كثرت في عهد نظام المؤتمر الوطني مساعي السودانيين لتأسيس أحزاب سياسية ، ويمكن القول إن في السودان تعددية حزبية, يدل عليها وجود أكثر من ثمانين حزبا سياسيا . وبالتزامن مع قيام ثورة الشعب السوداني من أجل حريته وكرامته وبناء نظام سياسي ديمقراطي, واعلان إسقاط النظام الاستبدادي ، تسارعت عملية تشكيل الأحزاب السياسية بحيث تجاوز عددها اليوم الثمانين حزب. بعض هذه الاحزاب جاءت كاستجابة كعملية التغيير التى نادت بها الثورة ، وبعضها الاَخر جاء بتحفيز من قانون الأحزاب الذي أصدرته السلطة السودانية الحالية, أو بتحفيز وتشجيع ودعم مباشر من السلطة ذاتها, وذلك للايحاء بان السلطة تجاوزت مسألة الحزب القائد في المجتمع والدولة باتجاه تعددية حزبية وسياسية نص عليها الدستور. إن عودة الروح السياسية للمجتمع بدافع من الثورة كان أمرا متوقعا, ويمكن تفهمه في مجتمع حرم لعقدين ونيف من ممارسة حياة سياسية طبيعية.
من جانب أخر, فإن هذه الأحزاب السياسية المعلنة في السودان, رغم كثرتها, لا تؤثر فى حياة سياسية طبيعية في السودان, بل الي مزيد من التشويه والذى سوف يتكشف أكثر فأكثر بعد انتصار الثورة وذلك عندما يتسارع تشكيل الأحزاب الأهلية والجهوية وتتراجع الأحزاب الوطنية الجامعة. كما حاصل اليوم في ما يسمي بالحوار الوطني, وقبول الأحزاب الطائفية والعقائدية والأصولية والجهوية بالحوار, دون النظر في الأزمة السودانية الحقيقية. بطبيعة الحال أسباب ذلك كثيرة, بعضها يعود الي أثر الاستبداد المزمن في تكوين شخصية المواطن السوداني, وبعضها الاَخر يعود الي الظروف الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بحياة السودانيين, التي حولتهم الي كائنات غير سياسية, حدود اهتماماتها يرسمها البيولوجي فى اطار البحث عن مقومات الوجود, بالمعني المباشر للكلمة, ولا يخفي دور الفساد المعمم في ذلك, بما رسخه من قيم وسلوك في حياة الناس. تفتقر الأحزاب السياسية في السودان الي الجماهير ، وإنها أقرب الي التشكيلات الفوقية النخبوية, لا فرق في ذلك بين أحزاب السلطة وأحزاب المعارضة, ولا يشذ عن ذلك حتي حزب المؤتمر الوطني الحاكم بمنتسبيه الذين ينشقون يومياً, لقد برهنت الثورة علي أنهم أرقام دفترية فحسب, سرعان ما تكشفه الثورة عن عدم جدواها في الدفاع عن حزبهم وسلطته, بل انقلبوا عليه ليشكلوا قوة من قوى الثورة مع المجتمع في أكثر من مكان.
وهي أيضا, في غالبها الأعم, أحزاب تناسلت بعضها من بعض, فتلك التي في السلطة لها مثيلات في المعارضة, لا تكاد تختلف عنها كثيرا, إلا من حيث مصالح ومزاج الأشخاص الواقفين عليها. الأحزاب في السودان أحزاب استبدادية تتحدد سلبا بعضها ببعض الاَخر,إلا إذا استثنينا قلة قليلة, وحتي الأحزاب التي تدعي العلمانية واللبيرالية لا تشذ عن ذلك كثيرا.
ورغم صخبها الديمقراطي, فإن الأحزاب السياسية في السودان هي أحزاب غير ديمقراطية, لأن من ينشأ في ظروف غير ديمقراطية لا يمكن أن يكون ديمقراطيا, والامثلة الحية فى الذاكرة ان الديمقراطيات الثلاث التي مرت علي السودان انتهت بانقلابات بواسطة تحالف حزب معين مع مؤسسة عسكرية, أن كابوس الاستبداد اليوم يملأ جميع مناحى الحياة الاجتماعية في السودان. واقع الحال يشير الي أن الأحزاب في السودان هي أقرب الي الأخويات التي تجمعها طقوس السرية, أو طقوس الخطاب السياسي بمفرداته الخشبية التي تدل عليه ويعرف من خلالها.
إن العقل المنتج لهذا الخطاب هو عقل ديني طقوسي بامتياز, لا يستطيع التفريق بين ما هو ممكن نظريا وما هو ممكن عمليا, يتوهم أن افتراضاته دائما عملية وواقعية, واعتقادات الاَخرين نظرية, بل خاطئة أيضا. وبصفته هذه فهو عقل تكفيري بالضرورة, يقف في مواجهة الاَخر بصفته مبشرا وهاديا, أو نافيا له, لا بصفته طرفا في علاقة حوارية, يبحث عن فسحة رمادية للتلاقي. وهذا يفسر عجز القوي السياسية السودانية عن التلاقي والعمل المشترك, في إطار حركة عامة, أو تيار أو جبهة, وهذا هو السبب الرئيس اليوم في اطالة امد النظام وعدم حلول جذرية للأزمة السودانية. في الواقع هذه المفاهيم الأخيرة, لا تزال غريبه عن العقل السياسي السوداني, أو ليست متأصلة فيه .
من المؤسف حقا أن القوي السياسية المعارضة رغم حاجة الثورة السودانية الي من يمثلها في الحقل السياسي ويعبر عن مطالبها فانها بقيت متمسكة بتخوم تمايزها التي نسجتها مخيلتها, وهي بذلك قدمت خدمات موضوعية للنظام الاستبدادي السوداني. واليوم وأمام استحقاق الثورة لوحدة الصف ومطالبها تجاوزت تخوم وهم الأحزاب, وأن تنتقل الأحزاب من وضعية ادعاء التمثيل وتقديم المطالب الاَخرين, الي وضعية تقديم الحلول والعمل المشترك عليها, سواء في مواجهة النظام, أو من أجل تكريس وعي ديمقراطي بها, يمهد لاستجماع القوي المجتمعية حولها, لممارسة مزيد من الضغوط لإسقاط النظام وإنجاز التحولات المطلوبة من وضعية الدولة الأمنية الي وضعية الدولة الديمقراطية.
اليوم نجد أكثر من سبعين تشكيلا سياسيا معارضا كلها تدعي بتمثيل الحراك الشعبي وثورته, وإذا أضيف اليهم المثقفين تصير اللوحة شديدة التعقيد, في هكذا وضعية يصير الرهان علي نجاح وحدة المعارضة السودانية الذي دعت اليه الجبهة الثورية السودانية أقرب الي الاستحالة . ومع أن هناك محاولات جادة, من حيث الشكل علي الأقل, أو لنقل من حيث توفر النية, للخروج من هذه الوضعية الاَسنة للقوي السياسية المعارضة, يمكن ملاحظتها عند هذا الحزب أو ذاك, أو لدي تجمع هنا أو تجمع هناك, إلا أن القضية بمجملها لم تخرج عن الإطار النخبوي العام. ان الأحزاب السياسية المعارضة في السودان محكومة بالتجاوز, إنها أدوات قديمة لا تصلح لصناعة جديدة !!
احمد قارديا خميس