محمد بشير حامد
صدر قبل أشهر في الولايات المتحدة كتاب منصور خالد: «تناقض سودانين: اتفاقية السلام الشامل والطريق الى التقسيم» (The Paradox of Two Sudan: the CPA and the Road to Partition) في منشورات (Africa world Press and the Red Sea Press).
ويستمد الكتاب أهميته ليس فقط من خبرة مؤلفه كسياسي وديبلوماسي محنك ومن سمعته الواسعة والمستحقة كمثقف وباحث في الشأن السوداني بل أيضاً من حضوره في مركز الأحداث التي يكتب عنها إن لم يكن بالفعل من المؤثرين فيها. وتلك ميزة للكاتب أو المؤرخ لا يتسنى للكثيرين مثلها من حيث المشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية أو على الأقل المقدرة على النفاذ إلى دوافع ومقاصد صانعيها. ولكن، وفي الوقت نفسه، لهذه الميزة الفريدة – بحكم تفردها – ما ينتقص من أهميتها إذا تعارضت مثلاً قناعات فكرية مُسبقة أو دوافع أو تبريرات شخصية أو سياسية مع المتطلبات الأساسية للحيدة العلمية والدقة التاريخية.
وفي تقديري أنه يُحسب لمنصور خالد مقدرته الى حد كبير في التعامل بمهنية مع هذه المعادلة الصعبة على رغم أنه لا يخفي مع أي جانب تكمن عواطفه التي تطفو مظاهرها للسطح – بقصد أو بغير قصد – من حين الى آخر. وسأقتصر في هذا المقال على إحدى هذه الظواهر وبالتحديد مدى التزام الأطراف المعنية في اتفاقية السلام الشامل (بخاصة الحركة الشعبية) بالعمل على جعل الوحدة خياراً جاذباً.
الفرضية الأساسية للكتاب تقوم على أن اتفاقية السلام الشامل وضعت طريقاً للسلام الدائم والتحول الديموقراطي والوحدة الوطنية، وهي في رأيي فرضية لم يكن هناك الكثير مما يدفع للاقتناع بها، إذا أخذنا في الاعتبار طبيعة النظام الحاكم في الخرطوم والتغيرات التي حدثت في أجندة وتوجهات الحركة الشعبية قبل وبعد رحيل جون قرنق. إن المحك الرئيسى لضمان الالتزام بالاتفاقيات ليس فقط في التنازلات التي تتم عادة تحت ضغوط التفاوض (داخلية كانت أم خارجية) أو التعهدات التعاقدية التي قد تتم بضمانات دولية بل أيضاً في الثقة المتبادلة وحسن النيات والرغبة والمقدرة في تنفيذ ما أتُفق عليه لارتباطه بمصالح حيوية مشتركة.
لذلك يبدو غريباً الادعاء في ما يشبه التحسر والتعجب بأن فشل الاتفاقية الذي قاد للانفصال يرجع في المقام الأول الى تقاعس حزب المؤتمر الوطني عن تنفيذ بنودها، وكأن التاريخ المخزي للحكومات السودانية المتعاقبة في خرق وعودها للجنوبيين (والذي يخوض فيه منصور بإسهاب) لم يكن سبباً وجيهاً وملحاً للتحفظ هذه المرة ومع هذا النظام بالذات. كما أجد القول بأن حزب المؤتمر الحاكم هو «أول حزب شمالي في السلطة يعترف بالتباين والتنوع في البلاد» مما مكنه من «التحليل الصحيح للأسباب الجذرية لأزمة السودان المزمنة» يتضمن مغالطات تاريخية تدفع الى تجاهله لولا أن فيه تجاهلاً أو تحجيماً تاريخياً لدور من أستحق المدح بالفعل مثل الذين سطروا إعلان ٩ حزيران (يونيو) ١٩٦٩ (والذي وضع حجر الأساس لاتفاقية أديس أبابا لعام ١٩٧٢ التي كان لمنصور خالد كأحد كبار مفاوضيها دور مهم في انجازها) وللأسباب ذاتها أجد بعض الغرابة في الحديث عن «رؤية» (vision) و «نُضوج» (maturity) حزب المؤتمر الوطني لمجرد إقدامه على توقيع الاتفاقية فيما يبدو. فخاتمة الكتاب نفسها تحوي إدانة دامغة للإسلاميين منذ استيلائهم على السلطة واستغلالهم لها بمكابرة وتطرف وعنجهية لم يعهدها السودان من قبل، بدءاً من أسلمة واحتكار كل مؤسسات الدولة وإلى تحويل السياسة والمجتمع إلى «مسرحية أخلاقية» (morality play) تصبح فيها المهزلة مدعاة للحزن أكثر من الضحك عندما يتم تبرير الفساد اسلامياً «بفقه الضرورة».
وهذه الإدانة الواضحة لطبيعة الإسلاميين السياسية والأخلاقية لم تأتِ بالطبع انعكاساً أو رد فعل للدور الذي لعبه حزب المؤتمر في نسف الاتفاقية أو انها كُتبت في ضوء انفصال الجنوب، على رغم أنها جاءت في خاتمة الكتاب، فمنصور له كتاباته وآراؤه المعروفة عن الإسلاميين وممارساتهم تجاه خصومهم منذ حل الحزب الشيوعي عام ١٩٦٥ («يوم ذُبح الثور الأبيض») وبالتأكيد لم تفته دلالات المفارقة التي لا تخلو من طرافة على رغم دوافعها العنصرية عندما قام أحد قادتهم فعلياً بذبح ثور أسود ابتهاجاً بانفصال الجنوب.
يبدو لي أنه بعد مفاوضات مضنية لسنوات قد تصبح للمشاركين فيها مصلحة فيما يشبه الرهان على نجاحها، وقد يواكبها تعاطف طبيعي مع دوافع ومقاصد الأطراف الأخرى. ولعل تلك أشياء قد لا تكون واضحة أو متوافرة تفاصيلها لمن لم يكن في مركز الأحداث، ولكن ذلك لا يمنع بالطبع إثارة التساؤلات المشروعة حولها. فإذا استدعت الاتفاقية كل ذلك الجهد والوقت والوسطاء لتبلغ حداً من الكمال غير المسبوق من حيث الحلول الناجعة والهيكلة المتكاملة والإجراءات المبرمجة، فلماذا سارع طرفاها الى تمزيق أو تجاهل بنودها بمجرد الشروع في تنفيذها؟
هل أدى موت قرنق المفاجئ (بغض النظر عن الظروف الغامضة التي اكتنفته) إلى انهيار المشروع الوحدوي ومعه حلمه الكبير في «سودان جديد» كما اعتقد الكثيرون من مريديه في الشمال؟
وإذا كان الأمر كذلك فما جدوى وجدية الاتفاقيات التي لا تملك مقومات الاستمرارية بعد رحيل أحد موقعيها مهما كان دوره القيادي والإلهامي؟ أم هل كانت لأحد الأطراف –أو لكليهما– نيات مبيته منذ البداية في شق طريق خفي للانفصال – كما قد يتشكك البعض– ما يجعل الحديث عن فشل الاتفاقية في الحفاظ على الوحدة نوعاً من التباكي على الأطلال؟
ومهما يكن من أمر فيبدو أن الثقة في ارتقاء الإسلاميين الى منزلة الشركاء الأمناء قد تلاشت بمجرد أن بدأ الحزب الحاكم في خرق بنود الاتفاقية قبل أن يجف حبرها. وللإنصاف فإن منصور خالد يلقى باللائمة أيضاً على الحركة الشعبية ولكن بقدر غير متساوٍ من المسؤولية ويلومها بطريقة لا تخلو من التبرير، فهي غالباً سلبية في مواقفها وتتعامل برد الفعل في مواجهة انتهاكات حزب المؤتمر وتجاوزاته، كما أن الانهاك السياسي أصابها من تكتيكات شريكها التعويقية (بخاصة في موضوع الاستفتاء). ولا يخفي منصور خالد استياءه البالغ لتنامي النزعة الانفصالية وسط بعض قادتها («ممن لم تكن لهم الشجاعة لتحدي قائدهم أثناء المفاوضات») ولتزايد الشعور وسط الجنوبيين بأن تحقيق التحول الديموقراطي الذي نصت عليه الاتفاقية لم يعد مهماً للوصول للهدف القديم/ الجديد في الانفصال.
