العَدَالَةُ الانْتِقَالِيَّةُ والجَّنَائِيَّةُ الدَّوْلِيَّةِ! .. بقلم/ كمال الجزولي

من الجَّوانب القانونيَّة التي تتَّسم ببساطة مظهريَّة، لكنها، في الوقت نفسه، من أكثرها حسماً في إطار “نظام روما لسنة 1998م”، الجَّانب المتعلق بتقرير مقبوليَّة أيِّ دعوى حول “جرائم حرب”، أو “جرائم ضدَّ الإنسانيَّة”، أو “إبادة جماعيَّة”، وفق أحكام المادَّة/5 منه، وبوجه مخصوص التَّقرير بشأن الحالات التي تستوجب إيقاف أيِّ إجراء، في أيِّ تحقيق أو محاكمة، إذا ثبت أن أجهزة تصريف العدالة في أيِّ دولة ذات ولاية أصليَّة عليه بدأت فيه، أو أنه ما يزال جارياً لديها، أو أنه جرى وانتهى، وتأكَّد، فوق ذلك، توفُّر عنصري “الرَّغبة” و”القدرة” لدى هذه الدَّولة في ممارسـة ذلك الإجـراء، بالجِّـدِّيَّة والنَّزاهـة اللازمـتين، وفـق مطلوبات المادَّة/17.
وبانتفاء الشُّروط التي تحجب الاختصاص المكمِّل complementary، يضحى خالصاً لهذه “المحكمة” في شأن أيِّ تَّحقيق أو محاكمة. ومن ثمَّ ما من حائل يمكن أن يحول دون ممارستها لهذا الاختصاص، حسب المادة/13 التي تحدِّد ثلاث حالات لانعقاده: الأولى حالة ما إذا تمَّت الإحالة من دولة طرف إلى المدَّعي الدَّولي العام وفق المادة/14، والثَّانية حالة ما إذا تمَّت الإحالة إليه من مجلس الأمن الدَّولي متصرِّفاً بموجب الفصل السَّابع من ميثاق الأمم المتَّحدة، والثَّالثة حالة ما إذا أخذ المدَّعي العـام الدَّولـي علمـاً بالجَّريمـة، وبدأ بمباشـرة إجـراءاته فيهـا، وفقـاً للمـادة/15.
يتبقَّى، في السِّياق، نصُّ المادة/16 التي لا تحجب الاختصاص كليَّاً، إنَّما تفرض، فقط، إرجاء الإجراءات لمدة اثنى عشر شهراً، بناءً على طلب ضمن قرار يصدر عن مجلس الأمن إلى “المحكمة” بموجب الفصل السَّابع من ميثاق الأمم المتَّحدة، كما يجوز تجـديده بالشُّروط ذاتها.
هذه المسألة لا تعني، إطلاقاً، أن “المحكمة” جهاز تابع للأمم المتَّحدة، كما قد يُعتقد خطأ. ومن ثمَّ فلا مجال للحديث عن إمكانيَّة أيِّ تدخُّل سياسي لسحب أيِّ دعوى منظورة أمامها! العلاقة الوحيدة بين المؤسَّستين هي تلك الواردة في ديباجة “النِّظام”، والمحدَّدة بنصِّ المادَّة/2، والتي تنشأ باتفاق خاص بين الطرفين يبرمه، نيابة عن “المحكمة”، رئيسها، وتعتمده جمعيَّة الدُّول الأطراف في “النِّظام”. وإذن، لئن كانت الفقرة/ب من المادة/13 تنصُّ على إمكانيَّة إحالة مجلس الأمن إلى “المحكمة” دعوى من الدَّعاوى التي تدخل في اختصاصها، فليس ذلك لكونها جهازاً تابعاً للمنظمة الدَّوليَّة، وإنَّما لكون “النِّظام” ينصُّ على ذلك، جاعلاً منها عامل دعم إضافي، من موقع مستقل، للسِّلم والأمن الدَّوليَّين، وهي، بطبيعة الحال، المهمَّة الأساسيَّة لمجلس الأمن الدَّولي، والتي يُعتبر الفصل السَّابع من “الميثاق” أحد أهمِّ أذرعه لممارستها.

