تعنيف بهرام..والموقف السياسي للصحافي

صلاح شعيب
لا صحافة بلا موقف. أما الصحافي الذي يظن أن الحياد البارد هو الطريق للمجد الصحفي فهو مخطئ. وإن لم يكن الصحافي متخلقا بآداب رسالية أعلى فماذا عساه أن يكون؟. والذين يظنون أن بالإمكان أن يعملوا في أجواء الديكتاتورية التي ترضى عنهم، وأن يكونوا ـ في ذات الوقت ـ مهنيين بدرجة أولى يخلطون بين الحقيقة والخيال. ففي أجواء الديكتاتورية ليس هناك ثمة حياد إلا بالشكل السلبي الذي يريده الحاكم ليقول، مخادعا، بوجود رأي آخر. وإن حاولت أن تكون موضوعيا فعليك أن تدفع الثمن الباهظ أمام السلطات. أما إذا كنت ترنو إلى الحياد النسبي فهو لا يتوفر إلا في بيئة الديموقراطية التي تكثر فيها الصحف المستقلة حقا. آنئذ يمكن أن تحتفظ بمسافة وسط مختلف التيارات السياسية، إذ هناك تعطي اهتماما لقيصرها اليميني ذات المساحة من التغطية لكسراها اليساري، أو الوسطي.
إذن، فلا قيمة لموضوعية وحياد في بلد يقوم على رأي الفرد. والمحررون، في بلد كهذا، مأمورون من قبل السلطة بألا يقتربوا من كشف الحقائق بذريعة الأمن القومي، وبألا يحلموا بأن يقوموا بحملة تحقيقات لتغيير قوانين البلاد التي تعفي النظاميين من المثول أمام سوح المقاضاة، سواء إن ارتكبوا جرائم قتل، أو أفسدوا في العمل العام. ثم أين هي الموضوعية والمهنية التي يدوس جهاز الأمن على وردتها حين يراقب الصحف، وحين يجعل “النبشطي” من رئيس التحرير ضميرا لجهاز الأمن ـ ضمير المستبد؟ ثم أين هي المهنية التي تمنع تناول الجرائم التي يخطط لها المسؤولون الكبار في الحكومة في بوادي السودان؟ بل أين نقدة بهرام من تفهم مهنيتهم القائمة على الرضوخ لأمر سلطة الاستبداد التي توقف الصحف من تناول مذابح الحكومة، وتضع الصحافيين في المحاكم إن كتبوا عنها؟ إذن أين هو الحيز المتروك للصحافي حتى يشغله بالموضوعية والحياد؟. وما دام أن مفاتيح صناعة الصحافة ونجاحاتها متصلان برضا الجهات الأمنية، والاستخباراتية، التي تفبرك الأخبار فكيف يا ترى يصمت بهرام حتى لا يواجه المسؤولين عيانا بيانا ويقول لهم أنتم كذبة؟ وإذا كانت هذه هي أولى القضايا التي يجب للصحافي المحايد والموضوعي نسبيا أن يتطرق إليها لإصلاحها فماذا يعني اصطياد من هم بلا سلطة مثل بهرام لنصحهم، ولا ينصح وزراء يرددون الكذب حول المندسين الذين قتلوا الشباب في يوم تظاهرهم الأعزل. وفي معنى الحياد، والمهنية، من هو الأولى بالنصح: أهو صحافي راعه ذبح الحقيقة أمام أعينه أم رئيس لا يعزي رسميا في وفاة أكثر من مئتي شاب من أصدق شباب البلد، وأكثرهم حرصا على الالتزام بقانون النظام نفسه الذي يبيح التظاهر السلمي؟
على أن الذين يهاجمون بهرام عليهم أن يدركوا أن ديكتاتورية الإنقاذ لم تحارب شيئا أكثر من الحياد والموضوعية في مجال الإعلام والتلقي. فما الذي يجعل صحافيين مهنيين صارمين أمثال محجوب محمد صالح، وفيصل محمد صالح، ومرتضى الغالي، مثالا، خارج منظومة التأثير الإعلامي في بلادهم، بينما تفتح “أبواب الوصول” للذين يتشدقون بالحياد، ولكنهم يعيشون حياة الرغد؟. وما الذي يمنع كتابا موضوعيين كثر من التأثير من على كل مساحات الإعلام بينما تتم استضافة هؤلاء الذين يريدون أن يقولوا نصف الحقيقة ثم يحتفظ أكثرهم بالنصف الآخر منها لضرورات المعاش الآمن؟. ثم هل بعد كل هذه السنين من الخبرة يتجرأ أحدهم في أن يحاضر أستاذ الجيل بأن صحيفته ما توقفت إلا لأنها تغفل الحياد المهني، وتغفل كذلك الانتباه إلى موضوعية التناول في صفحاتها.؟ الحقيقة أن مدرسة “الأيام” التي أنجبت أفضل الصحافيين والكتاب كان يمكن أن تكون إرثا وطنيا لا يقل عن إرث كبريات الصحف العالمية المستقلة. ولكن الحقيقة أن كل الأنظمة الشمولية عملت على محاربة حيادها، ودورها في تدريب الأجيال، وتنوير المواطنين. وفي مقابل ذلك اعتمدت على صحف ولاء، وصحافيين مستعدين لتغبيش الوقائع.
