أصدرت مجموعة الأزمات الدولية (ICG) في نهاية الأسبوع الماضي تقريرا من تقاريرها الدورية عن الأزمة في السودان بعنوان: السودان: العدالة والسلام والمحكمة الجنائية الدولية، ومجموعة الأزمات الدولية كما هو معروف عنها مجموعة هي مجموعة بحث ودراسات مستقلة مقرها في بروكسل وتنشط في قضايا حقوق الإنسان والشعوب وحل النزاعات وتحليل الأزمات وتقديم المشورة والنصح لأصحاب القرار في مختلف البلدان كما أنها تنشط في دعم القضايا ذات الأهمية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني الأخرى. ولقد ظلت المجموعة نشطة في قضية الصراع في دارفور حيث أعدت أكثر من دراسة ونشاط بحثي إلى جانب المشاركة في أعمال جماعات الضغط المختلفة مثل منظمة “كفاية” وتحالف “إنقاذ دارفور” لإقناع الإدارة الأمريكية على وجه الخصوص بتبني سياسات معينة بصدد قضية دارفور. وهذا التقرير عبارة عن قراءة للأزمة وفقا لما تراه المنظمة وباحثوها وستسعى بالطبع لأن يكون “خارطة طريق” في كل مختبرات البحث عن حل للأزمة وربما يكون تأثير المنظمة على صانعي القرار فيما يتعلق بمسألة دارفور قد انحسر بعض الشيء في عهد الإدارة الجديدة على الرغم من أن المنظمة تجد عادة أذنا صاغية أكثر لدى حكومات الديمقراطيين وقد شغل بعض باحثيها مناصب مهمة في إدارة الرئيس كلينتون. ينبغي قراءة التقرير بتمعن لأن بعض ما جاء فيه إن لم يكن جل ما جاء فيه سيجد طريقه إلى صناع القرار لا محالة في الولايات المتحدة وسيكون بعضا من حزم الحل التي ستطرح في هذا المنبر أو ذاك وللمنظمة تجربة مع السودان وأزماته فالمنظمة لم تكن بعيدة، مع منظمات أخرى، عن تجربة الدولة الواحدة بنظامين التي أدت تسوية نيفاشا في نهاية الأمر. بقى أن نذكر أن المنظمة التي أنشئت في عام 1995 قد اكتسبت مكانتها لدى صناع القرار من جودة تقاريرها إلى جانب الشخصيات التي تقوم عليها حيث يضم مجلس إدارتها الحالي اللورد باتين الوزير البريطاني السابق والمفوض الأوروبي للشؤون الخارجية وحاكم هونغ كونغ السابق والسفير توماس بيكيرنغ الذي مثل الولايات المتحدة في الأمم المتحدة وكان سفيرا في الكثير من البلدان هذا إلى جانب رئيسة أيرلندا السابقة والمفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة السيدة لويز أربور ومديرها العام الحالي هو وزير خارجية أستراليا السابق غارث إفانس. وتضم المنظمة 130 باحثا يتكلمون أكثر من خمسين لغة ويبحثون في أزمات تقع في 65 بلدا وتصدر المنظمة تسعين تقريرا في العام وتبلغ ميزانيتها السنوية 16 مليون دولار.