الشَّاهد أنه، وبخلاف ما قد يرى البعض، لا يوجد، لا في “النِّظام”، أو “الميثاق”، أو سواهما، ما ينصُّ على حقِّ أيِّ جهة في سحب أيِّ إجراءات قيد النَّظر أمام “المحكمة”؛ حيث أن الجِّهة الوحيدة التي تملك هذا الحقَّ هي “المحكمة” نفسها، إمَّا بناءً على تقديرها ووزنها للبيِّنات في المرحلة التَّمهيديَّة أو الابتدائيَّة، أو بناءً على مراجعتها للإجراءات في المرحلة الاستئنافيَّة. ومعلوم أنَّها، لكي تفعل ذلك، لا بُدَّ من مثول المتَّهم أمامها، وتقديمه دفوعاً مقنعة ببراءته.
وإذن، فإن المقتضى الوحيد، حتَّى الآن، لإيقاف الإجراءات، نهائيَّاً، أمام “المحكمة” وهي تباشر ولايتها التَّكميليَّة، هو، كما قد رأينا، المقتضى الذي يتَّصل بتصريف العدالة التَّقليديَّة “قاضي ونيابة وشرطة”، في الدَّولة ذات الولاية الأصليَّة على هذه الإجراءات. أمَّا عدا عن هذا المقتضى القائم في الشَّكل التَّقليدي للعدالة، فلا يوجد أيُّ مقتضى آخر، اللهم إلا نظريَّاً، ونعني به شكل العدالة التي تعرف بـ “العدالة الانتقاليَّة”. وهو مفهوم دال على حقل من النَّشاط يركِّز على مخاطبة تركة الماضي المثقلة بانتهاكات حقوق الإنسان، سواء في أزمنة السِّلم أو الحرب. ودلالة هذا المفهوم لا تقتصر على مجرَّد تصريف شكل من أشكال “العدالة” خلال فترة “الانتقال”، بقدر ما تعني، في الغالب، إنفاذ هذه “العدالة” بصورة “غير تقليديَّة” تقرن بين “العدالة”، من ناحية، كعنصر إجرائي قائم في برامج الكشف عن “الحقيقة”، وإنفاذ “الانتصاف”، تمهيداً لتحقيق “المصالحة” في المجتمعات المنقسمة، وبين “الانتقال”، من ناحية أخرى، كعنصر يتضمَّن التحوُّل الجَّذري من “الشُّموليَّة” إلى “الدِّيموقراطيَّة”، أو من “الحرب” إلى “السَّلام”. فرغم الوقت الطويل، نسبيَّاً، الذي تستغرقه هذه العمليَّة، إلا أن تطبيقاتها، كما تكشف معظم التَّجارب العالميَّة، نجحت في “فتح الصَّفحات الجَّديدة”، و”خلق البدايات المغايرة”، وتقوية وتسريع وتائر التَّحوُّل أو “الانتقال” في نهاية المطاف. وقد كسب، في غالب الحالات، رضا الضَّحايا والشُّعوب، وهذه ناحية مهمَّة في جوهر مفهوم “العدالة”.
غير أن المشكلة تكمن في أن “نظام روما”، للأسف، لا يعترف، حتَّى الآن، بأسلوب “العدالة الانتقاليَّة” كمقتضى مكافئ لمقتضى “العدالة التقليديَّة”، ومن ثمَّ لا يوجب تطبيقه إيقاف الإجراءات المتَّخذة أمام “المحكمة”. إدراج هذا الأسلوب العدلي الحداثي في “النِّظام” لا يمكن أن يتمَّ إلا من خلال إحدى الجَّمعيات العموميَّة للدُّول الأعضاء في “المحكمة”، باعتبارها الهيئة الحاكمة لها، والآليَّة الوحيدة التي يحقُّ لها ذلك.
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *