الحركة الاسلامية والإنقلاب العسكري الجديد
صلاح شعيب
إن آخر دليل يوضح قمة فشل الحركة الإسلامية هو هذا الإنقلاب العسكري الجديد الذي أعلنته الحكومة بالأمس وأدى إلى اعتقال ضباط ومدنيين ينتمون إليها. ولعل هذه هي المحاولة الثانية التي تكشف عن قدرة الإسلاميين على معالجة إخفاقهم عبر خيانة بعضهم بعضهم بدلا عن الشورى المزعومة. وكلنا نذكر أن د. الحاج آدم، نائب الرئيس الحالي، تورط في المحاولة الأولى وطاردته السلطة سريا وعبر الإعلان في الصحف بوصفه أحد المجرمين. وسؤالنا هو، إن لم يكن هذا الإنقلاب العسكري، والذي جاء عقب يومين من ختام مؤتمر الحركة الصوري، أكبر دليل على فشل إسلاميو السودان فما هي الحجة الأخرى التي تبرهن على موات المشروع الحضاري، ومحنة الإسلاميين، ودخول البلاد في نفق مظلم؟.
الحقيقة أنه ليس من الغريب أن تنحدر الحركة الإسلامية إلى هذا الدرك السحيق. فالبدايات الخاطئة لا بد أن توجد النهايات الزائفة كما وصف الدكتور الطيب زين العابدين مؤتمر الحركة الأخير الذي كلف المليارات من مال الشعب. ونحن لا نستند في الحكم على الحركة اعتمادا على ما قال زين العابدين والناقمون عليها من عضويتها فحسب، فيكفينا المثال الإسلاموي الذي هو بائن ببؤسه، وتخثره، أمام كل صاحب بصيرة وتعقل. ولكن حين تأتي شهادة الاعتراف من داخل البيت فإنها تعضد إقامة دليلنا على أن الحركة الإسلامية قدمت أسوأ نموذج للإسلام في تاريخه.
فدعاة إقامة الشرع الذين يسكتون عن الجهر بحقيقة سوء إدارة الدولة، وتدهور ما تقدمه من خدمات معيشة، وأمن، وصحة، لم يبرهنوا على علاقة تضبطهم مع الله..فكيف، إذن، تنضبط علاقتهم مع من جثموا فوق صدورهم؟.
إن الذين يسكتون عن الإجرام الممنهج الذي تفعله عصابة (موقف شندي) التي تختطف أبناء وبنات الشعب نهارا جهارا ليعذبوا هناك بأقسى أنواع التعذيب البدني والنفسي يحتاجون إلى شفاء الضمير. والحقيقة أنه قبل أن يحدثنا الإسلاميون أمثال الحبر يوسف نور الدائم، وعبد الجليل النذير الكاروري في التلفزيون عن مآثر السلف الصالح عليهم أن يحدثونا أولا عن علاقة الواقع الذي صنعوه بما حققه بعض السلف من عدل ومساواة. إنه لا ينكد علينا شئ مثل رؤيتنا الحبر وصحبه يجلسون متخمين بوجوههم المفعمة بالدعة والراحة ليعظون شعبا سيروه بهياكله العظمية، بينما هم، وأقاربهم، وأبناؤهم، يتطاولون في البنيان، ويقودون العربات الفارهة، ويضاربون بالدولارات في السوق.
إن الحيثيات التي نحاكم بها الحركة الإسلامية يصعب شمولها. ولكنها تتنوع بتنوع حقول العمل التي تمكنت منها وأحالتها إلى مشاريع تعيش، وثراء لعضويتها، ومصدر استقطاب للذين يبيعون ضمائرهم. ففي مجال الحكم لم تثبت الحركة فشلها في شفافية إداراتها لمرافق الحكم، ومراقبة القطاع الخاص فحسب، وإنما جعلت كل هذه الحقول كغنائم حرب لمنسوبيها الذين تمكنوا دون غيرهم في وظائف الدولة بلا أهلية، أو كفاءة، أو خبرة، أو تنافس شريف.
إن الحركة استولت على حقول الاقتصاد والتجارة لتفسد فيها عضويتها، أما في مجالات الفكر والثقافة والإعلام والفنون فإن كل ما ينتج عبرها هو فقر الخيال، وضعف المهنية، وعجز التجديد والبناء فوق المنجز السوداني. وفي مجال الاقتصاد الصناعي والزراعي فقد تحطمت كل المصانع التي تملكها الدولة أو تسهم فيها بنسبة ولم تنشأ مصانع جديدة لتسد النقص في بطالة العاصمة والأٌقاليم. وبالنسبة للمشاريع الزراعية التي كانت البلاد والعوالم تعتمد عليها فقد أفسدت وبيعت لمستثمري الإسلام السياسي من السودانيين وغير السودانيين. لقد انتهت مشاريع النقل النهري، والخطوط الجوية والبحرية، والسكة الحديد، ومصانع النسيج، ودار الهاتف، وأخيرا وليس آخرا مشروع الجزيرة. ولا ننسى أن أموال البترول لم تذهب إلى مشاريع التنمية، أو إصلاح حال الخدمات الصحية، والتعليمية، أو تطوير البنى التحتية، وإنما إلى الحسابات البنكية لعضوية الحركة الإسلامية. بل ذهبت هذه المليارات من الدولارات إلى سماسرة السياسة والمؤلفة قلوبهم من الحزبيين المعارضين.
وفي مجال التربية والتعليم فلم يزد المشروع الحضاري تقوى السودانيين بل اضطر بعضهم للنفاق والفساد المالي والأخلاقي ليعيش في واقع الفساد المفروض. أما التعليم الحكومي فقد صار فقيرا في مواده وحول الإسلاميون واقع التعلم إلى حقل تكسب لعضويتها التي استثمرت في كل مراحله. ويكفي أن ندرك أن ترتيب جامعة الخرطوم الرائدة قفز إلى ما بعد الرقم خمسمائة في التصنيف العالمي الأخير الذي أوردته الصحف.
وإذا أتينا على سيرة العدالة فقد إنحطت قيم العدل والتقاضي وأصبح فقه السترة هو الذي يجنب المسؤوليين من الجرائم بكافة أنواعها بينما قرر الإسلاميون في مساهمتهم الفقهية الجديدة تقنين الحصانة لمسلمين دون سواهم. هذا الوضع السلطوي المنمسخ أباح لكوادر الجيش، والامن، والدفاع الشعبي، اقتراف الجرائم دون أن يغمط لهم جفن ما دام أن الحصانات تدعهم في مأمن.
وهكذا تعطلت ساحات القضاء وصار إفلات السماسرة الفاسدين، والمختلسين للمال العام، ومرتكبي جرائم القتل، والاغتصاب من العقاب هو جوهر القاعدة الفقهية. لقد أفرغت سوح العدالة من محتواها وحل محلها قضاة مؤدلجون لا يخافون من الله بينما تسللت مشاريع الثراء لقادة القوات النظامية الذين صاروا استثماريون في بلاد القفر الأمني والفقر الأخلاقي. وإذا سألت عن حال الدبلوماسية فإنها صارت مرتعا للآيديلوجيين الذين أقصوا المهنيين وبالتالي أصبحت سفارات السودان بلا هدف غير تعييش عضوية الحركة. وعليه صارت السياسة الخارجية انعكاسا لواقع السياسة الداخلية ودالة على فقر الإسلام السياسي وخدمته لإستراتيجيته لا مصلحة الوطن. ولعلها هي السياسة الداخلية التي جلبت الجنود الأجانب للتدخل في مأساة دارفور التي لا تحتاج إلى تعريف، وهي ذات السياسة التي فصلت الجنوب وخلقت جنوبا من لظى لمواطني جنوب كردفان والنيل الأزرق.
أما موقع الحرية والديموقراطية في خطاب وممارسة الحركة الإسلامية، طوال سنوات الحكم، فقد ظل شاغرا. ولم يجرؤ كاتب واحدا على التساؤل عن ما يمكن أن يقدمه هذا النوع من الإسلام من مساهمة غير القمع الفكري، والكبت الإعلامي، والثقافي، وسجن، وتعذيب، وقتل المخالفين في الرأي.
إن مافعله خطاب الحركة الإسلامية وممارستها القبيحة كثير وأكبر من أن يحصى عبر هذا المقال. ولكن دعنا نقول إن شهادة مؤسسها فيها وبقية الناقمين عليها من بعض زملائه وأبنائه لهو أكبر دليل على خراب الفكرة، وعجزها، ومسخها لكل الذين ما يزالوا ينتمون إلى مؤسساتها والسلطة.
الواقع أن الإسلام أعظم من أن يختزل في هذه النسخة الكئيبة التي صدرها لنا تنظيم الحركة الإسلامية. ولعله من العسير أن تكون هذه الممارسة التي اغتصبت الدولة، غصبا عن سكانها، نموذجا طيبا يمكن أن يتباهى بها إسلامي أمام العالمين، أللهم إلا إذا كان مخبولا، أو يعيش في غيبوبة فكرية. ولا نظن أن كليات ميراث رسولنا الكريم في الحض على الخلق القويم، والعدل، والمساواة، وغيرها من المبادئ التي طبقها في حياته، هي عين ما حققته الحركة الإسلامية بإسم الإسلام، وما تزال تصر على ذلك.
لقد جاء مؤتمر الحركة الاسلامية لا ليفرز أصواتا من داخلها، تبقى فيها بعض الصدق، لتقول بضرورة الاعتراف بأن الاسلام شئ والنموذج الذي عايشناه في العقدين الاخيرين شئ آخر ولكن خاب الفأل.
فالمؤتمر الذي حضره إسلاميون من دول ما يسمى بالربيع العربي فشل في إبراز تلك الأصوات التي تتداول بصدق وحرية عن مأساة الحركة والفرد الإسلامي المنتظم فيها وانعكاس ذلك على حيوات السودانيين. وكيف لا وجميع الذين ظلوا في الحركة الاسلامية صمتوا عن كل الجرائم والموبقات التي ارتكبها التنظيم، ولذلك فمن مات ضميره بالمرة فلا يوجد ما يحمله على إيقاظه.
لقد دل المؤتمر الثامن على أن الفكرة الاسلاموية التي أفرزت حركات الإسلام السياسي في المنطقة هي للدنيا وليست للدين. فالمرشدان محمد عبد البديع وراشد الغنوشي اللذان يكذبان أمام شعبيهما بأن التنظيمين اللذين يقودانه يؤمنان بالديموقراطية والحرية يأتيان إلى الخرطوم لدعم الاستبداد بالحضور التشريفي والرأي المبارك. إنهما يدركان، وآخرون مثلهما حضروا ممثلين لأقطار أخرى، أن الظروف التي قادت شعبيهما للثورة هي ذات الظروف التي ظل يكابدها الشعب السوداني. فالغنوشي لا يرى بأساً في مناصرة المستبد بإسم الإسلاموية بدلا عن مناصحته. بينما لا يرى عبد البديع من مشاحة في عون زملاء الآيديلوجيا، عوضا عن عون الحق. والحق هو أن الله خلق الناس سواسية في المجتمع ليتمتعوا بالحقوق والواجبات التي يتواضعوا عليها برضا.
حقا إن السلوك السياسي لمرشدي مصر وتونس لا يختلف عن سلوك قادة الإسلام السياسي في السودان، أو أفغانستان. فمنبع الفكر واحد، وهو الفيروس الذي سيقضي على النظام الداخلي للمجتمعات الإسلامية عبر قصر الحرية لذاته وتقسيم المجتمع إلى مسلمين وإسلاميين لما ينطوي هذا التفريق من مكر وخداع.
