إبان سير المفاوضات الماراثونية التي جرت في العاصمة النيجيرية «أبوجا» بين الحكومة السودانية وقوى المقاومة الثورية السودانية المنطلقة من دارفور، يتابعني أرشيف الذكريات، ونقلا عن أحد لاجئي أو قل نازحي دارفور، الذي عرف نفسه وقتئذ بأنه ينتمي إلى ما سماها بجمهورية «اللاجئين السودانية»، قوله «إنهم ليسوا إفرازا للحرب التي تدور رحاها في الإقليم فحسب، بل هم نتاج لسياسة الإبادة التي نفذت بصرامة ضد لونهم وعرقهم وتاريخهم، وبالتالي هم ضحايا أبشع جريمة إنسانية، وهي جريمة الإبادة التي نفذها البشير ومليشياته، لهذا لا يجوز التلاعب أو المساومة ولا المتاجرة بقضيتهم، باعتبارها قضية إنسانية ووطنية، وحلها يجب أن يكون كذلك، وهي بمثابة خط أحمر وسوف نقطع اليد التي تمتد إليها. مضيفا قوله، ان شرعية أي اتفاق وطني حول دارفور عماده استحقاقات تعادل «سيادة» سكان هذه الجمهورية الجديدة، وهي أمة اللاجئين والنازحين – لخصها في ترتيب دقيق- الأول فيها العدالة والثاني الاعتذار التاريخي، أما الأخير فهو باب الاستحقاقات بفروعه وأركانه المتعددة، بدءا من حق المواطنة إلى التعويضات والجغرافيا المسلوبة….إلخ»، هذا كان عام 2004.
فيما اليوم وبعد عشر سنوات يصطدم هذا الموقف المبدئي بموقف آخر حديث ومشابه، جسدته المواقف الرسمية لعدد كبير من ممثلي الجمهورية المشار إليها، حول الوثيقة السياسية التي تم إبرامها مؤخرا بين أحد مكونات تحالف الجبهة الثورية السودانية وهي، «الحركة الشعبية /قطاع الشمال « ومجلس «الصحوة الثوري»، الحديث النشأة والتكوين بزعامة شيخ قبيلة المحاميد موسى هلال، كبير حلفاء الرئيس السوداني في دارفور والمتهم على نطاق دارفوري واسع، بالأخص من سكان الجمهورية الجديدة التي لم تنضم بعد إلى الهيئة الدولية، بأنه شارك الرئيس السوداني ارتكابه تلك الجرائم الفظيعة بالوكالة، وهو الشيء الذي دفع بإدانة «شيخ موسى» دوليا، ليتساوى مع الجنرال الحاكم في المرتبة، وأي آثار قانونية ترتب معه التزامات. هذا الاتفاق وبغض النظر عما جاء في عنوانه وبنوده، لم يحظ بتأييد من طرف القوى السياسية الوطنية المعارضة، إن كانت في الجانب العسكري الثوري السياسي أو المدني، إلا من حركة تحرير السودان- جناح عبدالواحد نور، وهو الأمر اللافت الذي تم استنكاره بشكل أكثر حدة من طرف الدوائر الرسمية والشعبية للجمهورية الافترضية ومجالس كثير من المراقبين، كل وفق ما تمليه عليه مسوغاته في بناء وصياغة موقفه تجاه الاتفاق أو موقعيه أو مؤيديه، على قلتهم أو قل انعدامهم.