ويقدم المؤلف نقداً لاذعاً ومُستحقاً للأحزاب الشمالية لفشلها في التحرر من تحيزها وعبثها التاريخي برفضها التعامل بجدية منذ الاستقلال مع مسألة الهوية القومية ولتسلط هواجس الجري وراء السلطة على تفكير قادتها، فهم كملوك البوربون «لم ينسوا شيئاً ولم يتذكروا شيئاً. ويصف التجمع الوطني بأنه عبارة عن «تجمع مُشوّش بمعنى (لحم رأس) تركزت استراتيجية قادته في انتظار أن تأتيهم الحركة بالتحول الديموقراطي على «طبق من فضة» أو أن تنضم إليهم لإسقاط النظام (والذي كانت الحركة شريك فيه) أو في التباكي على انفراد المؤتمر والحركة باحتكار السلطة.
والحقيقة أن المعارضة الشمالية برهنت قبل وخلال وبعد الفترة الانتقالية على ضعفها وتشرذمها وفقدانها لسند جماهيرها (كما برهنت على ذلك انتخابات ٢٠١٠) وتساقط معظم قادتها في شباك الترغيب والترهيب التي برع الاسلاميون في نسج خيوطها. فالقول إن لها أي دور مهم في فشل الاتفاقية ينفيه استبعاد الحركة لها في مسيرة المفاوضات وتهميشها خلال عملية التنفيذ. لقد كان للمعارضة بعد موت قرنق تشكك له ما يبرره في التزام الحركة بأجندة التحول الديموقراطي ولكن لم يكن لها من الرصيد أو النفوذ السياسي ما يمكنها من فعل أي شيء حيال ذلك.
وفي حين يبدو مفهوماً لجوء حزب المؤتمر الوطني الى المماطلة والتعطيل في تنفيذ بنود الاتفاقية، فالتحول الديموقراطي المنشود كان يعني بالضرورة زوال احتكاره للسلطة، إلا أن الغموض ظل يكتنف موقف الحركة الشعبية من قضية الوحدة على رغم أن منصور خالد نجح في إلقاء الضوء على بعض التناقضات والتعقيدات التي برزت بعد رحيل قرنق، فيذكر محاولة الحركة في نهاية الفترة الانتقالية التملص من التزاماتها نحو حلفائها في الشمال (في النيل الأزرق وجنوب كردفان) والتي يرى أنه لم يكن هناك ما يبررها أخلاقياً كما ينتقد بشدة من سماهم «الانفصاليون الجدد» الذين برزوا في قيادة الحركة عشية الاستفتاء، وصار الهم الشاغل لغلاة الانفصاليين هؤلاء أن يتم الاستفتاء حتى يتم استقلال الجنوب، ولذلك عارضوا أي شراكة انتخابية مع أحزاب من المناطق المهمشة أو من المعارضة الشمالية في انتخابات ٢٠١٠ لتخوفهم من أن هزيمة حزب المؤتمر الوطني قد تدفعه للتراجع عن الاتفاقية أو إلغاء أو الاستفتاء أو تأجيله. وهكذا تلاقت في مفارقة عجيبة وحلف غير مقدس مصلحة الانفصاليين في تقسيم السودان مع مصلحة الاسلاميين في الاستمرار في حكمه أو حكم ما يتبقى منه. ولم تقف المفارقات عند هذا الحد، ففي خطوة جريئة للحركة قامت بترشيح ياسر عرمان لرئاسة الجمهورية ولكنه اضطر لسحب ترشيحه لحساسيته تجاه تملل المتشددين الجنوبيين الذين تخوفوا أن مجرد ترشيحه قد يعرقل عملية تقرير المصير (وعلى رغم انسحابه نال ياسر عرمان حوالى ٢٣ في المئة من الأصوات أغلبها من الجنوبيين).
هل كان مبدأ تقرير المصير الذي أنتزعه قرنق من حلفائه في التجمع الوطني (أسمرا ١٩٩٥) قبل أن يفرضه على خصومه الاسلاميين (مشاكوس ٢٠٠٢) تدبيرًا سياسياً لاعطاء فرصة أخيرة لتحقيق الوحدة كملاذ أخير كما يذكر منصور خالد؟ أم كان بمفهوم آخر بمثابة بوليصة إعادة التأمين التي أراد قرنق أن يحتاط بها في حال فشل مشروعه الوحدوي؟ هل كان تقرير المصير هو الثمن السياسي الذي دفعه قرنق على حساب مشروع (السودان الجديد) لجمع الشمل بعد الانقسام الذي قاده انفصاليو (الناصر)؟ وكيف كان ممكناً خلق وضع دستوري يشمل كل أطياف المجتمع السوداني مع نظام «بلغ من الاعوجاج حداً يستحيل إصلاحه كما وصفه جون قرنق نفسه؟
ومن الناحية الأخرى هل كان ممكناً جعل الوحدة خياراً جاذباً مع نجاح غلاة الانفصاليين في ترك باب الانفصال مفتوحاً والذي لم يتطلب ولوجه دفعاً شديداً لغالبية الجنوبيين؟ وهل دق رحيل قرنق المفاجئ المسمار الأخير في نعش المشروع الوحدوي بفتحه المجال لحزب المؤتمر ليتمدد على حساب قيادة الحركة التي أصبح شاغلها العد التنازلي لموعد استفتاء تقرير المصير؟
تبقى هذه الأسئلة بطبيعتها مشروعة في مجال التنظير والبحث العلمي من غير إجابة قاطعة على أىٍ منها، ومن دون أن يمنع ذلك بالطبع مواصلة الاجتهاد في قراءة الأحداث من وجهات نظر مختلفة قابلة للخطأ والصواب.
ويُحمد لمنصور خالد نجاحه في إلقاء الضوء في هذا الكتاب على كثير من تفاصيل وملابسات مسيرة المفاوضات الطويلة والشاقة والتعقيدات والمشكلات التي لازمتها. مما لا شك فيه أن هذا الكتاب باللغة الانكليزية يشكل مع كتاب سلمان محمد أحمد سلمان «انفصال جنوب السودان: دور ومسؤولية القوى السياسية الشمالية» باللغة العربية في الموضوع نفسه تقريباً إضافة للمكتبة السودانية، وبالتأكيد فإن المعلومات الوفراة والتحليل الدقيق والوثائق النادرة في الكتابين تشكل في مجملها مراجع علمية لأي دراسات مستقبلية مماثلة في الجامعات ومراكز البحوث المحلية والإقليمية والدولية.
وأخيراً فإن منصور خالد يذكر معلومة قد لا تكون معروفة للكثيرين وهي أن الإدارة الأميركية كان لها لفترة قصيرة في بداية مفاوضات السلام تصور مختلف لمبدأ تقرير المصير يقوم على «حق الجنوبيين في حكومة تحترم دينهم وثقافتهم» ولكنه لا يشمل خيار الانفصال الذي وصفه المبعوث الأميركي دانفورث بأنه «صعب التحقيق للغاية» كما أنه قد يصبح «مصدراً لعدم الاستقرار في السودان وشرق أفريقيا». فإذا كان ذلك التخوف يمثل نبوءة أميركية ببعد نظر غير مألوف لما آلت إليه الحال الراهنة في كل من السودان ودولة جنوب السودان بكل ما تحمل من مآسٍ وفواجع الدولة الفاشلة، فإن ذلك في حد ذاته وبالمقارنة مع تاريخ أميركا الحافل بقصر النظر في الشرق الأوسط وأفريقيا، يمثل في رأيي مفارقة جديدة تضاف الى سجل المفارقات الذي يحفل به تاريخ السودان الحديث.
* وزير الثقافة والإعلام في حكومة السودان الانتقالية (1985- 1986)