انطلق التقرير من وصف حالة الاحتقان السياسي واتساع الأزمة والمأزق الذي تعيشه البلاد والتي عبر عنها أيضا السيد لو روا وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لعمليات حفظ السلام في تقرير أمام مجلس الأمن جاء متزامنا مع اللحظات التي أطلق فيها التقرير في بروكسل مقر منظمة مجموعة الأزمات الدولية. بينما يرى السيد لو روا أن سبب الاحتقان السياسي هو حالة انعدام الثقة بين شريكي اتفاقية نيفاشا ويحذر أعضاء المجلس من أن انهيار هذا الاتفاق سيقود إلى حرب تكون مآسي دارفور شيئا لا يذكر إلى جانبها مما يستوجب بذل أقصى ما يمكن للحفاظ على السلام الصعب في جنوب السودان، يرى تقرير مجموعة الأزمات أن سبب الاحتقان والمأزق السياسي هو تعنّت حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان وعدم رغبته في تفعيل السياسات التي من شأنها تحقيق العدالة لضحايا الصراعات المتعددة التي شهدها السودان. ويرى التقرير أنه يتوجب على حزب المؤتمر الوطني الموافقة على إصلاح النظام القضائي واعتبار آليات العدالة الانتقالية ضمن العناصر الأساسية لإيجاد تسوية مقبولة في دارفور، ويطالب التقرير حزب المؤتمر الوطني الوفاء بالتزاماته وفقاً لما ورد في اتفاق السلام الشامل لعام 2005 والذي أنهى الحرب الأهلية التي استمرت عقودا من الزمان، وذلك من أجل إنهاء الحكم القائم على الشمولية والاستغلال وغياب المحاسبة في السودان.
وتخوف التقرير من احتمال وجود اتجاه في الإدارة الأمريكية لإيجاد تسوية سريعة لمسألة دارفور وفقا لتصور المبعوث الأمريكي الجديد والسعي بكل قوة لإجراء الانتخابات المقررة وفقا للاتفاق السريع حتى يتم الانتقال للاستفتاء على تقرير المصير وربما كان كل ذلك يتم على حساب إقامة العدالة وإنصاف ضحايا العنف في دارفور. تماما كما حدث في اتفاقية نيفاشا التي أسقطت المحاسبة وجميع أشكال العدالة أو القصاص. ويرى التقرير أنه لا يمكن وجود حل دون وجود محاسبة وإنهاء لسياسة الإفلات من العقاب وعليه فإنه يوصي جميع الأطراف بالوقوف بقوة خلف قرار المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف الرئيس السوداني ورئيس حزب المؤتمر الوطني كوسيلة ضغط فعّالة لإقناع حزب المؤتمر الوطني الذي طال بقاؤه في الحكم، كما يرى التقرير، بأن تفعيل إجراءات البند 16 لتأجيل توقيف الرئيس البشير ينبغي أن تصاحبه تنازلات جوهرية لتحقيق الديمقراطية وترسيخ مبدأ المحاسبة. ويشير التقرير إلى نجاح حزب المؤتمر الوطني في كسب تعاطف حكام وشعوب البلدان الإسلامية والعربية باعتبار أن المحكمة الجنائية الدولية عبارة عن وسيلة ضغط غربية سلطت عليه بسبب توجهه الإسلامي في محاولة لتغيير النظام. ويشير التقرير إلى الجهود التي بذلت داخليا وما عرف بمبادرة أهل السودان التي روج لها على أساس أنها مبادرة عريضة شاملة تضم الجميع للبحث في جذور مشكلة دارفور وتقديم الحلول ولكن حزب المؤتمر الوطني قد مارس قيودا على آلية تشكيل المبادرة وإدارتها ولم يأبه بتنفيذ قراراتها. ويمضي التقرير في استعراض أحداث معروفة مثل إعلان الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية الدولية في الرابع من مارس قبول طلب المدعي العام بإصدار مذكرة توقيف ضد الرئيس البشير وما تبع ذلك من طرد لبعض المنظمات الإنسانية الدولية. ويرى التقرير أن صدور القرار قد جعل أطراف المعارضة تستقوي على الرئيس البشير باعتبار إن القرار قد أضعف موقفه وصارت تتشدد في التعامل مع حكومة المؤتمر الوطني وازدادت حركات التمرد تصلبا في مواقفها. فعلى الرغم من توقيع حركة العدل والمساواة لاتفاق حسن نوايا مع حكومة الخرطوم في الدوحة إلا أن القتال بين الطرفين ظل مستمرا ولم تسفر المباحثات في الدوحة عن شيء.