على أنه يتيسر لهؤلاء الصحافيين والكتاب المرتبطين برأس المال الإسلاموي المرابي أن يحاضرونا عن أخلاق المهنة، ومتطلباتها، ومحاذيرها. ولكن صعب عليهم أن يقنعونا أنهم ينطلقون، أخلاقيا، من منصة الحياد والموضوعية.
-2-
إن العالم ما فتئ يشهد العصف الذهني بين مهنية الإعلامي ومواقفه السياسية، إذا كان يطرح نفسه من زاوية الاستقلال. هذا الحوار ليس هو جديد اليوم، وبلادنا شهدت مثل هذه الحوارات من قبل. ومع ذلك تظل علوم الصحافة أعجز عن تعريف مهنية الصحافي والكاتب. ففي واقع التباين المعرفي، والفكري، والأيدلوجي، الذي يسم أي مجتمع تبقى هذه العلوم نسبية. وواقعة الصحافي بهرام ليست أمرا غريبا ليدان، أو ينصح، أو يعنف. فهو آنذاك انطلق في صحافيته بناء على علوم إعلامية تعد الصحافي ضميرا للمجتمع. يتمثل قيمه، ويغضب لغضبه، ويفرح لفرحه، وينحاز لأحلامه، ويقاوم تسلطه، ويتظاهر مع المتظاهرين ليدفع أحلامهم إلى بر الأمان. هو آنئذ الإعلامي الذي يقوم مقام المدعي العام للجمهور، إذ يعمل لصالحه كما لو أنه يمثله في المحاكم ويزيد في حيثيات ادعائه حتى يكسب قضيته. هنا يبقى الإعلامي خادما للمجتمع، وليس ناشطا بالمعني المخبول الذي يستبطنه البعض للتقليل من شأن الدور الذي يقوم به الناشطون في مجالات الحياة. إنما هو هنا داعية للحرية والديموقراطية. ويمكن أن يقوده دوره الصحفي من أجل تحقيق هذه المعاني إلى الحبس، والموت، والجوع، وتشويه السمعة. هذه هي المدرسة التي ترى أن الإعلامي ليس شخصا باردا، بلا فؤاد، أو إحساس بمسؤولية تجاه شعبه، وهنا يصبح والداه وأولاده، وأهله، وأصدقاؤه، عناصر فاعلة في هذا المجتمع. هنا ينهض الإعلامي بدور رسالي، محراثه صحوة ضميره، وحصاد المتلقي هو القيمة الإعلامية والمعنوية والمعرفية التي يستنبطها من خلاصة الجهد الإخباري، أو الاستطلاعي، أو الحواري، أو الترفيهي، أو التحقيقي، أو الثقافي الفني، إلخ.
والإعلامي وفق هذه المدرسية يتسامى إنسانيا. ويتكامل، دوره مع منظومات نشطاء المجتمع المدني التي تحرس مصالح الشعب ضد تغولات اتجاهات تسلطية استبدادية، وجماعات رأسمالية ربوية وربوبية، ومطامع تجارية طفيلية، ونزوات سادية تنخر في عظم المصلحة العامة. ولعل هذه المنظومات في جوهرها هي التي تسهم في التنوير في حوزاتها العملية، وتجعل معالمها أكثر نفعا للمجتمع، والإنسانية، والفرد. وبهذا الأفق تظل هذه المدرسة الإعلامية هي الأكثر فاعلية في شحذ المجتمع نحو تقدمه ورقيه، وسلامه، وتسامحه، وحراسته من تغولات سخيمة. وعوضا عن كون الإعلامي جزء من رغبات السلطة، والجماعات المهيمنة التي تقصر دوره على عاملي وهم الحياد، وشبح الموضوعية اللذين يخدمان الطبقات العليا، يكون لعمل الاعلامي طعم المعرفة، وروح الوفاء للحقيقة، ولا شئ غير الحقيقة التي يراها بمنظوره هو. وعندئذ تكون لمادته صدق الموقف، وشفافية التناول، وشجاعة الطرح، والمروءة تجاه المستضعفين في الأرض. وكونه يعبر عن موقفه الإيجابي ضد السلطات الدينية، والسياسية، والاجتماعية، التي تريد فقط أن يكون عمل الإعلامي مكملا لاستراتيجيتها التي تناوئ روح العمل، والإبداع، والحياة، فإن الإعلامي هنا يمارس سلطة نشر الحقيقة، والمعرفة، والإمتاع.
