السودان.. أرقام مُذهلة ورؤية مفقودة

ضعف الرؤية… أحد التعابير المستعملة في الارصاد الجوية، يَنطبق هذا التعبير بشدة على حالة السودان منذ استقلاله عام 1956 على الاقل.

النُخب السودانية وحدها تتحمل مسؤولية هذا الضياع. الرؤية والطريق، طريق الديمقراطية والمشاركة الصحيحة وليس طريق الانقلابات والمؤامرات والاستبعاد.

الارصاد الجوية عموماً متشابهة مع الحالة السودانية في مجال استعمال الارقام، فبدون ارقام تشير الى درجات الحرارة، وارقام تشير الى معدلات سقوط الامطار وارقام تشير الى الرطوبة النسبية، وارقام تشير الى مستوى الرؤية لا يبقى للارصاد الجوية معنى.
هذا هو حال السودان، بدون ارقام من الصعب فهم حالته وأين يقف، والى اين يمكن ان يتجه ويَصل.

قبل التخلي عن جنوبه، كانت مساحته مليوني كليومتراً مربعاً، أي ضعف مساحة مصر. وطول نهر النيل وفروعه المارة في السودان تصل الى ثلاثة الاف كيلومتر، ومجموع المسطحات المائية النهرية فقط بخلاف البحيرات تصل الى 25.000 كيلومترا مربعاً، أي اكثر من مساحة فلسطين التاريخية، ومجموع الانهار التي تجري به وترفد نهر النيل 12 نهراً. سبعة من ولاياته الـ 26 اسماؤها مرتبطة بالمياه، اعالي النيل، البحر الاحمر، البحيرات، الجزيرة، النيل الابيض، النيل الازرق ونهر النيل.
تعادل مساحة اراضي السودان الزراعية نصف مجموع الاراضي الصالحة للزراعة في الوطن العربي، الى الحد الذي يطلق عليه أن بإمكانه ان يكون سلة غذاء العالم.
اضافة لذلك، فان السودان غني بالموارد الطبيعية غير الزراعية، كالبترول والحديد والذهب والنحاس والزنك والكروم، ومع ان 85% من انتاج النفط موجود في جنوب السودان، فان جمهورية السودان ما زالت قادرة على تصدير نصف الكمية المتبقية.
اذن، نحن امام قطر شاسع وغني بالموارد الطبيعية، اراضي زراعية خصبة، ثروة حيوانية، ثروة سمكية، غابات، مياه وفيرة وثروة معدنية.
حجم الناتج المحلي الاجمالي وصل الى 100 مليار دولار عام 2010 بمعدل 2300 دولار نصيب الفرد، وهو معدل عال نسبياً، الا انه رقم مُضلل، فمعدل البطالة يصل الى 20% في بلد به هذه الموارد، وللدهشة، فان معظم السكان يعتمدون على زراعة الكفاف التي تبقي 40% من السكان تحت خط الفقر؟! وتشير التقارير العالمية الى ان بيئة السودان الاستثمارية تضعه من ضمن الاقطار التي تصعب بها ممارسة الاعمال والانشطة الاقتصادية للمستثمر المحلي كما هي للخارجي.
منذ بضعة عقود لم تتغير خريطة الوطن العربي الا عام 2011، بعد ان تخلى السودان عن جنوبه لصالح استقلال جنوب السودان، الخريطة التي نعرفها والتي تمتد على اجزاء واسعة من قارتي اسيا وافريقيا، لم تعد كما هي، الخريطة التي تستعمل كشعارات لبعض الهيئات كالبنك العربي مثلا، تقلص حجمها. ولم تعد كما هي، السودان الدولة الوحيدة اتي قامت انفرادياً بتغيير خريطة الوطن العربي.
في عصر البشير، ليس خريطة الوطن العربي وبالتالي السودان قد تقلصت، دماء غزيرة سالت في دارفور وفي شرق السودان اضافة للدماء التي انهمرت في الجنوب.
اندلعت الحرب في دارفور عام 2003، وفقط في 2009 صدرت مذكرة المحكمة الدولية باعتقال البشير على خلفية الانتهاكات التي جرت في المنطقة. رغم السنوات ما زالت خلفيات الصراع في دارفور غير مفهومة كما ان اطرافه غير معروفة عموماً، الحرب الدامية والتهجيرية لم تحدث بين فرقاء بينهم اختلافات عرقية او دينية، ومع ذلك شهدت المنطقة حضوراً دولياً كبيراً ولافتاً عبر منظمات الامم المتحدة. يبدو ان المعارك والاثارة الاعلامية كانت تدار في مكان بينما يتم تحصيل الثمن على بعد مئات الاميال؟ لم تمض قرابة سنة حتى استقل جنوب السودان وتوقفت الحرب في دارفور دون مكاسب لأي فريق، دون غالب او مغلوب، ولم تعد المحكمة تُطالب بالبشير؟. مثل معادلة جبرية، لا يمكن حلها الا بتعريف واضح لجميع مجاهيل المعادلة.
استقلال جنوب السودان، يبدو وكأنه ثمناً لبقاء عمر البشير في السلطة وعدم تقديمه فعليا للمحكمة الدولية. دفع البشير الثمن مقابل الصمت عليه.
منذ انتهاء ولاية الرئيس الاول “ابراهيم عبود” لم تعرف السودان الإستقرار، ما يميز انقلاباتها المتعددة، هو ما يرافقها من انقلاب هيكلي شامل، فالزعامات المعارضة تتحول الى المَنافي واللجوء السياسي، لا مكان للمعارضة داخل الوطن، وعندما تعود يكون نظام الحكم قد سقط وبدورهم فإن رموزه يصبحون اللاجئون السياسيون الجدد.
عندما تنظر الى أسماء الزعماء السودانيين على مر السنوات، فإنك تتفاجأ من مدى الحكمة والرصانة التي يتمتع بها كل واحد منهم، سوار الذهب، الصادق المهدي، الترابي والميرغني وغيرهم كثيرون، اذن لماذا تغيب الرؤية عن كل هؤلاء ولا يروا في السودان إلا صحاري كردفان وأدغال الجنوب، ولا يرو في الجبال الشاهقة في دارفور سوى ميداناً للقتال الداخلي؟.
بالطبع، فان وجود المؤامرة دوماً هو حقيقة، ولكن لماذا يُترك للمؤامرة ان تحقق اهدافها وليس الاهداف الوطنية الناتجة عن رؤيا صحيحة لإمكانيات وقدرات البلد؟
ثورات الربيع العربي احاطت بالسودان من الشمال والشمال الغربي والشمال الشرقي والشرق، ومع ذلك بقي في منأى عنها، ما الذي يتميز به عمر البشير وغير موجود في القذافي او مبارك او بن علي، فهو في السلطة منذ 15 عاماً وله من المعارضين أكثر من أن يُعد، معظم شعبه ما زال بإن تحت خط الفقر او قريباً منه.
خلال سنوات حكمه ما الذي انجزه الرئيس السوداني الذي انقلب على الحزب الذي اتى به للسلطة وحَوَل اعضاءه الى مُطاردين في الخارج والداخل او في المعتقلات.
على الارجح فان الشعب السوداني وصل الى حالة من عدم المبالاة التي يفسرها النظام وكأنها قبول به ورضاء عنه، ربما من حق السودانيين ان لا يكترثوا بالربيع العربي فهم مشغولين باربع قضايا اساسية:
• الحرب في الجنوب والتي قادت الى فقدان 20% من مساحة البلاد.
• حرب دارفور والتي تقدر خسائرها بنحو 300 الف قتيل.
• تدني مستوى المعيشة والخدمات وارتفاع نسبة البطالة.
• مطاردة المحكمة الدولية لرئيس الدولة بتهم الجرائم ضد الانسانية.
عدم مبالاة الشعب السوداني، على اغلب الظن ليس تقديراً للبشير بقدر ما هو اليأس من غيره، فلو قامت ثورة للربيع العربي في السودان فَمن يضمن بأن لا يكون البديل اسوأ من البشير.
إنها مسؤولية القيادات السودانية كافة، أن تقنع الشعب السوداني بان بإمكانه حَسم أمره من خلال قيادة حكيمة، قيادة لا ترى في الانقلابات الوسيلة للوصول الى الحكم، قيادة لا ترى في المعارضة عدواً يتناقض معها، قيادة تستطيع كسب ثقة ومَودة مُكونات شعبها ليس في الخرطوم وام درمان فقط، بل في دارفور وفي الجنوب وفي النوبة.
من المؤكد ان الاحزاب السياسية السودانية قد فشلت عبر مسيرتها خلال العقود السبعة الماضية.
الشعب السوداني بحاجة الى حركة من نوع مختلف، فآخر ما يحتاجه هو ثورة ربيع عربي، فهي ستوصله الى الدرك، المطلوب هو حراك مجتمعي مدني، يَعتمد النقاش والحوار والتحليل والتفكير والاستنتاج، السودان بحاجة الى خطة استراتيجية شبيه بالخطط الاستراتيجية للمشاريع، خطة تُحلل الظروف والامكانيات، نقاط القوة ونقاط الضعف، الفرص والتهديدات، وتَقترح البرامج والنشاطات اللازمة. وبعكس الخطط الاستراتيجية المعتادة، والتي تُعد اولاً ثم تبحث عن اموال لتنفيذها، فان الخطة الاستراتيجية السودانية معكوسة، حيث تتوفر الاموال ولكن لا توجد رؤية حول كيفية صرفها، ولا توجد رسالة حول كيفية تنمية مصادرها. النُخب السودانية وحدها تتحمل مسؤولية هذا الضياع. الرؤية والطريق، طريق الديمقراطية والمشاركة الصحيحة وليس طريق الانقلابات والمؤامرات والاستبعاد.
المصدر: القدس العربي
http://www.alquds.com/news/article/view/id/468092

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *