عندما أمسكت بيراعى لأكتب عن السودان، قررتً أن أنبش المواضع التى تعتبر محرمة عند السودانيين ، وهى محرمة ليست لأنها كذلك ولكن الخوف الوهمى من تبعات ذلك هو الذى جعلها محرمة بقانون المقهورين ، وعندما أقبل على كتابة مثل هذه المواضيع لا يخفى عليى حجم السباب الذى قد ينهال على من المقهورين قبل القاهرون ، وذلك لأن القهر الذى سكن المقهورين هومن جراء الحالة التى وصل اليها السودان، فالقاهر والمقهور كليهما ضحايا الجهل ، قد يظن البعض أن كل من يحمل شهادات علمية هو غير جاهل ولكن الواقع فى السودان اثبت أن الامر يختلف لأن الجهل معناه اشمل من الذى يتخيله حتى حملة الشهادات العلمية ، فمثلا التخبط فى ادارة البلد ألم يكن للجهل دور كبير فيه ، اذن ما هو المسكوت عنه فى السودان منذ 1956 الى الأن.
أى شى مسكوت عنه هو شيىء معين ومعلوم بالضرورة بالنسبة للساكتين عنه ، فالسودان الذى عرف بحدوده الحديثة وقبل استقلال الجنوب منه لم يكن فى قناعات أى سودانى أنه وألاخرين ينتمى الى شعب واحد فكل السنوات ال 57 التى مضت من عمر السودان بعد خروج المستعمر منه كان السودانيين يخدعون انفسهم ويدعون أنهم شعب واحد ، ولكن هل حقا نحن فى السودان شعب واحد ؟! فاذا حاولنا ألاجابه عن هذا السؤال بصدق وتجرد فألأ جابة حتما ستكون لا نحن لم نشعر بأننا شعب واحد ، فعليك ايها القارىء الكريم مظاهر ما ندعيه فى هذا المقال.
أولا الشعب الواحد من أركانه هو الاحساس بألانتماء القوى لذلك الشعب ، ومن ذلك يظهر الاحساس بالالم عندما يصيب جزء من هذا الشعب مكروه فيتألم له كل الشعب، هل هذا الاحساس بالفعل موجود فى السودان؟ حتما لا فالسودانيين بدلا من أن يدفعوا الشر عن بعضهم بعضا أصبحوا ساديين يستمتعون بعذاب الاخرين الذين لا ينتموا اليهم عرقيا أو دينيا أو جهويا ولكن تجمعهم رقعة جغرافية تسمى السودان، وليت ألامر وقف عند ذلك الحد بل يشد السودانيين الرحال لأبادة سودانيين آخرين فى عقر دارهم، مستخدمين فيه موارد البلد ، خلال 57 عاما أقتتل السودانيين وما زالوا يقتتلون الى الان وخلفوا أكثر من ثلاثة مليون شخص وهذا الرقم يساوى اربعة اضعاف سكان دولة قطر ، اليست خدعة بعضنا لبعض هى التى تعمينا عن الحقيقة ونصر اننا شعب واحد .
الجهل ألم يكن لاعب اساسى فى السودان وهذا لايسلم منه القاهر والمقهور لأن القاهر اذا لم يكن جاهل بمصلحة السودان لما تخندق خلف عرقه أو قبيلته، وكل هذا التخندق هو الذى اشعل الشرارة الاولى للحرب فى السودان ، فمن العبث أن نحمل المستعمر الاجنبى كل مايصيبنا من مكروه فى الدوله السودانية ، لأن الاجنبى خرج منذ خمسة عقود ونيف اذا لم يكن الجهل بمصلحة السودان ماذا يكون ، فمنذ العام 1956 انتهت الشماعة التى يعلق فيها السودانيين مشكلاتهم ،فالبلد آل الى السودانيين من ذلك التاريخ فبدلا من أن تتناغم الثقافات السودانية المتنوعة وتتآلف القبائل المكونه للسودان ظهرت مجموعة عرقية فرضت نفسها على السودانيين ، بأن لغتها هى سيدة اللغات السودانية لأنها اللغه التى نزل بها القرآن ، فخلطوا الدين باللغه واعطوا اللغه العربية صفه القدسية ، ناسين أن الله لم يفضل لغه على أخرى والا لجعل للعالم لغه واحدة ، هذه ليست دعوه للقبلية ولا لتغيير دين أحد ولكنها دعوة صريحة للتفريق ما بين ما هو دين وماهى لغه أو خلاف ذلك ، فكل السودانيين ظلوا يتخبطون فى علاج مشكلاتهم بمشكلات أخرى ألامر الذى لن يكتب له النجاح لأن اصل المشكله لم يتفق حولها السودانيين ، فهم أو نحن السودانيين لكل منا وصفته للمشكلة السودانية والتى تتعارض مع وصفة الآخر ، فأصبح الامر حوار طرشان.