ويرجع التقرير التعثّر في تنفيذ الاتفاقات إلى أن المؤتمر الوطني قد عطّل آليات التحوّل الديمقراطي التي نصّ عليها أتفاق السلام الشامل بما في ذلك إزالة القوانين القمعية المقيدة للحريات الأساسية ، كما أنه قد ظل يماطل في نقاش قانون أساسي مثل قانون الاستفتاء لبقاء الجنوب ضمن السودان الواحد أو الانفصال وفي قضايا مثل ترسيم الحدود واتفاق إدارة المناطق الانتقالية الثلاث في أبيي وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق. ويبدو أن المؤتمر الوطني قد وطد العزم على عدم إتاحة الفرص للجنوب لينفصل وعدم إتاحة الفرصة لتغيير سياسي حقيقي في الشمال مما جعل غاية أمل أهل الجنوب هي التعايش مع المؤتمر الوطني حتى تحين لحظة تقرير المصير في عام 2011.
كما يرى التقرير أن إعطاء شرعية لنظام المؤتمر الوطني ظل يبحث عنها منذ عشرين عاما وقفل الباب أمام تحول ديمقراطي حقيقي عن طريق إجراء انتخابات يكون التزوير والتلاعب بالنتائج هو الأساس فيها سيكون سببا في تفاقم المشكلات مما يهدد توفر الظروف الملائمة لإجراء استفتاء حقيقي لتقرير مصير الجنوب وذلك بسبب قضايا الحدود العالقة وتحديد من يحق له التصويت في الاستفتاء، لا سيما وأن التعداد السكاني الذي يفترض أن يمثل الأساس الموضوعي لإجراء الانتخابات والاستفتاء قد صار أمرا غير مجمع عليه، هذا إلى جانب قضايا نشر القوات وتوزيع الثروة وتبعات الديون وما إلى ذلك.
ويبدو أن التقرير يعتبر صدور أمر توقيف الرئيس البشير هو مفتاح العقد والحل في الأزمة السودانية حيث يشير بيان صحفي من المنظمة إلى “أن أمر القبض على البشير قد وضع حزب المؤتمر الوطني في معضلة وورطة حقيقية بحيث صار متوجبا عليه الآن أن يختار ما بين إذا كان يريد أن يعمل بإرادة حقيقية لحل قضية دارفور وغيرها من مناطق في السودان أو الاستمرار في وضع المنبوذ في كثير من أنحاء العالم”.
وككل التقارير كانت الخاتمة عبارة عن توصيات وزعت على الجميع ويعتبرها التقرير معالم في الطريق للخروج من الأزمة وبما أن التقرير قد ألقى بأكثر اللوم في الأزمة على المؤتمر الوطني فقد خصه بأكبر عدد من التوصيات وقدم له عشر توصيات نوجزها فيما يلي:
اتخاذ إجراءات قانونية وقضائية محددة لإنهاء حالة عدم المحاسبة السائدة في إقليم دارفور ومن ذلك على سبيل المثال تعيين قضاة محايدين بما في ذلك قضاة المحاكم الخاصة، وضمان استقلالية المحاكم ومراجعة تحريات الشرطة وإجراءات التوقيف والتقديم للمحاكمة إلى جانب استبدال ممثل النيابة ومديري أجهزة الشرطة في ولايات دارفور الثلاث. ثم محاسبة أفراد القوات الحكومية وقوات المليشيات التابعة لها لانتهاكاتها للقانون الدولي الإنساني المتمثل في مهاجمة المدنيين، وتدمير الممتلكات ووسائل كسب العيش مثل الآبار والمزارع والتهجير القسرى والتعذيب والاغتصاب.
ومن التوصيات الأخرى للمؤتمر الوطني ضرورة تعديل قانون الشرطة وقانون الأمن وقانون الإجراءات الجنائية بحيث تزال المواد التي تحمي أعضاء هذه الأجهزة من المحاسبة.والملاحقة القضائية وإعادة تشكيل لجان الأمن في ولايات دارفور بحيث تكون قوات الأمم المتحدة في الإقليم (يوناميد) ممثلة فيها. واستبدال ولاة دارفور الثلاثة ونوابهم بآخرين من التكنوقراط حتى قيام الانتخابات.
ثم على المؤتمر الوطني أن يقنع رئيسه بالاستقالة عن رئاسة البلاد بأسرع ما تيسّر وفي كل الحالات قبل قيام الانتخابات وتقديم مرشّح آخر والاتفاق مع الشركاء على تأجيل الانتخابات حتى عام 2011 لتمكين إقليم دارفور من الاستقرار حتى يتمكن من المشاركة في الانتخابات كغيره من الأقاليم.
هذا إلى جانب إعفاء أحمد هارون من منصبه كوال لجنوب كردفان وتقديمه وعلى كوشيب القائد الميداني لميليشيا الجنجويد لمحاكمة أمام محكمة سودانية مستقلة وفقا للتهم التي وجهتها المحكمة الجنائية الدولية ووفقا لإجراءاتها. ثم تعليق تنفيذ كل الأحكام الصادرة في حق المعتقلين السياسيين والعسكريين في دارفور حتى توقيع اتفاق سلام شامل في الإقليم.
ويوصي التقرير بإنشاء هيئة انتقالية عليا لدارفور تضم رئيس الجمهورية والنائب الأول والوسيط المشترك للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وقائد قوات يوناميد ووزراء العدل والداخلية والشؤون الإنسانية لمراقبة وتنفيذ الترتيبات القانونية والقضائية المقترحة كما جاء أعلاه. وأخير على المؤتمر أن يقبل التوقيع على اتفاق شامل لوقف إطلاق النار في ولايات دارفور الثلاث من خلال مباحثات السلام في الدوحة.
ويوصي التقرير جميع حركات التمرد في دارفور بالمشاركة في مباحثات الدوحة بغرض التوصل لاتفاق سلام شامل وتطبيق الترتيبات القانونية والقضائية وآليات العدالة الانتقالية بوصفها عناصر أساسية في حل الصراع.
ولقد أوصى التقرير الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن بخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والصين بتأكيد دعمهم للمحكمة الجنائية الدولية والإصرار على أن يتعامل السودان وغيره مع المحكمة في تنفيذ أحكام التوقيف على من صدرت ضدهم ما لم يصدر مجلس قرارا بأرجاء تنفيذها. ثم الموافقة على أن يصدر المجلس قرار التأجيل بعد أن يكون السودان قد نفذ الترتيبات المطلوبة من المؤتمر الوطني. كما يطلب من المجلس أن يوصي الوسيط المشترك بأن يضمن أي تسوية نهائية إصلاح النظام القضائي والعدالة الانتقالية كبنود أساسية. ويطلب من الوسيط المشترك أن يكون إنشاء لجنة للحقيقة والمصالحة وآليات للمشاركة في الحياة العامة أو الحرمان منها وفقا لنظام متفق عليه ضمن بنود أي اتفاق تسوية.
ولم ينس التقرير أن يقدم توصية للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية تمثلت في أن يستمر في التحري عن تهم بارتكاب جرائم كبرى مع بقية المسؤولين السودانيين وقادة حركات التمرد واللجوء إلى طريقة أوامر القبض التي لا تذكر اسم المطلوب للعدالة حتى ينفذ أمر القبض وتوصية التقرير للجنة الحكماء بشأن دارفور التابعة للاتحاد الأفريقي هي أن تطلب اللجنة من المؤتمر الوطني بأن يمضي قدما في التحريات بشأن السياسات التي قادت إلى وقوع جرائم وتضمين الإصلاح القضائي، ورفع الحصانات الدستورية لتسهيل التحقيق وتضمين نظام للعدالة الانتقالية بوصف ذلك من العناصر الأساسية في عملية السلام في دارفور. كما على اللجنة التوصية باتخاذ إجراءات عملية لتحويل المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب إلى محكمة تحاسب مرتكبي الانتهاكات في القارة الأفريقية.
منع الرقيب الأمني هذا المقال من النشر في جريدة الصحافة بتاريخ 21 يوليو 2009
[email protected]
بقلم: د. أسامه عثمان