“الحرقص” الذي حيّر الطيب صالح
الريح عبد القادر عثمان
[email protected]
جمعنا مجلس صغير، في مناسبة سعيدة، بمنزل صديق كريم بأحد مهاجر الخليج. لم أكن أعرف كل الحاضرين، إلا أن الوجوه بدت كلها مألوفة (من النوع الذي تحس أنك تعرفه دون أن تتعرف عليه)، ليس فيها ما يشي بأن أحدها ممن تساءل المرحوم الطيب صالح عنهم تساؤله الشهير: “من أين جاء هؤلاء؟”. وما لبث الحديث أن تناول المواضيع المعهودة في تجمعات السودانيين هذه الأيام: الجنائية، دارفور، أوكامبو…الخ. ولما كانت هذه المواضيع ظرفية، ولا تخلو من إثارة الخلاف، فقد دلفنا إلى حديث أثير لدى السودانيين، وهو سرد الوقائع والشهادات عن كرمهم، وأنهم أسهموا في بناء هذا البلد أو ذاك أكثر مما فعل أبناؤه، وأن فلاناً السوداني أعظم علماء اللغة العرب، وذاك أكبر إعلامي عربي..الخ. وبينما أطرقت مفكراً في القول المأثور “إن الكريم لا يتحدث عن كرمه”، وأن كرم السودانيين، إن كان حقيقياً، كان أجدر به أن يمنعهم من هذا الاقتتال الهمجي على ما يسمونه الثروة، وأن أي شخص كريم كان ليأنف من الاستيلاء على الحكم بالقوة، ناهيك عن الاستئثار بالسلطة طوال ستة عشر أو عشرين عاماً، إذا بأحدنا يفجرها قنبلة صوتية أصمت الآذان، حين قال: السودانيين كرماء، لكن “بالله دي أشكال!”. ثم حاول أن يقترح حلاً لمشكلة “أشكال السودانيين” التي لا تسره، فسمعته يقول كلاماً كأنما ينطق به بلغة غير بشرية، ويخترق كلامه أذني مثل طلقة أخطأت طريدتها من الهنود الحمر، وشقت براري الغرب الأمريكي لكي تستقر عندي، أنا، هنا، في بيت صديقٍ كريم، بأحد المهاجر:
“حقو ناس دارفور ديل يبيدوهم، ويجيبوا صعايدة يسكنوهم بدلهم”
رفعت بصري مشدوهاً، فرأيت شخصاً لا تبدو عليه ملامح النازيين في ألمانيا، أو أنصار لوبين في فرنسا، أو المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، أو اليمين المتطرف في إسرائيل، فعرفت فوراً أنه أحد أولئك الذين حيروا أديبنا الراحل، المرحوم الطيب صالح. بدا الرجل، لدهشتي العظيمة، “ابن بلد” – بالمعنى غير التقريظي لهذا المصطلح السوداني – لم يعد شاباً غراً، بل طعن في الخمسينات من عمره؛ ليس أمياً، بل متعلم تعليماً جامعياً؛ له “عيال وأم عيال”، أنجبه أب سوداني، وأرضعته أم سودانية، يأكل الكسرة والقراصة، ويشرب الشاي و”الجبنة”، ويصلي الخمس، ويحلف بالطلاق، و”يطهر” بناته، و”يسف التمباك”، وينام في “الحوش”، ويحمل “الإبريق”، ذاهباً إلى “الأدبخانة” وقافلاً منها. إذن فهو سوداني مائة بالمائة، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن يكون كريماً، كرمَ كل السودانيين، ذلك الكرم المشهور، الذي لا يمنع الحاكم منهم من الاستئثار بالسلطة طيلة ستة عشر أو عشرين عاماً، ولا يمنع المستأثرين والمعارضين من الاقتتال الشرس، على “اللقمة” و”الكسرة” و”القراصة”، وعلى “الحواشات” و”الجباريك، وعلى “قطاطي” القش، وبيوت “الجالوص”، وما تناثر بينها من “ادبخانات”، و”بلاّعات”، و”كُوَش”.
ثم خفضت بصري مطرقاً: لعلّ في بطن الرجل شيئاً آخر (لنقل، بكلامنا، حرقصاً آخر) غير العنصرية أو النازية يدفعه إلى قول ما قال؛ ولعلّ ذلك الشيء لا يخصه وحده، بل ربما يشاركه فيه سودانيون كثيرون.
في بداية التسعينات حاول الباحث الدكتور عمر هرون الخليفة أن يتلمس، من خلال تحليل العقلية السودانية، أسباب داء عضال قعد بالسودانيين عن بلوغ طموحاتهم الوطنية. وقبل ذلك، في جيل آخر، حاولتِ الشيءَ نفسه بضعُ مقالات في مجلة الفجر. أما الآن، فقد خفت، للأسف، ظاهرة الإنكباب على النقد الذاتي الموضوعي؛ واكتفى الناس إما بالنقد الذي لا يمس جوهر الأشياء، أو الانتقاد الراديكالي الذي يقضي على الأخضر واليابس. وأيا كانت أسباب هذا العزوف، فلا شك أن أحدها يتمثل في هيمنة أسطورة “استهداف السودان” على الفكر الذي تروّج له الآلة الإعلامية الرسمية، وتحميل الآخر، سواء كان الغربَ أو دول الجوار، مسؤولية ما يتوالى على السودان من مآسٍ وإخفاقات. ولا شك أن مثل هذا الموقف هو نوع من النرجسية يحمّل المرآة مسؤولية قبح الصورة.
نعود من جديد إلى صاحبنا، صاحب ذلك “الحرقص” الذي يجعله ينادي بإبادة أهل دارفور، وإحلال “مستوطنين” صعايدة محلهم. نعود إليه لا لنقتص منه (ففي السودان، اليوم، إما أن يقتص الكل من الكل، أو أن يعفو الكل عن الكل)، ولا لكي ندافع عنه (ففي السودان، اليوم، الكل متهم وبحاجة إلى الدفاع عن نفسه)، بل لكي نعرف ما به، لعلّ ذلك يساعدنا على أن نعرف ما بنا جميعاً. فيا ترى ما الذي يجعل سودانياً يتمنى إبادة سودانيين أمثاله، ويطلب استبدالهم بأجانب؟ هل هي الكراهية؟ إن كان الأمر كذلك فلا بد أنها كراهية الذات. فهل يكره السودانيون، يا ترى، ذواتهم؟
عندما أطلق إيمي سيزير، في الثلث الأول من القرن الماضي، “صرخته الزنجية القوية، التي رجّت بصلابتها مداميك العالم”، وصدح مغنياً بزنوجته: “زنجيٌّ أنا وزنجياً سأبقى”، وردد صداه ليوبولد سيدار سنغور في مقولته الشهيرة:”أنت أسود، إذن أنت جميل”، أو في تقريره أن “الزنوجة هي الحكمة والجمال”، كان السودانيين من أهل الشمال، ما عدا أقلية ضئيلة، يركضون وراء عروبة تفر منهم فرار الطريدة غير المبالية من صائد أعرج، ويولُّون ظهورهم لزنوجة تطاردهم، هاربين منها هروب المقرور من الظل. كان عرب السودان، في كل مكان منه، مقتنعين بأنهم عرب والنبي (صلى الله عليه وسلم) عربي مثلهم (لكنّ بلالاً، ولكنّ صهيباً، وسلمانَ، لم يكونوا عرباً مثل النبي حبيبهم صلي الله عليه وسلم). لكن ما إن بدأ اتصال السودانيين بالشعوب العربية يقوى، عقب الاستقلال ومع بداية موجة الاغتراب في السبعينات على وجه الخصوص، حتى فوجئوا بصعوبة تسويق “عروبتهم السوداء” لدى أخوتهم العرب. فكان ذلك، على الأرجح، أكبر هزة تعرضت لها الهوية العربية السودانية. وقد نجم عن تلكم الهزة مواقف إيجابية، هي العودة، وإن كانت متأخرة، إلى الأفريقانية، لدى البعض منهم، أو مواقف سلبية، لدى البعض الآخر، هي الشعور بـ “اللاجمال”، وبالنقص، وبالتالي كراهية الذات. ليس معنى ذلك أن الشخص يكره ذاته كلها، بل المقصود أن الذات (الفردية والجَمْعية) بدت مزدوجة؛ فالفرد يكره ذلك النصف من الذات غير الجميل/ غير العربي، إلى حد تمني زواله، واستبداله بنصف آخر.
والثابت أن لون البشرة لم يكن يحمل في السودان أهمية حاسمة. وتشير الشواهد الموثوق بها إلى أن من كان “فاتح اللون” من أهل الشمال كان يذهب إلى الجنوب ليتزوج امرأة سوداء لتنجب له أولاداً “خضراً”. وكان الأصل القبلي أو العرقي، وليس اللون، هو الفيصل في التفاضل، بالإضافة إلى المآثر الشخصية التي اكتسبها الفرد. وأجدني أجزم أن لون البشرة لم يبدأ يكتسب أهمية مطلقة ومتعاظمة إلا بعد أن اتصل السودانيين حديثاً بالعرب، واكتشفوا أن التماهي بالعروبة يحتاج، ربما، إلى اللون قبل اللسان.
ولا تعدم أن تجد من بين المغتربين من يحكي لك طرفاً مما تعرض له من “حوادث عنصرية” في بلاد العرب.
ورغم ذلك، فإن أي محاولة لوصم عرب الخليج أو الشام أو مصر بالعنصرية هي حرب في غير جبهتها. إذ لا يستحق “التنابز بالألقاب” الذي قد يحدث بين بعض أفراد الجاليات العربية المختلفة في بلدان المهجر تحميله أكثر مما يحتمل، لأن سببه، ببساطة، الجهل أحياناً، والتنافس في الأرزاق أحياناً أخرى. إلا أن هذا لا ينفي حقيقة أن بعض المجتمعات العربية تعتبر السواد قيمة جمالية سلبية، بحيث أن نقيض المرأة الجميلة لديهم، ليس القبيحة تحديداً، بل السوداء أيضاً، لأن سواد البشرة في نظرهم قبحٌ بالضرورة. ولاحظت في مجتمعات عربية أخرى أن سواد البشرة، وإن كان يعتبر نقصاً جمالياً معيباً ومنفراً، فهو لا يحمل “حكم قيمة” جوهرياً، أي لا يتضمن أي دونية إنسانية، من حيث الذكاء، أو الشرف، أو غير ذلك. وفي عالم اليوم، لم تعد كلمة “عنصرية” مصطلحاً يكفي لوصف ما يقصده الناس به. فثمة الكثير من التصرفات، مما يعتبره البعض عنصرية، إنما هي عوز في الوعي والعلم، وافتقار إلى الذوق والأدب؛ وما كان كذلك فلن يحتاج إلى سببٍ من لون بشرة أو غيره.
فإذا كانت الطفرة النفطية قد أصابت أهلها بـ “تضخم الشخصية”، فإن فقر السودان، وفشل دولته، قد أصابا بعض السودانيين بما يناقض ذلك، أي “هزال الشخصية”، ما يجعلهم دائماً في دور المدافع، الذي يسعى جاهداً لإثبات ما ينكره له الآخرون. وهم في ذلك مثل الذي يسعى إلى ما يعتقده دواء، حتى إذا شرب منه، لم يجد شفاء. ولو أن الواقع الاقتصادي في كل من الخليج والسودان كان بعكس ما هو عليه الآن، أي أن “حقول النفط والقمح السودانية” هي التي صارت قبلة لعرب الخليج ومصر والشام، لكانت الأدوار قد انقلبت، ببساطة، رأساً على عقب، ولكانت “العروبة السوداء” هي الأصل، وما عداها هو الباطل.
ونافلة القول أن المشكلة ليست في “الأشكال”، التي لم ترق لصاحبنا صاحب الحرقص، ولا في الألوان، ولا في دارفور، ولا في الجنوب، ولا في الشمال، ولا في الخرطوم؛
وهي ليست في عنصرية جيراننا العرب، ولا في تحرشات جيراننا الإفارقة؛
وهي ليست في “الاستعلاء”، الذي أشار إليه د. أسامة عثمان، في سياق مختلف، حينما تحدث، في جريدة الصحافة، بتاريخ 13 مايو 2009، عن ” الاستعلاء الذي تجده لدى كثير من المثقفين السودانيين في شمال السودان”؛
ولا في “الحقد” الذي فجّر انهياراً ثلجياً من التمردات وحركات تحرير السودان؛
وليست المشكلة في الهوية، وإن كان من الأفضل لنا أن ندرس هويتنا، ونتفاكر حولها، واضعين في الاعتبار أن العروبة ليست سوداء ولا بيضاء، بل هي ثقافة ولغة (وبهذا المعنى فإن الجامعة التي يقودها، على غير ما هدى، عمرو موسى من القاهرة، كان أحرى بها أن تكون، “جامعة للدول الناطقة بالعربية”، وإنه، بدلاً من أن تضيق بأعضائها الحاليين، ينبغي أن تتسع لتضم تشاد وإرتريا، وغيرهما)؛ وأن العروبة ليست في الحمض النووي، بل في العقل والشعور؛ وأنه لا قوامة لأحد عليها فيمنحها لمن يشاء، أويحرم منها من يشاء، وإنما الناس أحرارٌ فيما يختارون. وواضعين في الاعتبار أيضاً أنه ينبغي لكل أبناء السودان أن يعودوا لاحتضان أفريقيتهم، مهما كان ذلك متأخراً، وأن يتغنوا بزنوجتهم بلغة العرب، التي يتحدثون بها من حلفا إلى جوبا.
ليست المشكلة في اختلاف الهوية، الذي لم يمنع آلاف السودانيين المهاجرين من أن يصبحوا، بالتجنس، بريطانيين وأمريكيين، مثلما لم يمنع انسجام الهوية إخوتنا الصوماليين من أن يقتلوا أنفسهم، وأن يخرجوا أنفسهم من ديارهم.
إذن فأين هي المشكلة؟ أين ذلك “الحرقص”؟
إن “الحرقص الكبير” الذي يربض في كل البطون السودانية، ويجعل كل واحد من السودانيين يرقص رقصته “المشاتِرة”، متمرداً إرهابياً ، أو “جبهجياً” انقلابيا ، أو مهاجراً متأمركاً، أو لاجئاً “متأسرلاً”، أو عنصرياً نازياً، أو انطوائياً، أو مغترباً حتى الموت… هو فشل مشروع الدولة السودانية، الناجم، تحديداً، عن فشل التنمية.