قبول الاخر من ابرز سمات الشعب الواحد وان اختلفت خلفياتهم العرقية والدينية ، ولكن فى السودان هذه السمة غائبه تماماً واذا لم يكن كذلك لماذا استقل جنوب السودان ، الم يكون غياب الانتماء هو السبب وراء ذلك.
من العجائب أن فى السودان يقتل 3 مليون سودانى بأيدى سودانية ، خلال فترة الاستقلال المدعاه والسودانيين لا يعبرون عن رفضهم لمثل هذه الجرائم ولكنهم يخرجون فى تظاهرات كبيرة لنصرة الاخوة العربية فى فلسطين ، بماذا نفسر خروج السودانيين فى مظاهرات لنصرة الاخوة العرب فى فلسطين وشد الرحال لقتل مواطنين سودانيين فى جنوب السودان ، دارفور ،جنوب كردفان ، والنيل الازرق ، الا يفسر ذلك السلوك انعدام الانتماء لشعب واحد ، أى عاقل لا يستطيع قبول المنطق الذى يدعى أن السودانيين تجمعهم روابط غير الموقع الجغرافى الذى يسمى السودان ، كيف لا والسودان تم تشكيله بهذه الصورة قسرا ليلبى طلبات المستعمر الاجنبى وبعد خروجه واصل وكلائه نفس السياسات التى ورثها من ذلك المستعمر الذى استعان به بعض السودانيين لحسم سودانيين آخرين لعدم انتماءهم لهم عرقيا ، فى الواقع السودان الحالى الذى لم يتشكل حسب رضا أهله لهذا السبب لن يتعافى الا اذا اكتملت شروط الدوله فيه ، قد يقول البعض أن السودان دولة مكتملة الاركان بوجود ارض وحكومة ، وخدعتة وجود شعب وسيادة فى الوقت الذى لا ينكر أحد بوجود دوله لأن هنالك رقعة جغرافية تسمى السودان ولها حدود معروفة وهذه الرقعة الجغرافية بها ناس نعم بها ناس ولكن هل تحول هؤلاء الناس الى شعب سودانى بمعنى الكلمة لكى تتحول تلك الارض الى دولة ذات سياده ؟! الاجابة بالطبع لا لأن السودانيين اذا تحولوا من مجرد قبائل متنافرة الى قبائل متآلفة فسيتحولوا الى شعب سودانى بمعنى الكلمة.
ولكن هذا التحول المنشود نسبة لقصر نظر الفئة التى لا ترى فى السودان الا العروبة فهو محرم على السودانيين ولكن الاخطر من ذلك أن المهمشين وبسبب القهر لا يسمحوا لك حتى بالوصف الحقيقى لمعضلة السودان . خلال الخمسة عقود الماضية حاولت كل الحكومات التى تعاقبت على حكم السودان أن تمحو كل اللغات السودانية لتبقى العربية هى التى تتداول على السن كل السودانيين ، كم تلميذ تمت معاقبته فى المدرسة لأنه تحدث لغته ، كم طالب لم يستطيع مواصلة تعليمه العالى لأنه لم ينجح فى مادة اللغة العربية فى امتحانات الشهاده الثانوية وذلك لأن اللغه العربية شرط من شروط النجاح فى تلك الامتحانات ، هذا الامر لا يفسر فقط محو اللغات الاخرى فحسب بل يمثل سياسة ممنهجة لتعطيل طلاب الهامش من التعليم وقد حدث بالفعل ، ليت ألأمر وقف عند ذلك الحد فحسب ، ولكنه تعداه الى المواد الاخرى الحساسة مثل التاريخ ، قد يظن البعض أن التاريخ حدث عفى عنه الدهر فقط ، نعم أنه حدث ولكنه مهم بالنسبه للحاضر والمستقبل والتاريخ له أثر واضح على نفوس الحاضرين ، فى السودان حتى الاحداث والشخصيات التاريخية يتم انتقاءهم ، فلا يدرس الطلاب السودانيين تأريخ السودان الا انتقائيا وخاصة عندما يأتى دور الشخصيات السودانية يمدح بعضهم والذين لم يسجلوا بطولات الا فى مضمار السباق وكذلك لهم وصمة العار لأنهم استعانوا بالغزاه وجلبوهم لاحتلال السودان وما كان الامر يهون للمستعمر الا بمساعدة هؤلاء الذين يظن احفادهم أن أى تفريط فى حكم السودان تعنى نهاية العروبة فيه ولكن نسوا هؤلاء أن السودانيين الاصلين يحترمون ضيوفهم ويعرفون حرمة قتل الانسان قبل مجىء الاسلام الى السودان.
