مضي علي حصار جبال النوبة في ولاية جنوب كردفان نحو شهر كامل, حيث بني حول مداخلها وطرقها وقراها سور ارهابي من مليشيات النظام وقوات الدعم السريع ( الاسم الملطف للجنجويد), التي تمنع اي انتقال للأشخاص والسلع, وخاصة الذاهبة نحو أعماق مناطق جبال النوبة, ويشمل المنع بصورة أساسية المواد الغذائية, إضافة المواد الطبية والأدوية مهما تكن. وترافق المنع مع انقطاع تام ومقصود لخدمات إنسانية يومية, وغياب كلي للخدمات الصحية والتعليمية, فلا مشافي ولا مدارس.. ويزيد علي ما تقدم أن مليشيات النظام تتابع بصورة يومية ومتواصلة قصفها اليومي لقري المنطقة بالمدفعية والدبابات والطائرات, وكانت قصف مستشفي ام الرحمة قبل ايام مثالا, أصيب فيها الأشخاص بينهم مرضي وأطفال.
ومحصلة الأوضاع المحيطة بالقري وسكانها, أن النظام الطاغية يسير نحو قتل سكان جبال النوبة كلهم, فمن لا تقتله أسلحة مليشيات النظام, فسوف تقتله ظروف الحياة التي يخلقها النظام, بحيث يمكن أن يموت الناس بسبب المرض الذي لا دواء لعلاجه, ونتيجة جروح توقعها أسلحة النظام بالناس مع غياب كلي للمشافي والاسعاف الطبي, كما يمكن أن يموت الناس, وخاصة الأطفال والنساء, نتيجة الجوع وفقدان المواد الغذائية, وفي كل الحالات هناك أمثلة كثيرة عن موت لسكان المنطقة نتيجة الظروف القائمة وخاصة الجوع, وقد نشرت تقارير كثيرة وفيها اسماء لأطفال ماتوا في القري.
غير أنه وفي الطريق الي قتل سكان جبال النوبة, وفي إطار تحقيق هذا الهدف, يتابع نظام الابادة الجماعية تدمير جبال النوبة اريافا وقري وقدرات وإمكانيات عيش للسكان, إذ لم يقتصر الأمر علي قصف المناطق السكنية وتدمير المساكن والمشافي والمدارس ودير العبادة ومصادر المياه, بل شمل حتي البهائم, والهدف افقار أهالي جبال النوبة وتجويعهم ودفعهم نحو اليأس والإحباط, إن لم يموتوا بفعل تلك السياسة, والتي لا يخفي أن أحد أهدافها هو دفع أهالي جبال النوبة وسكانها لحياة مأساوية صعبة علي أمل أن يوصلهم ذلك الي الاستسلام.
غير أن جبال النوبة بسكانها وبعد شهر من حصارها, وبعد أربع سنوات من ثورة كانت جبال النوبة قلبها ومحركا رئيسا فيها, رفضت سياسة النظام, وأثبتت أنها أقوي من تلك السياسة وما فيها من دموية وحشية عشوائية اجرامية, حيث ان جبال النوبة وبمقاتلي الجبهة الثورية السودانية متمثلة في قوات الحركة الشعبية قطاع الشمال الموجودين فيها, يتابعون صمودهم العسكري في وجه ألة النظام بالتوازي مع سعيهم لحياة طبيعية بما توفر من إمكانات محدودة, وبينهم من يسعي الي تطوير تلك الحياة بما أمكن من مصادر محلية تساعد علي الحياة والصمود. بل ان بعض ما هو قائم في جبال النوبة من حيث الحفاظ علي روح الثورة في الحفاظ علي أهدافها في الحرية والكرامة وسعي الي اسقاط النظام الطاغية واقامة نظام ديمقراطي يوفر العدالة والمساواة للسودانيين, قد يكون الأكثر وضوحا من مناطق سودانية أخري, حيث أن جبال النوبة تكاد خالية من التطرف القبلي والجهوي وتجييش القبائل ضد المعارضة وغيرها من امور سلبية للثورة السودانية, كما حاصل في دارفور, ان مليشيات النظام التي تحاصر جبال النوبة معظمهم من دارفور.وهناك مستويات من التضامن الأهلي ونشاط شعبي ومدني في جبال النوبة, استطاعت في الفترة الماضية تعزيز الخروج من دائرة الدمار والفناء التي أرادها النظام للمنطقة وسكانها, وقد فاقت بصمودها كثيرا من التجارب التاريخية لحصار, القصة معروفة لا تحتاج للاستبيان.
في جبال النوبة, فشل الحصار في تحقيق أهدافه, بل تبدو الجبال وكأنها تحاصر النظام من خلال امتحانها للنظام أولا في فشله, وتحاصر المعارضة في صمودها في الدعم والمساندة, وتحاصر الاتحاد الافريقي لم تستطع تقدم في الملف الانساني من خلال اكثر من عشرات جولات, وتحاصر العالم في عدم مقدرته علي دعم سكانها وفك الحاصر عنهم, ووقف عمليات القتل والدمار والتشريد التي يتعرضون لها تحت سمع وبصر عالم فقد حواسه, والمطلوب اليوم تحرك جدي من المعارضة والشعب السوداني والعالم كله من أجل مساعدة جبال النوبة للخروج مما آلت اليه الأوضاع. والسؤال الأساسي للعالم كله: هل آن الآوان؟ أم أن علي جبال النوبة بأطفالها ونسائها ورجالها أن يستمروا في صمودهم الأسطوري الي ما لا نهاية له من الزمن؟
احمد قارديا خميس