«الطفابيع» مصطلح إبتدعته مخيلة الأديب والمثقف السوداني بشرى الفاضل، ويعرفه بأنه المقابل الهزلي للسفاح الذي يقتل بصورة مباغتة ومأساوية للحد الذي تدخل فيه المأساة في إقليم الكوميديا، فيضحك الناس في الظاهر، ويدونون ابتساماتهم في ذاكرتهم الموقتة، بينما يختزنون أحزانهم في ذاكرتهم الجمعية الدائمة. يقول بشرى الفاضل: «إن الطفابيع كائنات خاطفة نوعان، فهي شبه بشرية شبه حيوانية. هم الحلقة المفقودة دون شك، لكن العلم الحديث لا زال يتعامل معهم كبشر، إذ لو لم يتعامل معهم كبشر كانت ستكون هناك اشكالات قانونية تربك جمعيات الرفق بالحيوان ومثيلاتها التي لا تتحدث بمثل هذه الوصاية فتقول الرفق بالإنسان، بل تقول حقوق الإنسان. والطفابيع موجودون في كل ناحية على وجه الأر
ض، لكنهم في العقود الأخيرة تكاثروا في البلاد التي حاضرتها القصبة، وهم موجودون منذ القدم حيث اكتشفهم باحث مجهول قبل الميلاد. وقيل ظهروا في التجمعات البشرية الأولى، لكن هذا القول لا سند له إلا الحدس والتخييل. غاية الأمر إن الطفابيع عاشوا منذ فجر الانسانية بين البشر، واختلطوا بهم، وهم في نفس الوقت يتملكهم حقد دفين على بني البشر. وللطفابيع قدرات هائلة على التخفي في الأجناس والأديان، لكن الأديان هي بيئتهم الخصبة. وثمة شواهد تدل على الطفابيع إذا أعملنا النظر في تكوينهم الجسماني والنفسي». صحيح أن بشرى الفاضل قدم إنتاجا أدبيا وثقافيا غزيرا وراقيا يضعه في مصاف القمم الفكرية والثقافية السودانية والعربية. ولكن حتى إذا كان إنتاجه الوحيد هو إبتداعه لمصطلح الطفابيع وإسقاطه لهذا المصطلح على الواقع السوداني، لكان هذا الإنتاج كافيا لتأكيد موقعه الذي يستحقه بين تلك القمم. فنحن لا نحتاج إلى إرجاع البصر كرتين لنكتشف كيف أن طفابيع بشرى الفاضل هجمت على بلاد السودان وأستوطنته، لتمزق كل ما هو سوداني ووطني، بما في ذلك قيمنا الجميلة والمشهود عليها، وتبتلع كل ذلك دفعة واحدة. وعندما نمعن النظر في لوحة بشرى الفاضل هذه، ثم إتخاذها كخلفية، وفي نفس الوقت نستمتع بموسيقاها التصويرية، رغم نغمتها الحزينة، نرصد آثار الطفابيع في المشاهد الملموسة التالية في بلادنا، والتي رغم أنها ظلت موجودة وتعبر عن نفسها بأشكال مختلفة ومتنوعة منذ ما يقرب من الثلاثين عاما، لكنها برزت أكثر وضوحا في الآونة الأخيرة.
في المشهد الأول: إختتام مؤتمر الحوار الوطني والتوافق على توصياته، والتأكيد عشرات المرات على إلتزام رئيس الجمهورية بتنفيذ هذه التوصيات كاملة ودون حذف منها. لكن، سرعان ما تفجرت الإتهامات بحدوث تزوير في التوصيات المقدمة للبرلمان ليجيز أو يرفض هذه التوصيات، وهو برلمان الحزب الحاكم إذ قاطعت الأحزاب الأخرى الإنتخابات التي أتت به. وهكذا أجاز البرلمان توصيات لا علاقة لها بتوصيات مؤتمر الحوار، علما بأن تلك التوصيات تتعلق بمسائل أساسية وجوهرية كانت من ضمن أسباب معارضة النظام والتصدي له بالسلاح من بعض القوى.