وبما أن أي اتفاق له جانب يتعلق بالشكل وآخر بالمضمون، وأننا لا نبحث في الثاني بقدر ما نبحث في الأول، على خلفية رصد المواقف السالبة لتلك القوى تجاه الوثيقة، نرى أن الأمر، من وجهة نظرنا إن أردنا أن نرسم إطارا لماهية تلك المواقف، التي نجدها ترتبط بنيويا بمنظومة القيم السياسية التي تساوي الأخلاق والسلوك والأدب في التعاطي والممارسة السياسيتين، وهي منتجات ينتجها العقل الأخلاقي في محدداته، إلا أنها تقوم بتوجيهه على مستوى الفعل – هنا نعني النص والشخصيات الاعتبارية، من دون شخصنة للأشياء -عليه مرجعية منظومة قيم مجتمع «الجمهورية الحديثة»، التي ترتكز عليها، هي التي حركت القول في أن «الصحوة» لا تمتلك الأهلية الأخلاقية والسياسية الكاملة التي تؤهلها حتى يتم إبرام اتفاق معها.
ولو جاء الاتفاق إثر تموجات ومستجدات سياسية جديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، حالة «الخلاف» حتى لا أقول «تمرد» هلال على حليفه البشير، واعتكافه في مقاطعات اقتطعها في محليات بدارفور وسط عصبيته يسيطر ويشرف عليها بدون مساءلة، وفي سيادة غير سيادة دولة البشير، وفي هدنة ضمنية بدون حروبات وعنوان سياسي واضح وثابت يقف عليه «الشيخ»، وهو ما يطرح استفهامات مشروعة حول دور الشيخ ومشروعه الإصلاحي «الصحوي» وسقفه السياسي، وهل هو مع إسقاط البشير، أم مع إصلاحه، أو عزل أحد ولاة دارفور، أم تحقيق العدالة كأحد أهم البنود التي تسعى الجبهة الثورية، وفي مكوناتها المختلفة، تحقيقه ضمن برامجها الساعية لإعادة هيكلة الدولة السودانية؟ هنا «الشعبية» حتى لو بررت توقيعها لهذا الاتفاق في سياق أوسع وعريض، بان ذلك يدخل في سياق إكمال الاستقطاب السياسي والعسكري لشد أطراف القوى والمكونات المعارضة لنظام البشير، إلا أنها وقعت في انعدام قيم الأخلاق السياسية، من خلال مسلكها في نظر تلك القوى، وبالتالي المبادرة تختفي في شكلها «البراءة»، هذا إذا نظرنا إلى كون اللاعب الموقع معه يمثل أحد اللاعبين في الجغرافيا السياسة لحلفائه الآخرين، وهو محل حساسيات عالية وإن تم نفيها فهي موجودة وماثلة، ليفتح معه باب التأويل واسعا، لدرجة تكهن البعض بأن تحت الطاولة عملية إحلال وإبدال تجري وإستراتيجيات وتكتيكات ترتبط بالجبهة الثورية نفسها.
سقوط منظومة القيم التي وقعت فيها «الشعبية» بوعي أو بدونه، المؤكد أنها سوف تنسحب أيضا للمؤسسة « الوحيدة» التي أيدت الاتفاق، هذا إن لم تكن هي نفسها قد وقعت في إثم مبين، بعدما خصمت من لاءاتها الشهيرة التي شكلت أحد أهم محددات العقل القيمي الأخلاقي الجمعي ليس لصناعه وحدهم، بل للعديد من قوى الجمهورية الإفتراضية، ولعل أهم فرضية في هذا الشق لسقوط منظومة القيم على أعتاب مذبحة السياسة، ولو ربطته بالسياق الأوسع والعريض للأزمة فهي تداعيات للصراع الداخلي والانشقاق الاخير الذي تم في صفوف التحرير- عبدالواحد والتأويل حول تسوية أو مساومة تمت أو وقعت مع «الشعبية»، كان ثمنها انتزاع التأييد/ الموقف الذي دفع بانهيار القيم لديها في لحظة من لحظات انكسار التاريخ. هذا بدون أن تفوت علينا الإشارة إلى رغبة الطرف المنشق في الانضمام إلى التحالف العسكري للجبهة وتبعات ذلك، إنها أزمة القيم في نموذج من نماذج سوق السياسة السودانية وحراك معامل القيم فيه أو به.
٭ كاتب سوداني مقيم في لندن