لكن بالمقابل وضعوا سياسه ممنهجة تهدف الى تشويه صورة كل زعيم تاريخى سودانى اصيل وذلك بوصفهم بالدكتاتورية والتسلط ومن هنا ينطبع فى عقل ذلك التلميذ اليافع أن أى زعيم لايمت للعروبة بصله فهو غير جدير بالاحترام أو الاعتزاز به ، فالنتيجة الحتمية أن ينشأ من كان ينتمى للعربية مرفوع الرأس و الذى لا ينتمى للعربية يتوارى خجلا من تاريخ اجداده المتسلطين القاهرين ، وليخرج من ذلك المأزق يحاول أن ينسب نفسه الى العروبة حتى تكون له مكانه عند رصفائه من تلك المجموعة. وألاخطر من ذلك والى عهد قريب يرى أهل القرى النائية من المركز أن ابنهم الذى يجيد التكلم بالعربية هو المثقف عندهم وواعى زمانهم ومكانهم ، كألذى يحدث لأخوتنا العرب عندما يتحدث أحد ابنائهم الانجليزية يرون فيه الشخص المثقف والذى ليس له مثيل عندهم ، كل هذا بسبب القهر والجهل الذى اعترى السودانيين بدرجات متفاوته ، على ضو ماسبق زكره من تثبيت للكراهية عن طريق المنهج التأريخى على مدى 57 عاما نشأ الفريقين فى السودان على تلك الحالات النفسية المختلفة ولايمكن للذى يرى أنه الافضل أن يقبل ألأخر وألأخر الذى طحنته السياسات العنصرية أن يقوى حتى على تشخيصها ، فكفر ابناء الهامش أن يضع المشكلة السودانية فى موضعها الحقيقى تجده يرتجف خيفة من أن يوصم بألعنصرية البغيضة والتى لاتعد كذلك عندما يستخدمها قاهره وهو يعلم تماما أن المشكلة فى السودان هى فى الاصل عرقية ولكن من يجروء على ذكر ذلك يتصدى له المقهورين قبل القاهر.
بعد كل هذا قد يظن البعض أن هذا المقال يبث الكراهية بين ابناء السودان لا لشىء الا لأنهم لايهتموا بمضمون المكتوب ولكنهم يهتموا بالمواضع المسكوت عنها ، ولكن اذا كان المسكوت عنه هو حقيقة فمن العبث أن يبدى احد خوفه.
يحضرنى فى العام 2002 عندما تخرجنا من جامعة جوبا كانت هنالك جمعية تسمى بجمعية الثقافة الافريقية وقررنا أن نحتفل بأسم تلك الجمعية فكان أحد الخرجين والذى اصيب بمرض العروبة قدمت له دعوة بأن يحتفل معنا فتخيل رده قال “أنا ما مكن اتخرج مع العبيد سوا ” اشارة الى اعضاء الجمعية ، لكن نسى أن غالبية هيئة التدريس الذين أوصلوه الى أن يحمل شهادة البكلاريوس كانوا هؤلاء الذين يسميهم عبيد، أتدرون لماذا انفصل جنوب السودان؟! هل لأن دانات الانتنوف كثرت عليهم كما أوضحت فى مقال سابق أن جنوب السودان لم تفصله دانات الانتنوف ولا صواريخ الميج ولا قازفات الابابيل و لا كتائب الدبابين ولا متحركات صيف العبور كل تلك مقدور عليها ولكن الجنوب فصلته الهوية العربية الاسلامية المفروضه على السودانيين شاؤا أم أبوا لكن الجنوبيين أبوا ، ولكن هل ابى الاخرين لا أظن ذلك لأن من أبى فهو لايخشى أن يوصم بالعنصرية والجهوية وغيرها من النعوت ، لأن الوهم الكبير الذى يردده المهمشين قبل القاهرين وهو وحدة تراب السودان ووحدة السودان هو الذى يعمى الابصار التى هى اصلا أنهكت بالنظر الى المستقبل المجهول ، السودان أمامه فرص ضئيلة ليبقى موجدا لأن وحدة السودان تضمنه فقط تغيير نظرة المقهور تجاه قضيته ونظرة القاهر لمستقبله الذى اصبح غير معروف فى حال وعى ذلك المقهور. أما ذلك أو انهيار السودان لأن وحدة السودان من غير عدالة غير مرغوب فيها ، تفكك السودان الى دويلات يشع فيها نور العدالة أفضل وأرحم من وحدة السودان التى فيها سادة وعبيد.
أزمة المعارضة السودانية واحدة من مشكلات السودان المزمنة ، فالذى يحدث فى السودان شىء والمعارضة شىء آخر ، فى الاصل ما يعرف بأحزاب المعارضة فى الداخل غير صحيح لأنه لاتوجد احزاب معارضه فى ظل نظام شمولى لأن واحد من أهم ملامح الانظمة الشمولية حظر المعارضة فى الدولة فأذا كان ألامر كذلك مباشرة يعنى أن فى السودان لاتوجد احزاب معارضة فى ظل حكم المؤتمر الوطنى الشمولى ، مما يعنى أن تلك الاحزاب تخدع فى السودانيين ، بأن يعارضو النظام نهارا جهارا ولكن ليلا هم يطبخون مع نفس النظام الشمولى السياسات التى يطبقها ذلك النظام ، فقط الذى يحدث هو تقاسم ادوار بين الاحزاب والتى حكمت السودان منذ 1956 فلا يستطيع أحد أن يقنع نفسه ليقول أن تلك الاحزاب تعمل لمصلحة السودان والسودانيين ، وهذا واضح خلال فترات حكمها والتى بعض منها حكمت أو اشتركت فى حكم السودان أكثر من مرة فماهو الجديد الذى سوف تأتى به تلك الاحزاب فى المستقبل غير الاستمرار فى تنفيذ المخطط الثابت وهو تحكيم قبضتها على الهامش الذى لايستطيع الخروج من ابط هؤلاء وهذا واضح عند ثورات الهامش التى جلها وقعت تحت تأثير تلك الاحزاب ، وبذلك ترى أن تلك الاحزاب هى مرجعيتها ، فالمهمشين ظلوا فى دوامة نفس الاحزاب ، وهذا يتضح من خلال تكوين التجمعات السياسية لمواجهة النظام ، والتى تلعب فيها الاحزاب المذكورة دور المنفذ بمعنى تنفيذ الخطط التى ساهم فيها ذلك التجمع ، نبهت الثوار فى مقال سابق عن عدم التحطيب بالدابى ، وألاخطر من ذلك كله أن الثوار يرون فى تلك الاحزاب البالية طوق نجاتهم ويظنون بدون تلك التنظيمات لن يقنعوا احد أنهم تنظيمات قومية هذا لا لشيء الا ان الخوف الذى سكن النفوس لفترات طويلة قد حطمت مراكز الثقة بالنفس بطرح الموضوعات الحساسة التى قد تؤلم ولكنها هى الحل الناجع للازمات السودانية كلها ، لأن كل السودانيين اذا ما تيقنوا من قدرات بعضهم بعض حيث لا تدعى مجموعة بأنها خلقت فى هذا الارض لكى تتسلط على الاخرين وتيقنت ايضا مجموعات أنها لم تخلق لتصبح ادنى من الاخريات فسوف ينصلح حال السودان والا فالانهيار محتمل.
عبدالعزيز دانفورث
[email protected]