في المشهد الثاني: تغاضي المحاورين عن تشويه التوصيات، وتركيزهم على كعكة السلطة، لتندلع معركة أخرى تؤكد أن الهدف الرئيسي من مؤتمر الحوار الوطني بالنسبة للحزب الحاكم هو ضمان بقائه في الحكم بدون أي معارضة. وعلى الرغم من قناعتنا بنبل مقاصد الكثيرين ممن شاركوا في الحوار، إلا أن لعبة الكراسي الأخيرة مع التغاضي عن تشويهات التوصيات، كشفت أن أغلبية معتبرة منهم كان هدفها الأول كرسي السلطة، وليس منع البلاد من السقوط في الهاوية.
في المشهد الثالث: قيادة البلاد تقرر التعويض المالي وتوجه بتمليك عربات لأي مشارك في المؤتمر الحوار لم يجد كرسيا في السلطة…!!!. لا تعليق، ولكن غصة في الحلق!.
في المشهد الرابع: وزير قديم يرفض المشاركة في مراسيم التسليم والتسلم للوزير الجديد، إحتجاجا، وهما من حزب واحد. ووزير قديم آخر يطعن، عبر الصحف، في كفاءة وأهلية الوزير الجديد وهما من حزب واحد. ووزير جديد ثالث يمنع من إداء القسم مع زملائه بعد أن أثير في الواتساب أن شهاداته مزورة واتهم بالكذب وانه مطرود من دولة خليجية، والوزير مع وقف التنفيذ، ينفي ويتهم آخرين بالغدر والطمع في كرسيه.
في المشهد الخامس: ورغم كل هذه «الزيطة والزمبليطة» عن الحكومة الجديدة، ورغم ما ستبتلعه من موارد البلاد المالية، فإن المواطن السوداني البسيط يعلم أنها حكومة لا حول لها ولا قوة، وإن السلطة الحقيقية عند آخرين وفي موقع آخر. وهذا المواطن البسيط يدرك أن جهاز الدولة الحاكم لما يقرب من الثلاثين عاما تخلى عن كامل مسؤولياته تجاه المواطن والوطن، ضاربا عرض الحائط بمفهوم «المسؤولية تجاه الرعية»، ومشجعا فكرة الشاطر الذي يقلع حقه بيده، ومحفزا ضعاف النفوس لينهبوا المال العام. أما الحزب الحاكم، فهو مأزوم داخليا، وخلافاته وصلت حد الحريق المتبادل، الذي ستتخطى ألسنة لهبه دار الحزب لتشعل حريق الوطن الكبير.
أما المشهد السادس، فهو حقا قمة المشاهد، وأقصى درجات الملهاة المأساوية، وأصدقها تعبيرا عن معنى الطفابيع. فمنذ فترة، ودوائر هامة ومتنفذة في أروقة النظام الحاكم في السودان تتعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية وإدارة الرئيس ترامب بغزل مشين و»كبكبة» مرّغت كرامة السودان في الوحل. وظلت هذه الدوائر تعيد نشر الأخبار القائلة بأن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أوصت بأن يرفع الكونغرس الأمريكي السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، وتملكتها نشوى غريبة حد الرقص طربا وهي تبشر بلقاء مرتقب بين رئيس الجمهورية والرئيس الأمريكي في إجتماعات القمة الأمركية الخليجية في الرياض..! فجأة صارت أمريكا وصار ترامب قبلة غير تلك المقدسة، وشطحت الأحاديث والتحليلات حول الطفرة الكبرى التي سيحدثها اللقاء المرتقب، إلى أن طارت السكرة وجاءت اللطمة القاسية. ما هذا يا هؤلاء؟… ألا يوجد بينكم أي عاقل؟… إرحلوا عنا وعن الوطن يرحمكم الله!
نقلا عن القدس العربي