-3-
أما معنى الحياد والموضوعية الحادث في صحافتنا اليوم فهو ليس إلا محاولة للتنصل عن الالتزام الصارم بأصول مهنة الصحافة. وفي جانب آخر فالحياد المعني هو محاولة للاستجابة إلى متطلبات النظام القائم. والأمر في جوهره يتعالى عن الموضوعية والحياد. إنه أمر موقف بشكل عام من غياب الحريات العامة، والإعلامية ضمنها. فالصحافيون والكتاب يعرفون أن هذه السلطة ديكتاتورية في المقام الأولى. وبالتالي لا يمكن الحديث عن الحياد بين المواطن المغلوب على أمره والحاكم المستبد. فالعلاقة الآن بين الإعلام والسلطة تحكمها مهتديات إعلامية مكتوبة، وأخرى عرفية أو متضمنة في وعي ولا وعي الإعلامي. فكم من المواضيع والمقالات الموضوعية والحيادية كانت سببا في إيقاف صحف ومحاكمة صحافيين وتشريد آخرين؟.
إن عنصري الحياد والموضوعية اللذين تفهمهما السلطة هو أن (يغض الصحافيون قلمهم المبصر) عن جوهر المآاسي التي ترتكبها ليبقى أمام الصحافي أن يختلف معها حول أسعار المواصلات الجديدة، أو مجادلتها حول أولوية المدينة الرياضية أم دور الثقافة، حول أفضلية رؤية صندوق النقد في الإصلاح الاقتصادي أم الاعتماد على توصيات خبراء كليات الاقتصاد، حول الحوار مع الجبهة الثورية أم الاعتماد على ما يسمى بتوحيد “الصف الوطني، حول بيع مؤسسة الأقطان السودانية أم تجديد خططها، إلخ. وهذه هي المجالات التي لا تخشى فيها الحكومة مختلف وجهات النظر، وإن بدرجات معقولة حتى لا تنكشف مرامي الطفيلية السياسية والاقتصادية في أتون هذا الجدل. أما غيرها من الأزمات فإن الحكومة لا تريد تناولا إعلاميا يمس استبداديتها المطلقة. ورؤساء التحرير المؤلفة قلوبهم يعرفون ذلك المرسوم الموقع بين عقولهم وعقول المتسلطين. ولذلك لا يرى الأستاذ أحمد البلال الطيب في حواره مع محاوره أنه فعل شيئا يضر بحياديته أو موضوعية تناوله. فهو قد عرف قوانين اللعبة التي تحافظ على شكل ومضمون السلطة، على أن يبدو أمام القراء أنه قام بدوره الوطني في نقل الأحداث التي لا ترى السلطة غضاضة في التعرض إليها. أما الأخطاء والممارسات التي تبرز خلال التحقيق الصحفي فذلك أمر يجب ألا يضعه أمام التساؤلات القانونية وإن امتلك المحرر الوثائق.
-4-
عدت إلى كلمات سؤال بهرام فوجدت أنه لم يخرج عن الموضوعية والحياد الذي يطالبه به بعض الذين لم يطبقوا حيادا في تجاربهم. أللهم إلا الحياد بمعناه الذي يتحاشى قول الحقيقة المرتبطة بالسلطة. إن الصحافي الشجاع سأل الوزير د. أحمد بلال عن جدوى الكذب حول حادثة قتل الحكومة للمتظاهرين، وكان على الوزير أن يسأله إن كان يملك وثائق تدعم سؤاله ثم يرد. ولكن فضل الوزير التهرب من السؤال الذي لم يتوقعه بطبيعة ذهنه، وذهن الذين يجلسون في مثل هذه المؤتمرات ليسألوا سؤالا يفضله المسؤول. أو لا يخرج عن مألوف الصحافي الذي يعمل في النظام الشمولي.
