يبدو للمراقب، أنّ الشارع السياسي، زهد في خيرٍ من الحكومة الانتقالية، واكتفى بأشواق التحّول الديمقراطي، وأنّ العسكر، زهدوا في انقلابٍ يمكنهم من الانفراد بالسلطة، واكتفوا بالمراوغة والمساومة للإفلات من تبعات خطيئة فض الاعتصام، وهم مدركون أنّ والأخيرة هذه، ستظل كابوس تؤرق مضاجعهم، إن “دقسوا” في السماح بتأسيس ركائز التحول الديمقراطي، أو غفلوا عن هندسة صناديق الاقتراع، بحيث تظل الفُرقة الحالية مستعرة كما هي، والشتات الماثل سيد الموقف إلى ما بعد الانتخابات، التي تراها الحكومة الانتقالية، سدرة منتهاها.
وإن كنا موضوعيّن، فأنّ نيران المدنيين ذاتي الاشتعال، بيد أنّ العسكر بمكرهم المعهود، يزيدونا حطباً على حطب، وإن خبأت عوارها، ألقموها بمتفجرات ناسفة للوفاق، غير متكثرين أنّ الشارع السياسي، قد يجبرهم جميعا، عسكر ومدنيين، أن يتدفؤوا بلهيبها المستعر، فالثورة مستمرة، والردة مستحيلة.
في حوار معه مؤخراً، أفاد مولانا عبد القادر محمد أحمد، المعتذر عن تولي منصب رئيس القضاء، فيما معناه أنّ التحول الديمقراطي، كان يمكن تحصينه مبكرا بتشكيل المؤسسات الدستورية للفترة الانتقالية، فهي الحامية من الجدل الدستوري الدائر الآن، والرادعة للطامحين والمشاغبين دستورياً. بكل وضوح ما يتكّشف الآن، أنّ (قحت) قد أضاعت فرصة اغتنام صحتها ليوم مرضها، وليس بمقدور أكثر المتفائلين خيراً، أن يتوقع إمكانية تشكيل كافة المؤسسات الدستورية الضرورية للتحول الديمقراطي، فيما تبقّى من عمد الفترة الانتقالية، من مجلس تشريعي، ولجنة الدستور الدائم، ومفوضية العدالة الانتقالية، انتهاءً بمفوضية الانتخابات.
بنظرة حصيفة، يمكننا القول، ما تلوح في الآفاق المستقبلية للبلاد، أنّ ضمان نزاهة الانتخابات المرتقبة، يعتبر التحدي الأعظم للعبور، وأنّ إمكانية “خج” الصناديق الانتخابية، لهو أشدّ خطراً من تهديدات العسكر بالإنقلاب على الوثيقة الدستورية، سيما في ظل شفافية نائب رئيس المجلس السيادي الفريق حميدتي، بأنهم لن يسلموا مقاليد جهازيّ الشرطة والمخابرات العامة إلاً لسطلة منتخبة، يقول ذلك، ونسيَ نفسه أنه ليس منتخباً.
يساورنا مخاوف مشروعة، في ظل الصمت المطبقّ للشق المدني في الوقت الراهن، أنّ التزوير المتوقع سيكون محروساً “سيادياً” لضمان التوازن المحّصِن لهم (بكسر الصاد) من المساءلة عن خطيئة فض الاعتصام، وخطايا أُخر قد تطال تبعاتها جنرالات العسكر وقيادات ثورية نافذة، ركبوا مؤخراً في سرج العسكر، متى ما توفرت العدالة المستقلة.
كأننا نرى من الآن، ساحات “خجّ” الصناديق الانتخابية، وملامح خرائط الدوائر الانتخابية المفصّلة لضمان فوز رموز فلولية بعينها عشائرياً، وكأننا نرى رأي العين، تدفقات ثروات الفلول، وإيرادات الذهب لتعزيز وتكثيف الحملات الانتخابية، ومنافذ علنية لبيع لشراء أصوات الناخبين، وكأننا نسمع بأم آذاننا التصريحات الابتزازية للغلابة بتبعات خسارة الحزب الفلاني، وكساد حصيلة الحركة الثوربة الفلانية.
هناك من يأمل أنّ تسّرع أيلولة رئاسة السيادي للمدنيين، إنجاز استحقاقات دستورية يعرقلها رئاسة العسكر، لكن يبدو أنّ هذا الأمر واهن، مالم تفلح الحكومة الانتقالية في تفعيل صلاحياتها الدستورية، التي تخلّت عنها بعدم الشعور بالمسئولية للعسكر، على رأسها رئاسة جهازي الشرطة والمخابرات العامة، وإبعاد العسكر والفلول عن أسوار الجهاز القضائي والنيابة العامة.
ولدينا مخاوف مشروعية، أنّ حصيلة اتفاق جوبا للسلام، سيما مسار دارفور، توّلد شمولية ثورية، فقد ظهرت أشراطها باكراً، الأمر الذي يجعل من التبادل السلمي للسلطة الإقليمية، أمر بالغ التعقيد، إن لم يكن مستحيلا، والله “يكّضب” الشينة.