الواثق كمير
انشقت الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان في 28 أغسطس 1991، في أعقاب إعلان رياك مشار ولام أكول انقلابهما “النظري” ضد رئيس الحركة الشعبية، تحت شعار “لماذا يتوجب على قرنق أن يذهب؟”، فانقسمت الحركة لما صار يعرف بفصيلي “الناصر“و”توريت”. وتسبب هذا الانشقاق في معاناة، وأضرار، لا تحصر لشعب السودان، خصوصا في الجنوب، فوقا عن ذلك أنه عطل تطور الحركة الشعبية وتقدم الجيش الشعبى. كما عمل على تقسيم الحركة في ظل توتر إقليمى ودولي حين كانت الحاجة إلى الوحدة في أشدها، إضافة إلى تقسيمه لشعب السودان على أسس قبلية، وتحريض الجنوبيين ضد بعضهم بعضا مما أدى إلى فقدان أرواح عدد هائل من المدنيين الأبرياء. ومن جهة أخرى، استخدمت الجبهة الإسلامية، الحزب الحاكم آنذاك، هذا الانشقاق بفعالية، على كلا الصعيدين العسكري والسياسي، في حربها ضد الحركة الشعبية والجيش الشعبي. علاوة على أن الانقسام دعا الشماليين داخل الحركة للتعجب عما إذا كانت الحركة قد نفضت يدها عن هدفها الأساسي في إقامة السودان الجديد، بينما بدأ الجنوبيون في التشكك حول إستراتيجية الحركة والتخوف من أن تنكص عن الدفاع عن مصالحهم.
منذ ذلك التاريخ، ظلت الحركة الشعبية منقسمة على نفسها، تفاوض الحكومة بوفدين منفصلين، أحدهما (الناصر) يتزعمه رياك مشار، والآخر (توريت) تحت قيادة جون قرنق، لا يجمع بينهما إلا موقف مشترك من حق تقرير المصير، بينما ضعف أداء الحركة السياسي والعسكري.
خلال هذه الفترة، توصلت أطراف من جناح الناصر، تحت لافتات مختلفة، إلى اتفاقات سلام مع حكومة الخرطوم، أهمها “اتفافية الخرطوم للسلام”، في 21 أبريل 1997، و”اتفاقية فشودة للسلام” في 20 سبتمبر 1997. وبينما استمر هذا الانشقاق في استنزاف قدرات الجيش الشعبي، وإضعاف تماسكه، وتعطيل التوصل إلى تسوية سياسية عادلة.
وكأن الانشقاق والقتال بين الرفاق بات صفة ملازمة لتطور الحركة الشعبية منذ نشأتها في مايو 1983 من القرن الماضي. ففى يناير 2017 انقسمت قيادة الحركة الشعبية شمال إلى فريقين متصارعين يكمن جوهر خِلافهما، ضمن مواضيع أخرى، في قضيتين رئيسيتين:أولهما، الكِفاح المُسلح كخيار رئيس، إن لم يكن وحيداً، لتحقيق مطالب شعب إقليم جبال النوبة، يترجم فى موقف تفاوضّي مفاده الإبقاء على الجيش الشعبي لمدة عشرين سنة. وثانيها: حق تقرير المصير لشعب الإقليم حال تعذر قيام سّودان علمانى ديموقراطى موحد على أسس العدالة، والمساواة، والحرية (الواثق كمير، “تحرير الخلاف في الحركة الشعبية شمال: قُضي الأمر الذي فيه تستفتَيان”!، سودان تربيون.نت، 28 أغسطس 2017). خلافاً للصراعات الدموية السابقة على قيادة الحركة، مثلاً فى 1983ـــ 1991، التي خلفت أعداداً هائلة من الضحايا والمعاقين، يحمد لهذا الإنشقاق أنه تم بدون قتال، ولو أن الإنتقال لم يكن ليتم بدون مباركة وتأييد هيئة أركان الجيش الشعبي والقيادات العسكرية. ومع ذلك، فالدماء التي أريقت من جراء المصادمات العنيفة والإشتباكات المسلحة التي وقعت بين فصائل للجيش الشعبي فى جنوب النيل الأزرق، أفسدت مظاهر هذا الإنقسام السلمي في قيادة الحركة.