وعلى ضوء هذا لا نريد هنا، في الواقع، أن نستند إلى مراجع في الخلاف بين المؤيدين لصحافة محايدة وموضوعية في النظام الديموقراطي والمعارضين لها، وهذا شغل الدراسات الأكاديمية. ولكن يختلف الواقع في بلدان العالم الثالث التي من ضمن أولوياتها الحوار حول كيفية إرساء الحكم الرشيد الذي يكفل الحرية والديموقراطية في المقام الأول ثم تأتي بعدها أولوية إرساء مفاهيم حول إمكانية إحداث هذين العنصرين المتصورين في مجال الإعلام.  فالحياد والموضوعية إزاء من ولماذا في عالمنا الذي لم يحقق حلم الدولة الوطنية؟ فالقضية الجوهرية هي أن هناك مشهدا تبدو فيه طريدة تحاول بصعوبة الانفكاك من براثن معتد يريد التهامها، كما يتلهم الذئب الأغنام القصية. وفي وضع مثل هذا لا يمكن أن نتفرج كصحافيين على المشهد لننقل للناس وقائع هذا النزال غير العادل. فالموقف الأخلاقي في زمن الديكتاتورية يسبق الموقف المهني. فالحكام يطاردون شعوبهم الذين يقعون فريسة سهلة أمام ماكنيزم السلطة القوي. وهنا تأتي أولوية الدفاع عن الفريسة، وهي الاتجاهات الفكرية المعارضة للسلطة الديكتاتورية، ومنظمات المجتمع المدني، وقوى المجتمع السلمية والعسكرية التي أجبرتها ظروف التسلط على حمل السلاح كآخر سبيل في الدفاع عن حق الحياة أمام وحشية الدولة في التعامل مع دعاة التغيير المنطلقين من المركز والأطراف.
والحال هكذا لا يساءل الإعلامي، أوليا، عن مستوى معارضته الفظة للسلطة الاستبدادية، وإن جاءت عبر مجرد سؤال، نعم مجرد سؤال. وإنما تبقى المساءلة في الأساس عن الظروف التي فرضت للصحافي الصادق الغضب تجاه وزير إعلام انتهازي يفبرك القصص عن حقيقة ما جرى أمام مرأى ومسمع السودانيين والعالم. وهناك في مغارة النت المئات من الوثائق التي كان يمكن لبهرام الاستناد عليها. ولعله وقف عليها قبل التوجه لقاعة المؤتمر الصحفي. قد يصح الحوار حول مهنية بهرام الحادة في حالة قيام واقعه على نظام ديمقراطي يكفل للصحافي مواجهة وزير منتخب هو أهل للمنصب. ولكن تبقى المساءلة هنا، نفسها، بمرجعية معارضة صحافة الاستقلال لتوطين فهم صحافة الحياد النسبي. ثم هل يجوز للصحافي أو الكاتب المؤدلج أن يطالب الاستاذ بهرام بالحياد والموضوعية بينما هو يعمل في مؤسسات تمكن فيها بخلفية انتسابه إلى ضجيجه الايدلوجي؟.
استقلالية صحافة بهرام، وحياديتها، وموضوعيتها (نسبيا) ـ إن فضل ـ تأتي في واقع ديموقراطي يتيح للصحف المستقلة مجالا بأن تكون قاعدة لرصد مشاهد الأحداث العامة من زاوية الرقابة الأمينة لأفعال الحكومة، وللأطياف السياسية. وعندئذ لا تنحاز مهنية صحافي فيها، أو موضوعية كاتبة ضمن الطاقمها التحريري، إلى اتجاه فكري، أو سياسي، أو ايدلوجي بعينه. ذلك مع حق الكتاب الذين تختارهم الصحيفة ليمثلوا اتجاهات اليمين واليسار والوسط والاستقلالية في التعبير عن قطاعات المجتمع من خلال إبداع في الكتابة السياسية. وذلك اتجاه صحافي تتكامل أدواره مع اتجاهات تفضل الصحافة “المستقلة إنحيازا” أو الصحافة الحزبية، أو الأيدلوجية، أو “صحافات” تعبر عن رغبات اجتماعية متنوعة، وتتباين أجندتها. وكان ذلك هو شأن الممارسة الصحفية في الوضع الديمقراطي الأخير، مع التأكيد على عدم التزام كثير من الصحف حرفيا بخدمة المعالجة الصحافية المستقلة، أو الحزبية، أو المؤدلجة، أو غيرها. مواجهة بهرام للوزير بذلك السؤال الشجاع احرجت مهنية نقاده الذين يستميتون في تجويد الحياد بين مواطن أسير وسلطان مستبد.
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *