صلاح شعيب
وسط الحالة الصفرية التي تورط فيها السودان منذ حين تكاثف اللوم على البشير، سواء من لفيف من المعارضين داخل السلطة، أو من الذين قفزوا خارج سفينة الإنقاذ التي أمامها زمن مقدر لتغرق. والحال هكذا، بدا لكأنما إسقاط البشير لدى هؤلاء يمثل حلا وشيكا لمعضلة الحكم التاريخية في البلاد. فعلاوة على إجرام البشير البين غير أنه لم يكن ليحكم البلاد بنهجه النازي إذا لم تتوفر له الحواضن الفكرية، والتنظيمية، والحركية، والجهوية.
وعلى هذا الأساس هناك مسؤوليات وطنية، وسياسية، وأخلاقية، لا بد أن يتحملها كل الإخوان والأخوات المسلمات الذين دفعوا به لكي يمهد الطريق لهيمنتهم الاقتصادية على البلاد، والتي تأتي بعدها هيمنات مماثلة على جبهات العمل الفكري، والدعوي، والصحي، والأكاديمي، والتجاري، والثقافي، والإعلامي، والاجتماعي، والدبلوماسي، إلخ.
على أنه يجب ألا ننسى أن في كل هذه الجبهات تمكن كادر الحركة الإسلامية أن يحوز على كل المكاسب المادية، والمعنوية، تاركا بعض الفتات للمستعبدين في المشروع الحضاري. ولا يخفى على القرّاء الكرام أن كوادر الإخوان المسلمين الذين سيطروا على الدولة عبر التمكين حصروا موارد الدولة لصالحهم وحدهم تحت حماية الآلة القمعية التي يشرف عليها المدير التنفيذي للمشروع: البشير.
إذن فالبشير ليس سوى مخدم داخل الشركة التي أسسها الإخوان المسلمين منذ مطلع الخمسينات للوصول للحكم بالقوة، ومن ثم الاستثمار في العمل التجاري. وإذا كان من الممكن أن يصنع مستشارو، وأعضاء مجلس إدارة هذه الشركة البشير كبش الفداء لكل هذه الفشل، فإن هذا لا ينطلي الإ على الغافلين، لفترات تطول، أو تقصر.
الأمر الثاني الذي يتفاداه من يلومون البشير، ويحاولون الفصل المتعسف بين عسكريي الحركة ومدنييها، هو أن الأزمة ليست وحدها في تطبيق البشير لمشروع الحركة، وإنما أيضا في تركيبة فكرها البراغماتي الذي أسس لهيمنة الجماعة على الجميع. أي أن كل أخ وأخت مسلمة كان يدرك بعد الانقلاب أنه، أو أنها، أعلى مكانة في الدولة والمجتمع، لا بحكم الأهلية الوظيفية، وإنما بحكم الولاء الحزبي. ولعل الذين يراجعون تجربة الحركة الإسلامية الآن يتحاشون تفكيك هذا الفكر البراغماتي الذي من خلاله تسرب الفشل. وبالتالي يكتفون بأكليشيهات نقدية باردة تعفيهم من الغوص في أتون فكرة الحاكمية، والتي تعتمد على تنزيل الدين على مستوى اجهزة الدولة. فالأفندي، والكودة، ومحمد بشير سليمان، والمحبوب، وعروة، وتيجاني عبد القادر، وخالد التيجاني، ما يزالون إخوانا مسلمين، ولَم يعلنوا علمانيتهم بعد لتستبين الأشياء بضدها.
فتفكيرهم وتفكير البشير حتى هذه اللحظة مشترك. ومضمونه المختصر هو أن الدين والدولة لا ينفصمان نظريا في الوجود، وأن الشريعة الإسلامية ينبغي أن تحكم السودانيين في كل الأحوال عن طريق أفكار حسن البنّا، وسيد قطب، والمودودي، ويوسف القرضاوي، والترابي، أو أي أفكار أخرى قريبة من النسق الإسلاموي. وقد يختلف هؤلاء الإصلاحيون هنا وهناك في كيفية المراجعة، وحيلها الماكرة، ولكنهم أبدا لن يعترفوا أن محاولة فرض الدين على الدولة هو سبب أزمتهم قبل أزمة البشير. وإذا وجدتم واحدا من هؤلاء قد أعلن، صادقا، وليس تقيةً، علمانيته فهو عندئذ، قد بدأ في مفارقة نهج الجماعة، على أن يصدق ذلك بالعمل. هذا السقف ضروري حتى نصدق الأخ المسلم بأنه قد ترك الكذب. ذلك أن الكذب كان، وما يزال، أداة أساسية ضمن أدوات كثيرة لا يبالي الإخوان، والأخوات، من توظيفها عند الحاجة القصوى. أما القتل لصالح المشروع الإسلامي فكان اجتهادا من علي عثمان، ونافع، وقد تبرأ الترابي من ذلك، على حد شهادته لبرنامج أحمد منصور في قناة الجزيرة. وباجتهاد التعذيب تمنى السنوسي أن يتقرب إلى الله.