لا شك، أن خلفية هذا النزاع ترجع في الأصل إلى عودة الحرب مجددا في جنوب كردفان والنيل الأزرق، في يونيو وسبتمبر 2011، على التوالي، مباشرة في أعقاب انفصال جنوب السودان. اندلعت الحرب في وقت شرعت فيه “القيادة الثلاثية المكلفة” من رئيس الحركة في جوبا بتأسيس الحركة الشعبية وبناء هياكلها التنظيمية في شمال السودان. فتعثرت هذه العملية نتيجة لذلك مما حال دون ابتدار حوار داخلي عميق حول القضايا الخلافية التي قادت إلى تفاقمها، مع فقدان الثقة التدريجي بين أطراف القيادة الثلاثية، فانفجر النزاع بعد ست سنوات من التراكم. هكذا، تسببت هذه الخلافات في خلق حالة مُرتبّكة ومُرّبكة لكوادر وقواعد الحركة الشعبية شمال، منذ اندلاع الحرب وغياب القيادة، مما أفضى إلى انغلاق عملية صنع القرار حول القضايا الأساسية وتضييق مواعين التشّاور.
بالتالي، للفوز بفهم صحيح لحيثيات وظروف وملابسات هذا الانقسام ينبغي وضعها في سياق تناقضات الصراع الذي خاضته الحركة الشعبية نحو التوصل إلى محطة ممارسة حق تقرير المصير، بنية الانفصال، على حساب مشروع لبناء سودان جديد، ذلك الذي ظلت الحركة تبشر به عضويتها ومناصريها، كهدف رئيس، لأكثر من عقدين من الزمان. وللوصول إلى إدراك سليم وعميق لخيارات حل الأزمة الناشبة، وتحديات مستقبل الحركة، فهناك حاجة ملحة إلى قراءة هذا الانقسام وهذه الخلافات نجمت عبر سياق التطور التاريخي للحركة الشعبية منذ النشأة. فينبغي ألا ننظر إلى الحركة كهيكل تنظيمي ساكن ومتحجر، بل يجب أن نفهمها فى علاقتها بالإطار الذي نشأت وتطورت فى داخله منذ عام 1983.
حقا، للمفارقة، فقد انقسمت الحركة الشعبية مجددا، ولو أنه هذه المرة لم يكن انشقاقا عنيفا أو صراعا على سلطة القيادة، بل كان انقساما “طوعيا اختياريا”، أي بمثابة “فك ارتباط تنظيمي” بين الحركة الشعبية فى الشمال ونظيرتها فى الجنوب بعد انفصاله وتكوين دولته المستقلة. ومع ذلك، لم يمض أمر فك الارتباط هذا دون أن يفضي إلى تداعيات مستقبلية، لم تتحسب لها قيادة الحركة، أثرت سلبا على مسيرة الحركة ووحدة كيانها. فالتنفيذ الأمين لبروتوكول المنطقتين، المضمن في اتفاقية السلام الشامل، مرهون بإجراءات تشريعية وترتيبات أمنية أغفلتها تماما قيادة الحركة الشعبية من الجنوبيين في سعيها الحثيث نحو محطة الاستفتاء على حق تقرير المصير. فقد رحل الجمل بما حمل!
فوفقاً لشروط اتفاق الترتيبات الأمنيَّة، تمَّ تعريف الجيش الشعبي، بشكل لا لبس فيه، ككلٍ لا يتجزأ يتبع إلى جنوب السُّودان، بدون تحديد هوية وأصل المقاتلين، أي ما إذا كانوا ينحدرون من ولاية جنوب كردفان أو النيل الأزرق. في الواقع، المادة (20-2) من مرفق (1)، وقف إطلاق النار الدائم والترتيبات الأمنية ووسائل التنفيذ والملاحق، تقرأ: «إذا أتت نتيجة الاستفتاء لصالح انفصال الجنوب عن الشمال، يتعيَّن حلِّ الوحدات المشتركة/المُدمجة (JIUS) بعودة كل وحدة إلى قواتها المسلحة الأم لتمهيد الطريق لتشكيل قوات مسلحة منفصلة للدولتين اللتين سوف تتشكلان». لذا، كان الاتفاق صامتاً تماماً، وخلا من أي إشارة إلى مصير الآلاف من مقاتلي المنطقتين خارج الوحدات المشتركة المدمجة والمتمركزة مع وحداتهم الأم بالجيش الشعبي في جنوب السُّودان. في ضوء تفسيرات الشريكين المتعارضة لمعنى ومضمون مفهوم “المشورة الشعبيَّة” وغموض العملية السياسيَّة التي ينطوي عليها، كان ممَّا لا شكَّ فيه أن انفصال الجنوب، المتوقع، لسوف يُعجِّل بانفجار الأوضاع في المنطقتين.
باتت الكتابة واضحة على الجدران، فالانفصال لا محالة واقع. ومع ذلك، تمَّ إغفال وتجاهل دعواتنا المستمرَّة لقيادة الحركة الشعبية لعقد مجلس التحرير القومى، وضرورة حوار جاد وصريح حول هذه القضايا قبل حلول الاستفتاء. فقد كان من المُجدي أيضاً الشروع في حوار عميق ونقاش صريح حول حاضر الحركة الشعبية وسيناريوهات المستقبل. فالحركة الشعبية، التي انطلقت من جنوب السودان، كما عرفناها هي جسم واحد يجمع بين ثناياه مختلف القوميات والتيارات السياسية المؤمنة برؤية السودان الجديد، فإن هجرها كيانها المؤسِّس، أو أي من كياناتها، سينفرط عقدها كيفما انشطرت البلاد إلى جزئين أو انزلقت نحو التمزق والتفتت (قطاع الشمال للحركة الشعبية: تمثيلٌ مؤسَّسي أم إشراكٌ مظهري؟ سودان تربيون.نت، 12 يوليو 2010).
لم يحدث ذلك. فقد تم الاعتقاد، خطأ، من قبل البعض فى قيادة الحركة الشعبية بأن عقد اجتماع المجلس قد يقود إلى الانقسام داخل صفوف الحركة بسبب الانقسام في الرأي حول الانفصال بين الشماليين والجنوبيين. ولكن، خلافا لهذا الفهم، لم نقصد بضرورة عقد الاجتماع، بأي حال من الأحوال، الوقوف ضد خيار أبناء الجنوب للانفصال، ولكن للمناقشة الصريحة لكيفية الإعداد للتعامل مع التفجر المتوقع للأوضاع في جنوب كردفان والنيل الأزرق في ضوء اتفاق الترتيبات الأمنية المتعثر وغموض عملية المشورة الشعبية.
ليس الواجب السياسي فحسب، بل أيضا الواجب الأخلاقي يملي على قيادات الحركة والجيش الشعبي في الجنوب حث واقناع رفاق الأمس المتنازعين على قيادة الحركة الشعبية شمال، بوحدة وتماسك التنظيم والوقوف إلى جانبهم بغية التوصل إلي كلمة سواء، تعزز من موقفهم التفاوضي مع الحكومة. وذلك، بغرض تحقيق مكاسب ملحة للمتضررين من الحرب والمكتوين بنارها في المنطقتين، وللسودانيين قاطبة، تترجم في سلام عادل وتهيئة المسرح السياسي لتحول ديمقراطي حقيقي. هذا دين مستحق، فبدون مساهمة المقاتلين من جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وكل السودانيين في شمال السودان ممن راقت لهم رؤية “السودان الجديد”، فقدموا من أجلها تضحيات جسام، لما استطاع الجنوبيون الوصول إلى حلمهم في إقامة دولتهم ذات السيادة. فحتى الحزب الحاكم وحكومة الخرطوم توسطت في نزاع الفرقاء الجنوبيين وسهلت لهم طريق التوصل إلى اتفاق سلام، في يونيو 2018، ذلك مع أن نفس الحكومة قاتلت هؤلاء الفرقاء لسنوات طويلة، مما خلف الآلاف من الضحايا وقضى على الأخضر واليابس. فكيف تضن قيادة الحركة والجيش الشعبي في الجنوب على رفاق، لم يقاتلوها، بل كانوا، حتى الأمس القريب، تحت إمرتها؟
كانت قيادة الحركة الشعبية في الجنوب تدرك جيدا أن المفاوضات مع الحكومة هي الطريق الوحيد لوقف الحرب والتوصل الي اتفاق سلام. ذلك، خاصة وأنه منذ النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي بدأت مساعي احلال السلام بالبلاد تأخذ زخما تحت رعاية “الإيقاد”، على أساس “إعلان مباديء الإيقاد”، 1994. وبالرغم من تكثيف الحرب بين 1998 و2002، تضاءلت آفاق واحتمالات النصر العسكري أو السياسي الحاسم من جانب واحد على الطرف الآخر، وهذه حقيقة أصبحت مفهومة بشكل تام من قبل الحركة الشعبية، والحكومة أيضا. في الوقت نفسه، ارتفعت قيمة قبول بعض الحلول التوفيقية بشكل كبير، لدى كل منهما. من ناحية أخرى، أدت مجموعة من الأبعاد الداخلية والعوامل الإقليمية والدولية، بما في ذلك ظهور السودان كمنتج للنفط، إلى زيادة إمكانية التوصل إلى تسوية تفاوضية، تجسدت في اتفاقية السلام الشامل، يوليو .2005وفوق ذلك كله، كان الهم الأكبر الذي ظل يشغل بال الزعيم الراحل، جون قرنق، هو إعادة توحيد الحركة وتماسك جيشها، ليس بغرض إنجاز نصر ماحق على قوات الحكومة، بل لدعم وتعزيز موقف الحركة التفاوضي مع الحكومة. وهكذا، لم يكن في مقدور جون قرنق الحصول على مكاسب عديدة عبر هذه الاتفاقية بدون نجاحه في إعادة توحيد الحركة بعد عودة القيادات المنشقة عنه، وعلى رأسها رياك مشار ولام أكول، في 2002 و2003.