وما تجربة السودان وايران وأفغانستان إلا البداية التي ستواجه كل البلدان التي يتسلط عليها الأخوان المسلمون، سواء بالديموقراطية أو أنظمة الاستبداد. وقناعتنا أن الخطاب الإسلاموي الموحد للحركات الاسلامية سيقود حتما إلى ذات النتيجة التي توصل إليها الإسلاميون السودانيون، ولكنهم يكابرون. فالإسلام السياسي ينتهي بمعتنقه إلى النكوص عن المرجعية الدينية بمسوغات تمكين التنظيم في الأرض لخدمة الإسلام، وبالتالي يصير كل ما يناقض الدين موظفا لخدمة الدين نفسه. ومع ذلك فإن الفشل الحتمي سيكون مصير هؤلاء الذين يخدمون الله بالخبث، ذلك برغم أن الله طيب ولا يقبل إلا الطيبات من الأعمال. وربما ينطرح هنا السؤال حول جدوى عبادة الإله الذي ييبيح لبعض عباده التعذيب القتل والفساد لعباد آخرين كمبرر لخدمته؟
حقا أن الله منزه عن كل المعاصي الإسلاموية التي تهدف إلى التمكين السياسي ذي المسحة الدينية. ولذلك تظل كل خطابات وممارسات الإسلاميين وضعية الطابع مهما تدثرت برداء الدين. فالتأويل الفج الذي تقدمه الفكرة ربطا لشؤون السياسة، والإقتصاد، والتجارة، والأمن، والزراعة، والثقافة، بالدين إنما هو تصور تأويل عقلاني للدين، وليس بالضرورة أن يتطابق مع الغاية الإلهية المضمنة في النصوص. ويبقى القول بضرورة تطابق هذا التأويل هو تأليه للخطاب والممارسة الإسلاميين. كما أن القول بأن التأويل الإسلاموي لتسييس الدولة ليس إلا مجرد إجتهاد لا ينفي عنه الخطأ وبالتالي يمكن أن يفارق الغاية الإلهية، وهذا ما حدث للمشروع الإسلاموي الذي عجر عن الحفاظ على وحدة السودان، ويسهم الآن في التخلص عن بعض الأقاليم.
فتجربة الحركة الإسلامية في السودان، والأمر هكذا، وضعتنا أمام سياسيين طرحوا أنفسهم كآلهة وهم وحدهم الذين حق لهم تسيير شؤون العباد في السودان بالاستبداد. يحدث هذا برغم أن مجلس شوراهم الذي يضع السياسة العليا للبلاد غير ملزم بإستشارة إتجاهات إسلامية أخرى. إنهم أوصياء على الشعب وإلا ما قيمة مجلس الشورى إن كان حقا يتشاور مع عضويته حول إستراتيجية قيادة البلاد؟
الثابت أن الحركة الإسلامية تفتقد للديموقراطية داخل كيانها من جهة أخرى. فما تسمى بهيئة الشورى قاصر أمرها على المتنفذين فيها. ولقد اشتكى قادة إسلاميون في المؤتمر الأخير من الطبخ الانتخابي الذي مارسته القيادة للإبقاء على سيطرة الدولة على الحركة رغم أنف العضوية. ومن أين تستمد الحركة قيم الديموقراطية وخطابها عن الالتزام بها إنما هو صوري لعضويتها ولعامة الشعب. وحقا هو الإسلام السياسي الذي يحاول عن طريق مرشديته وهيئته الشورية الكفر بالديموقراطية على أعتبار أنها ليست من أصول الإسلام وتنظر إليها كتجربة منفرزة من الفكر المسيحي الغربي، ولكن لا بأس إن كانت توصل الإسميين إلى الحكم.
هذا هو أس الأزمة التي دخلت فيها البلاد بسبب من التفكير التأصيلي الذي لا يقيم وزنا للآخر ويكفيه فقط تشاورات أهل الحل العقد الذين هم الرأسماليون الآن في الحركة والبقية مجرد باحثين عن معاش.