الحقيقة أن اعتماد البشير مرشحا للمؤتمر الوطني في الانتخابات المؤمل إجراؤها في ٢٠٢٠ ينبغي ألا يغضب الإسلاميين سواء داخل الحزب، أو الذين خرجوا منه. والغريب أن هناك قادة معارضين استهجنوا هذه الخطوة من حيث هي إجراء يتنافى مع الدستور! ولا ندري كيف يكون الأمر لو استجاب لهم المؤتمر الوطني لاحقا وعدل عن قرار مجلس شوراه. فالتركيز على ترشيح الحزب الحاكم للبشير أمر طبيعي بالنظر الى طبيعة الدولة الاستبدادية التي أسسها الإخوان المسلمون. فالمستبد الأكبر الذي لا يجد من ينافسه داخل التنظيم لمدى ثلاثين عاما لا بد أنه قد خلق أعوانه من المستبدين الصغار الذين ثبتوه كزعيم أوحد، وزينوا له أنه رجل كل المراحل.
الأهم من كل هذا أن فكرة الإخوان المسلمين لا تؤمن بالديموقراطية أصلا الإ كوسيلة للوصول الى السلطة فقط، ولذلك يصعب أن تفرز ممارساتهم الداخلية نوعا من الديموقراطية الشفافة التي تعضد احترام الرأي الآخر. وآية ذلك أن ما يسمى مؤتمر الشورى ليس سوى تمرير لإرادة جماعة داخلهم على جميع العضوية، وهذا أمر أشبه بما سموه سابقا الإجماع السكوتي، وهو في الواقع ليس سوى تأسيس للرؤى الفردية المفروضة من علٍ. ولذلك خفتت الأصوات المعارضة للبشير في مجلس الشورى، وساعدت أجواء الاستبداد العام والخاص داخل المنظومة القيادية للمؤتمر الوطني في حرمان ظهورها الإعلامي.
لن ينقذ الإخوان المسلمين شيئا غير الصدق، والاعتراف بأن سيطرة نازية البشير على البلد، وأخيرا عليهم، نتيجة حتمية لاعتمادهم على أفكار تطابق الدين والدولة معا. وسوف يتعب “الإصلاحيون” منهم كثيرا في محاولة تضليل الرأي العام بأنهم، بجانب الفكرة الأصلية، أبرياء من المساهمة في توطين هذا الاستبداد.
أحيانا يعتقد المرء أن ليس هناك من هم أخطر على مستقبل البلاد ممن يصفون أنفسهم بالإصلاحيين من الإخوان المسلمين. إنهم في الواقع يؤسسون لبديل آخر للربط بين الدين والدولة، بحيث أن يجد فرصته في المستقبل ليعيدوا إنتاج الفكرة. وعندئذ سيكون السودانيون على موعد جديد مع بشير جديد ربما سيكون أسوأ من البشير الحالي. الإصلاحيون لخراب البشير، من ناحية أخرى، بدلا من أن يشقوا طريقا جديدا ليكونوا مستقلين، فإنهم يعيدون الأمل لليائسين من توطين الدين في الدولة، بدلا من إقناعهم أن هناك حاجة للتفكير العميق في كيفية أن فصل الدين عن الدولة يخدم حرية المسلم، ويطور الأمة.
إن مجلس شورى المؤتمر الوطني الذي انقلب على لوائحه، ودستوره، ودستور البلاد، وزف البشير لحملة 2020 الرئاسية أكد أن الشورى عند الإخوان المسلمين ليست أكثر من التدليس عينه. فالطريقة التي مررت بها تذكية البشير لتلك الانتخابات الموعودة متماشية تماما مع الفقر النظري للإخوان المسلمين في تحقيق التداول الشفاف للمناصب. وليست هذه المرة الأولى التي تفرغ الشورى من مضامينها، فقد سبقها انحياز المجلس للبشير على حساب زعيم الحركة عند أيام المفاصلة. ولعله منذ ذلك الزمن عرف البشير أن الذين من حوله مجرد شهوانيين للسلطة بأي ثمن، ولذلك سهل له أن يلعب بمهارة في مسرح المكر السياسي الإخواني. ولكنه هو في المبتدأ والمنتهى ضحية التنظيم، وليس المنقلب عليه. فما تورط فيه من سفك لدماء السودانيين، على أكثر تقدير، كان بمباركة الحواضن المذكورة عاليه. أما ما دون ذلك فالرجل لا يرى نفسه، أيضا، غير إصلاحي دؤوب، ومثابر، يريد بضع سنوات أخرى فحسب ليطور الاقتصاد، ويرفع سعر الدولار، ويعيد ملايين السودانيين لجنة 2025. متى يحترم الإخوان، داخل السلطة وخارجها، عقلية الشعب السوداني، ولو لمرة واحدة.؟