بالرغم من اختلاف الظروف الموضوعية والذاتية المحيطة بالحركة الشعبية شمال في الوقت الراهن، عن تلك التي سادت في بدايات الألفية الثالثة، إلا أن المراقب للواقع السياسي الداخلي والإقليمي والدولي لا يفوته أنه لا يتوفر خيار واقعي آخر لوقف الحرب غير التسوية السياسية عبر التفاوض مع الحكومة. فقد تغير المشهد الإقليمي والدولي بشكل كبير ويبدو أن العالم قد نفذ صبره وسئم من الحروب والاقتتال، مفضلا التسوية السياسية عن طريق التفاوض. ومع ذلك، تظل وحدة الحركة الشعبية شمال هي المفتاح وكلمة المرور لتحقيق أعظم قدر من المكاسب السياسية والإقتصادية لأهل المنطقتين المتضررين، فقد ظلوا وقودا وضحايا لحرب مدمرة منذ منتصف ثمانيات القرن المنصرم.
لا شك، أن قيادات الحركة الشعبية في الجنوب متابعة لقضايا الخلاف ولا شك أن لديها من القدرات والتجارب المتراكمة ما يعينها في إعادة توحيد الحركة في الشمال، وجمع الفرقاء المتنازعين حول موقف تفاوضي مشترك، خاصة فيما يلي قضيتي الخلاف الرئيستين: حق تقرير المصير واحتفاظ الجيش الشعبي بقواته لفترة انتقالية على مدى عقدين من الزمان. فالقيادة في الجنوب تدرك جيدا إمكانية وواقعية قطع التجربة التاريخية لجنوب السودان، ممثلة في هذين المطلبين، ولزقها هكذا بحذافيرها على منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق! فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إعادة إنتاج “نيفاشا”! على كل، فعلى قيادة الحركة، من الطرفين، وضع وحدة الحركة وتماسكها، مع التوافق على موقف تفاوضي موحد، في قمة الأولويات من أجل سلام عادل، أو للعب أي دور مستقبلي تتطلع إليه الحركة الشعبية شمال في السودان. وهذا، بالضرورة يستدعي توحيد الكيانات الثلاثة، جنوب كردفان والنيل الأزرق وقطاع الشمال، فى هيكل تنظيمي موحد ومتماسك، خاصة وأن تحقيق هذا الهدف ظل قيد الانتظار منذ تأسيس الحركة الشعبية فى 1983. ويشكل الوضع الذي تعيشه الحركة حاليا اختبارا حقيقيا للقيادتين المتصارعتين فى كيفية مراجعة مسيرة الحركة فى كل مراحلها والاستفادة من تجاربها ما قبل انفصال الجنوب وما بعده، ومنذ مراحل النضال الأولى، والتخطيط لتجهيز كوادرها لمرحلة ما بعد الكفاح المسلح، وإعدادهم للانخراط في النشاط السياسي التنافسي مما يمكنهم من المشاركة الفاعلة في إدارة مناطقهم بعد وقف الحرب.
حقا، لقد دقت ساعة الوحدة، ويأمل المناصرون للحركة، وعموم المتطلعين إلى السلام العادل في البلاد، في أن تنتهز قيادات الحركة الشعبية في الشمال والجنوب، على حد سواء، هذه الفرصة والحذر من إهدارها كسابقاتها!
تورونتو، 30 أكتوبر 2018