياسية تجاه افعال اسلافها .
ثمة تحديات كبيرة تواجه الدول التى تريد الانتقال من الشمولية الى الديمقراطية عند تعاملها مع جرائم النظام السابق ، فانتهاكات النظام السابق لحقوق الإنسان واستعماله المفرط للقوة وقمعه الصارخ للحرية بكافة اشكالها تستحق شجبا شديد اللهجة وذلك عبر المظاهرات الغاضبة ومع ذلك فان تلك الدول تتقيد بسيادة حكم القانون وتدعوا كافة اطياف الشعب للمشاركة وكفالة حق المساواة ، وقد يتفجر طلب إرساء العدالة من الشعب بالتزامن مع فرض القيود القانونية على المحاكمة فتتولد بذلك مشكلات العدالة
قامت بعض الأنظمة مثل جنوب إفريقيا بابتداع سياسات من شأنها إظهار الحق وإقامة العدل وهى مزيج من الإنصاف المحدد بضوابط قانونية والاعتراف الرسمى بالحقيقة وذلك عبر الوسائل القانونية التالية
بالنسبة للجانى محاكمات القانون الجنائي
تعد المحاكمات الجنائية لمن قام باستغلال السلطة او ارتكب انتهاكات واسعة لحقوق الانسان او قام بتبديد المال العام او الإفساد المالي من ابرز الأمثلة على الإنصاف القانونى ، لكن دائما ما تكتنف مثل هذه المحاكمات الكثير من المشكلات القانونية والسياسية ، حيث تبرز العديد من الأسئلة مثل من المسئول الحقيقي فى الهرم السياسى أو العسكرى؟ هل يحتفظ الجناة بسلطة تؤثر على الانتقال الى الديمقراطية ، هل قام الجناة بإعدام او إخفاء المستندات التى تؤيد ما قاموا به من جرائم ، هل آليات القضاء الموجود لها القدرة على محاكمة أولائك الجناة ؟ الى جانب ذلك فانه غالبا ما يتمتع الجناة بأنماط جديدة من الحماية المدنية تضمن لهم الحق فى محاكمة عادلة، كما يواجه الادعاء العام صعوبات فى جمع ادلة على جرائم كانت تتم فى الخفاء وبحماية الاجهزة العدلية التى كانت قائمة
ب\ التطهير القانون المدنى \للجانى
يعتبر التطهير الذى يعنى تسريح الجانى او تجريده من بعض حقوقه السياسية ضمن أنماط الجزاء الذى يؤدى الى العدالة والإنصاف فى بعض وجوهه ، وقد درجت العديد من الانظمة فى حالة الانتقال الى الديمقراطية على القيام بعمليات التطهير تلك ولكنها يجب ان تتم وفق أسس عدلية وليست سياسية اى أنها يجب ان تتم وفق القانون او المحاكمات المدنية حتى لا تجنح نحو الانتقام الذاتى او تتم وفق الأهواء الشخصية او حتى السياسية ولنا فى تجربة التطهير التى صاحبت قيام ثورة مايو وتجربة التمكين التى صاحبت ثورة الإنقاذ خير معين لتجنب أخطاء التطهير التى ما زالت تعانى منه الدولة حتى ألان
التعويض المادي القانون المدنى الضحية
التعويض المادي هو الوسيلة المألوفة التى تتبعها الجماعة السياسية للتكفير عن خطاياها وتحمل مسؤوليتها عن الآثام التى حدثت فى الماضى وتبدو صعوبة هذا الإجراء فى ايجاد إلية لتحديد الفئات التى تستحق التعويض فعلا ولكنه اجراء متبع ضمن آليات العدالة الانتقالية للوصول الى مبادئ العدل والانصاف
د\ إعادة التأهيل القانون الجنائى \ الضحية
لاشك ان الكثير من الناس قد تعرضوا لمحاكمات جائرة وضعوا بموجبها فى السجون وان الكثير من الناس قد تم اعتقالهم بواسطة الاجهزة الأمنية ومكثوا أزمانا طويلة فى معتقلات النظام ولا شك ان أكثر أولائك الناس لم يكن لهم من ذنب الا أنهم قاموا بالتعبير عن أرائهم ، كما ان كثيرا من الناس أيضا قد حرموا من مناصبهم ووظائفهم وعانوا من الظلم والقهر ، وعليه فانه لابد من تمكين أولائك الناس من المطالبة بحقوقهم المدنية والسياسية كاملة وبالرغم من ان قيمة لعادة التأهيل هى قيمة رمزية فى المقام الأول الا انه يوفر للضحايا سجلا عدليا نظيفا يضمن استعادة الحقوق كاملة
2\ المصارحة (البوح بالحقيقة)
يجب ان يتزامن الإنصاف القانونى بجميع عناصره السابقة بما يسمى بسياسة المصارحة وذلك بان تقوم اجهزة النظام الجديد بفضح كل جرائم وممارسات النظام السابق وتتخذ هذه السياسة إشكالا شتى منها المساءلة النيابية ولجان تقصى الحقائق وفتح ملفات الامن والاستخبارات وغيرها ويكون الهدف من ذلك هو اتخاذ خطوات جادة لمساعدة العامة لمعرفة حقيقة جرائم النظام السابق وازاحة التكتم والسرية حيث يفسح بذلك المجال امام مقدار اكبر من المصارحة والشفافية ليكون عظة فى مستقبل الايام لمن يمسكون بزمام الامور فى الدولة.
لابد من الاشارة بعد هذا السرد ان المقاربة الديمقراطية لقضية العدالة الانتقالية تضفى مسحة من العدالة والشرعية على الأنظمة الصاعدة ، كما توفر سياسة المصارحة فرصة ثمينة لاستخلاص العبر من الماضى ويبقى فى عالم الغيب ما اذا كان النظام الجديد الصاعد نحو الديمقراطية ستفيد منها ام لا .
مقاربة العدالة الانتقالية فى السودان للانتقال الى الديمقراطية امر ممكن التطبيق على مستوياته الاجتماعية والسياسية والقانونية وهى بديل فعلى لنزعات الانتقام الوحشى من رمز النظام السابق كما انها بديل موضوعى لمسارات الإقصاء العشولئى لكل من عمل فى ظل ذلك النظام ، فنزعات الانتقام الوحشى ربما تهدر كثيرا من الحقوق القانونية التى يجب ان يتمتع بها الإنسان داخل دولته ومسارات الإقصاء العشوائى تؤدى لامحالة الى اهدار الطاقات وتشتيت الجهود للسير نحىو التقدم ، وعلى كل فان مواضعات الديمقراطية التى نادت بها الثورة من خلال شعاراتها المرفوعة توجب على الناس الالتفات نحو مقاربات العدالة الانتقالية لان التحول من الشمولية الى الديمقراطية عمل شاق يحتاج الى وقت وصبر وكم عانت الدول التى تتمتع بالديمقراطية المستدامة على مدى عهود طويلة من مشقة ذلك الانتقال ولكن صبرها على تلك المشاق هو ما اوصلها اليوم الى تلك الدرجة