قبل أيام معدودات من إجراء الإنتخابات فى السودان تلقت هذه الإنتخابات ضربات متتالية موجعة ،ستؤثر بالقطع على مسارها ومصداقيتها ومشروعيتها ،وماكان يمكن أن تؤدى إليه من تحول ديمقراطى آمن يخرج السودان من أزماته المتعددة ،وهو ما ظل السودانيون يتطلعون إليه ويحلمون به على مدى 20 عاما من حكم الإنقاذ الذى قاده الرئيس السودانى عمر البشير ،وثمثل ذلك فى سحب الحركة الشعبية لتحرير السودان لمرشحها للرئاسة السودانية ياسر عرمان ثم إنسحاب مرشحى أربعة أحزاب رئيسية أخرى ،الصادق المهدى رئيس حزب الأمة القومى ومحمد إبراهيم نقد رئيس الحزب الشيوعى ومبارك الفاضل المهدى رئيس حزب الأمة “الإصلاح والتجديد”وحاتم السر مرشح الحزب الإتحادى .
وقد برر المرشحون المنسحبون الذين يمثلون الأحزاب ذات الثقل فى السودان إنسحابهم بعدم نزاهة وشفافية الإنتخابات وأيضا بالوضع فى دارفور ،بينما يبدو أن حزب المؤتمر الوطنى يصر على المضى قدما فى إجراء هذه الإنتخابات ،لإكتساب شرعية جديدة فى مواجهة المجتمع الدولى ،وعلى وجه أخص فى مواجهة المحكمة الجنائية الدولية التى تطالب بإعتقال رئيسه الرئيس السودانى عمر البشير بتهمة إرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية فى دارفور ،وهو مايبدو أن الأحزاب المنسحبة لاتريد منحه هذه الشرعية ،وكذلك كانت المطالبة بتأجيل الإنتخابات مطلبا للحركات المسلحة بدارفور.
.
وقد أعلنت الحركة الشعبية أن سحبها لمرشحها للرئاسة هو أمر نهائى ،وذلك بعد تهديد البشير بأنه لن يكون هناك إستفتاء لتقرير المصير فى الجنوب مالم تجرى الإنتخابات ،بينما قال مرشحو المعارضة الشمالية المنسحبين من السباق الإنتخابى الرئاسى أن بإمكانهم العدول عن موقفهم إن تحققت الإصلاحات التى يطلبونها ،وهومايبدو غير ممكن .
وهناك إنتقادات توجه للأحزاب التى إنسحبت من إنتخابات الرئاسة بدعوى عدم نزاهتها ،ولماذا تستمر فى الإنتخابات على المستويات الأخرى البرلمانية والمحلية وعلى مستوى حكومة الجنوب ، وهناك أمر متعلق بحكومة الجنوب وهى أنها لاتريد الإنتخابات فى حد ذاتها بقدر ماتريدها توطئة وتمهيدا لإستفتاء حق تقرير المصير المقرر مطلع عام 2011 ،أى بعد 8 أشهر من الإنتخابات المقررة ،والذى أصبح بمثابة حق مقدس لايمكن المساس به ،أما الأحزاب الأخرى فى الشمال فإنها لم تقاطع باقى مستويات الإنتخابات البرلمانية والمحلية ،ربما لأن مرشحيها فيها غالبا مايتم إختيارهم على أسس قبلية وجهوية ،وقد يسبب سحبهم مشكلات لهذه الأحزاب .
وقد أصبح مؤكدا للجميع بأن هذه الإنتخابات محاطة بتعقيدات هائلة وتحديات غير مسبوقة ،وأن هذه الإنتخابات قد تكون أخطر وأعقد إنتخابات يشهدها السودان فى تاريخه الحافل بالتجارب الديمقراطية وأيضا بالإنقلابات العسكرية ،ليس فقط لأنها تتم على مستويات عديدة فى وقت واحد، ،لكن أيضا بسبب الظروف المحيطة بها . ومن ابرز التعقيدات تلك كونها تعد الفرصة الأخيرة للإبقاء على السودان موحدا ،وأنه على ضوء نتائجها ستكون نتيجة إختبار صعب آخر ،وهو استفتاء تقرير المصير فى جنوب السودان بعد أشهر قليلة من الإنتخابات ،وقد يهدر الإستعداد للإنتخابات ثم رد الفعل على نتيجتها الوقت الذى كان ينبغى إستغلاله فى تدعيم أواصر هذه الوحدة التى أصبح تحقيقها فى ظل الظروف الراهنة يحتاج إلى معجزة
وقد أضاف الإستعداد للإنتخابات إرباكا آخر للساحة السودانية المرتبكة أصلا بالعديد من القضايا ،وسيأتى ذلك بلاشك على حساب القضايا المصيرية التى يواجهها السودان حاليا وتتهدد بقائه كدولة واحدة ،وتحتاج إلى توحد وإتفاق بشأنها وليس إلى المصارعة حولها والمزايدة بشأنها ،فضلا عن إختلاق معارك جديدة يتم التخندق إستعدادا لمواجهتها ،وهو مايزيد الأمور تعقيدا . ويخشى أن تصبح هذه الإنتخابات فى ظل الملابسات المحيطة بها أداة لتمزيق السودان بعد أن كانت من قبل أملا فى الخروج من مأزقه الحالى ،حيث أن الشبهات ستظل تلاحقها بسبب الخلاف حول نتائج الإحصاء السكانى ،والشكوك فى التسجيل الإنتخابى ،وغيرها من الإجراءات الإنتخابية .
كما تواجه الإنتخابات فى السودان بتحفظ وعلامات استفهام اخري من بعض دول الجوار التي تخشي ان يصيب السودان ماأصاب دول مجاورة أثناء الإنتخابات مثل كينيا و زيمبابوي وغيرهما ، لذلك فان البعض نادي بتاجيل الإنتخابات وربما اشار الي ذلك آخرون دون تصريح ،أما الموقف الدولى فقد بدا منقسما تجاه تلك الإنتخابات ،حيث طالبت منظمات وجهات مراقبة دولية بتأجيلها ،بسبب غياب مئات الآلاف من الأسماء عن قوائم الإنتخابات وأسباب أخرى تتعلق بنزاهة الإعداد لتلك الإنتخابات ،وهو ما اعتبرته الخرطوم تدخلا فى الشئون الداخلية ،وهدد الرئيس السودانى بطرد تلك المنظمات ،وقد دخل لويس مورينو أوكامبو المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية على خط التشكيك فى جدوى تلك الإنتخابات ،واصفا إياها بأنها أشبه بإنتخابات تحت نظام هتلر،بينما أوفد الإتحاد الأوروبى مراقبيه ،مؤكدا عليهم عدم التدخل فى الشئون الداخلية للسودان ،وإقتصار عملهم على ضمان نزاهة وشفافية الإنتخابات ،وقد جاء الموقف الأمريكى متسقا مع الموقف الأوروبى فى التاكيد على ضرورة إجراء الإنتخابات فى موعدها للتمهيد لإنفصال آمن للجنوب على مايبدو ،رغم إقرار واشنطن بوجود مشكلات فى الإعداد للإنتخابات .
وقد تزيد الإنتخابات من حدة الإستقطابات فى السودان ،وقد يصبح لذلك تأثيرات دموية ،وخاصة فى جنوب السودان.وستكون المعركة الإنتخابية بالنسبة لأطراف عديدة معركة حياة أو موت أو معركة تكسير عظام . وستظل هناك مخاوف حقيقية من إجراء هذه الإنتخابات بدون إتفاق وتوافق حقيقى بشأنها وبشأن حل القضايا العالقة خاصة دارفور والمحكمة الجنائية ،فى ظل الأوضاع الراهنة التى يواجه فيها السودان ضغوطا داخلية وخارجية هائلة ،قد تجعل العملية الإنتخابية ليس مخرجا آمنا لأوضاعه بقدر ماتكون أداة لإشعال المرارات وتحريك الإحتجاجات ،مما يضيع على السودان فرصته الأخيرة فى الوحدة والإستقرار،ولعل المخرج الاكثر إنسيابية لأزمات السودان ، يتمحور حول أهمية الدعوة لتشكيل وضع توافقى وحكومة توافق وطنى متراض عليها تراضيا حقيقيا للعبور بالسودان الأزمة الحالية والتوصل إلى حل فى دارفور وإقامة العدالة وتنفيذ إتفاق الجنوب ،وهذا بلاشك المخرج الآمن والأقل تكلفة من الحلول التى يتطلع إليها بعض المعارضين للمؤتمر الوطنى على يد المحكمة الجنائية ومجلس الأمن أولما يتطلع له بعض أنصار المؤتمر الوطنى عبر صفقة مع المجتمع الدولى .
أسماء الحسينى